[esi views ttl="1"]

وداعاً شاعر الثورة.. صالح سحلول

يا لها من حَياةٍ توزّعت على شاهق هاويتين، وتقسّمت على ذؤابة شُفرتين! ولَعَمري، أنها غايةٌ شريفةٌ تتقطّع دونها عزائم الشعراء وتشرئبّ صوب ضوئها أعناق الرجال .

وقد كانت حياةُ هذا الشاعر العاصف منذ بداياتها مرتقىً صعباً، واختياراً مُرَّاً، واختباراً قاسياً قساوةَ بيئته التي تَشرّب أجمل ما فيها ؛ كرمَ الروح، وشجاعةَ الموقف، وأضاف إليها رؤيةَ العصر ورؤيا الشاعر. إنه يلتفت الآن إلى ماضيه راضياً، ضاحكاً ! وقد أفنى معظم سنّي عمره المديد في اللهب المقدّس أي في مجمرة التغيير الهائلة الصاهرة التي غيّرت مجرى التاريخ، وأجْرت الأنهار الزاخرة بالجديد والأجد .

صالح سحلول، جبلٌ شعريٌّ مسلول في فضاء هذه البلاد، وعاصفةُ حريقٍ في ليل هذه الوهاد . ما أجمله الآن هانئاً راضياً عن رحلته المضنية الطويلة . هذا غبارُ معاركه وقد فتَّق براعمَ الأمل، فما كذب الحلم، وهذا لهبُ حرائقه وقد شقّق جدارَ الليل، فما كذب الضوء.. أيها الشاعر المقاتل.. هذا وطنُك يحيّيك، وهذا شعبُك يردّ التحيّة.. كبيرةً تبلغُ سماءَ أجنحتك، حارةً تندفق في حرارةِ قلبِك .

مع ديوان الشاعر الكبير

عندما تفرغ من قراءة ديوان صالح سحلول الذي ضم أعماله الشعرية بين غلافين، ستكونُ قد قرأتَ عناوينَ نصفِ قرن في صراع التثوير والتغيير والتنوير في اليمن. وإذا كنت من جيلي الذي لم يعش معظم هذه العناوين، فإنك ستشعر بالتاريخ يجري في عروقك، وبالألم يندفع في قرارة قلبك .

ثمّة شاعرٌ يعيدُكَ إليك من شرود أيامك، ونسيان بداياتك. وإذا كان للأرض أن تحكي، وللجبال أن تروي قصّةَ شاعرٍ وثورة، شاعرٍ وشعب، شاعرٍ وقضية، فإن صالح سحلول يقف ذروةً ضخمةً متميزة على جبل الشعر الشعبي في اليمن .

صحيح أن ذُرىً أخرى تقف إلى جانبه، لكنّ طول تجربته، واتساع إهتماماته، ومدنيّة رسالته وتوزّعها على محاور كثيرة لم يطرقها غيرُه مثل محور المرأة مثلاً وهو الشاعر الطالع من أغوار البداوة، وأهوال العزلة في ريف اليمن.. كلُّ ذلك يُحسب لتجربته الفريدة الشهيرة .

إننا إزاء شاعرٍ نَذَرَ شعرَهُ كلّه بعد أن نذرَ حياته للوطن وقضاياه، ولستُ أقول ذلك من قبيل المبالغة، وخاصة أن صفحات الديوان بين يديك !

إنّ رأس هذا الشاعر كان مطلوباً في معظم جولات الصراع السياسي والإجتماعي والثقافي في اليمن وخاصةً في ستينيات القرن العشرين، أي، بعد قيام الثورة اليمنية في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م والرابع عشر من أكتوبر 1963.

إنّ هذا الديوان ليس مجرّد ديوان شعر فحسب، لقد كانت قصائدُهُ ذات يوم وزارة إعلامٍ كاملة بمحطاتها المرئية والمسموعة والمقروءة ! وفي أحيان كثيرة كانت صواريخ حارقة في جبهات القتال دفاعاً عن الثورة والجمهورية .

كان الشاعر الكبير صالح سحلول وما يزال – محفوظاً إسماً وشعراً في ذاكرة اليمن وأبنائه منذ نصف قرن على الأقل حتى صارت قصائده أمثالاً سائرة عبر عشرات السنين .

* * *
قد تكونُ غربةُ الشاعر في وطنه أواخر ثلاثينيات القرن العشرين قادته إلى الخروج من اليمن وإلى غربة الحرب العالمية الثانية التي كانت ترجّ العالم حينها، فآثر الشاعر العودة إلى الوطن ويكون تأثير تلك الإطلالة على العالم التي دامت سنتين قد فعلت فعلها في روح وعقل الشاب الذي كان قد تجاوز لتوّه العشرين من عمره المديد . ولعلّ المقطوعة التالية كانت إحدى نتائج تلك الرحلة، وهي رسالة بعثها الشاعر مع الطير المسافر إلى الإمام يحيى:

بالله ياطير ياناشر إذا كنت عازم
صنعا مَقَرّ الإمام

قل له لقد اهلكَتْنا وانهكَتنا المظالم
ظلم الرعايا حرام

قد اكثر الناس باعوا مالهم بالغرايم
ومن هرب لا يلام

من باطل اهل المسابح والتّوز والعمايم
وبايعين الذمام

فالذيب ظالم ومن يسترعي الذيب ظالم
وكلنا في ظلام

إنّ بُرعم الشاعر هنا يُشرق بضوء الفجر القادم، وأحلام التغيير القادمة . ومن مطلع الأربعينيات إلى مطلع الستينيات، مرت سنواتٌ ثقيلةٌ بطيئة على الوطن والشاعر معاً، حتى أشرقت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 والرابع عشر من أكتوبر 1963.. فإذا بالشاعر يغدو صوت الثورة والتغيير .

الحمد لله تحرّرنا
جميعنا بعد ما ثرنا

ووحّد الله كلمتنا
من الحديدة إلى بيحان

بالله يالعاصمة صنعا
هل كان فيك الوفا يرعى

أو كانت الرجعية تسعى
لخيرنا أو صلاح الشان

هل كان في أرضنا دكتور
أو شبه قانون أو دستور

أو حق مشروع للجمهور
أو حكم للشعب أو سلطان

ما كانت إلا عبودية
وبربرية ووحشية

وشافعية وزيدية
وتفرقة في بني قحطان

ما كان في ارضنا تنظيم
ولا مدارس ولا تعليم

ما كان فيها سوى تحطيم
يحارب العلم والعرفان

ما كان في أرضنا معهد
ولا مصانع بها توجد

ولا طريق كان يتعبّد
ولا تطوّر ولا عمران

فعن جنوب أرضنا المحتل
لا بد من الانجليز يرحل

وينتهي من معه يعمل
من السلاطين والأعوان

* * *
هكذا يعلن الشاعر مشروعه الحضاري ببساطةٍ حكيمة، فهو يتحدث عن الوحدة الوطنية والطبيب والقانون والدستور، والمدارس والتعليم، والمصنع، والطريق والتطور... الخ، كل ذلك في مقطوعة واحدة وفي الأيام الأولى للثورة! بل يختمها بوجوب خروج المحتل الإنجليزي من جنوب الوطن .

ولعل مقطوعةً أخرى أن تكون أشهر ما قيل شعراً بعد الثورة مباشرة، ولقد ردّدها الخاص والعام، الرجال والنساء في كل أنحاء اليمن . لقد كانت فوّهات المدافع أهون لدى أعداء الثورة وأرحم بهم من أبياتٍ صارت أمثالاً على كل لسان.

يا شعبنا أرضك تريد انتباه
الرجعية قلّت حياها

تريد أن تسجد وراها الجباه
ما بانصلّي شي وراها

مهما تؤذن أو تقيم الصلاه
ملعون من صلّى معاها

يا شعب قل للبدر ما عاد نباه
يعزّ نفسه من هثاها

* * *
بل أنه في مقطوعة أخرى مبكرة أيضاً يُعلن أن الشعب أصبح جمهورياً من عدن حتى جُماعه، ولاحظ هنا أيها القارئ العزيز وحدوية الشاعر المبكّرة.

لماذا الرجعية تِذرف مدامع
على الإسلام منها يا ضياعه

متى الإسلام يسمح والشرائع
لحكم الفرد يلعب بالجماعه

وكم بثّوا دعايات في المسامع
حثالات الخيانة والخداعه

وصدّق بعض سذّجنا الخجائع
دعايات الأعادي والإشاعه

وأمّا الآن صار الشعب هاجع
مجمهر من عدن حتى جماعه

وبعد أشهُر تندلع ثورة الشطر الجنوبي من اليمن، من جبال ردفان في الرابع عشر من أكتوبر 1963، وإذا بالشاعر يغنِّي فرحته، مهدداً أعداء الوطن بأن الثورة ستمتد إلى المكلا ويافع وبيحان:

ردفان يا مشعل الحرية الثاني
من بعد مشعل ورمز الحرية غمدان

ثورة ستمتد من ردفاننا ساني
إلى المكلا إلى يافع إلى بيحان

وينتهي كل غاصب بالغصيباني
وكل خائن لشعبه والوطن قد خان

هذا شاعرٌ عاش غضبةَ كلّ طلقةِ مدفع، في جبال اليمن كلها، وتنفّس إصرار كل رصاصةٍ وقذيفةٍ تنطلق صوب المحتل الغاشم أو في معارك الدفاع عن الجمهورية. شاعرٌ يحمل بندقيته حقيقةً لا مجازاَ فهو ابنُ الريف المقاتل الشجاع، نبتت البندقية ثورةً بين ضلوعه قبل أن تنبتَ إعلانَ حربٍ على الظلم والظلام على كتفه.

* * *
كانت السنوات الأولى من عمر الثورة قاسيةً وصعبة. ولعلّ الشاعر الثائر أحسّ بثقل تكاليف معركة التغيير في اليمن، وخاصةً وأنه يقاتل على كل الجبهات السياسية والعسكرية والاجتماعية. هنا تصبح الآهةُ أغنيةً حزينة حائرة! ففي قصيدةٍ لافتةٍ يدرك الشاعر هول مهمته، وتبدو حيرته حزينة متسائلة قبل أن يختم بتعهده المعلن أن يكافح حتى النهاية.. جمهورية أو الموت .. ولا يخفي سخريته من الأسد البريطاني الذي مُرّغ في الوحل بحسب قصيدة الشاعر:

قال ابن سحلول يا عجب يا عجب
كم في بلادي من عجائب

تعبت وانهارت جميع العَصَبْ
واسهرت طرفي والحواجب

كم بانلاقي في الطريق من نَصَبْ
كم بانحارب من رواسب

ما كنت بالحاجة لهذا التعب
لولا على الإنسان واجب

لازم نؤدي ما علينا وجب
مهما نواجه من مصاعب

والله ما أصبَحْت يوماً ذنب
لأي مستعمر وغاصب

لو يبذلوا لي وزن صنعا ذهب
أو يعمروا لي سدّ مارب

جمهورية أو موت والموت احب
من عيش في ظل الأجانب

أما أسد لندن طويل الشنب
ما عاد أفادته المخالب

أصبح يمرّغ نوعته في الخلب
ومخلبه في الأرض حانب

والشعب في أرض الجنوب انقلب
وحاصره من كل جانب

يعيش جبل ردفان ما دام هب
وشب نيران الحرائب

* * *
كانت جريمة إغتيال أبي الأحرار الشاعر القاضي محمد محمود الزبيري في إبريل 1965 فجيعةً هزّت اليمن واليمنيين بل الوطن العربي كله وقد أحسّ الشاعر سحلول أن رصاصات الغدر تلك والتي أودت بحياة ذلك الشاعر الكبير والمناضل التاريخي كانت موجهةً إليه وأنها أصابته في مقتل أيضاً، فاشتعل بالغضب ومشاعر الثأر العارمة،

يا بني شعبنا الأحرار هبّوا نقاتل
كل خاين ومتآمر ونهدم حِلاله

أين جا منعكم والقبيلة يا قبايل
والوفا والمروءة والشرف والرجاله

أين جات الشُرْف والكنيد أين الجرامل
أين راحت زواملكم ويا بال باله

ما يفيد حينما نبكي عليه كالأرامل
أو نقول ليتنا متنا جميعاً فدا له

فاحكموا في الزبيري يا (برط) حكم عادل
والغريم والغريمين ما يفيد اعتقاله

ما يفيد اليمن جاهل ولا ألف جاهل
بالزعيم الذي ما كان فينا مثاله

يا رجال الجناحين أنتم اهل الجمايل
من يريد الجماله حان وقت الجماله

ثَوّروا بالزبيري واقتلوا كل خامل
حاسبوا كل من يحيوا على الشعب عاله

إحرقوهم فإنا نعتبركم قنابل
أتركوهم على أيديكم يروحوا كلاله

ولعلّ ذلك الحادث الغادر والبشع قد عمّق لدى شاعرنا مشاعر ثورةٍ بدأت تتنامى بين جوانحه، وهي ضرورة الثورة الاجتماعية، أو ثورة الوعي أولاً وثانياً. أحسّ أن وطأة الجهل ما تزال جاثمةً على الصدور والعقول والأرواح، وأن رحلةً طويلةً من العناء في طريق التغيير والتنوير لا بدّ أن تبدأ بحماس وإدراك .

وهنا بدأ الشاعر رحلةً جديدةً، في مسارٍ مهم. هذا المسار شكّل محوراً مهمَّاً في شعره، وكانت السخرية، والتذكير بأحوال ما قبل الثورة هما شِراعَا حلم التغيير الاجتماعي المأمول:

يا بني الشعب هل من دوا يظهر
للعقول السقيمة وللأفكار

كنت يا شعبنا للطغاة متجر
كان ظهرك لهم مصنع الدولار

كل مولود منهم وله تختر
وأنت دكتورك الكاوية والنار

كنت يا شعب من خوفهم تسهر
بالهموم والغموم دائماً محتار

والأتاريك بالدمع تتنوّر
ثم يمسوا على دمعتك سُمّار

كأنّ دمعك عسل والدما سكّر
وأنينك وتر والبكا مزمار

بئس حكام ظلّت بنا تسخر
والشريعة بها أصبحوا تجار

طائرتنا الجمل والحمار موتر
والتركتر وبمباتنا الأثوار

زيتنا الماء وبترولنا الترتر
والمصانع معانا هي الأكيار

* * *
وفي إطار مشروعه الاجتماعي ذاك فإنه كتب ببساطةٍ بليغةٍ نادرة:

ما هو يا رجعي ما تشتي
حانب لك في قالت قلتي

من ذي قال لك بانستفتي
ما بش معانا غير الثورة

يا رجعي قلّ الله عقلك
إرشح يا مجنون إرشح لك

جالس تتخبط في جهلك
مش عارف ما معنى الثورة

الثورة معناها إسعادك
وسعادة وهناء أولادك

واستثمار خيرات بلادك
والتعليم شعار الثورة

* * *
يبدو لي الشاعر سحلول في كثيرٍ من قصائده رساماً كاريكاتورياً نادراً ! وفي قصائد أخرى تتجلى موهبة الحوار والرواية لديه أسلوباً بديعاً مؤثراً وخلاّقاً .

في القصيدة التالية تبدو مواهب شاعرنا الفريد – وفي إطار مشروع الوعي الذي مشى فيه – نموذجاً فذّاً في القصيدة الاجتماعية السياسية الثورية .

هنا تتجلى روح الشاعر الجامحة نحو التغيير، الجانحة صوب كل الجوانب والزوايا بإلقاء الضوء وقراءة النوايا . إنّ الأبيات التالية من هذه القصيدة خلاصة شاعر ومشروع تنوير وبأسلوبٍ قريبٍ للنفس يدخل إلى القلب والضمير مُحاوراً، ساخراً، عاتباً، ناصحاً، مُحذِّراً، ولا أكاد أجدُ لها نظيراً في شعرنا العامي في اليمن، بساطةً وجمالاً، وأهدافاً،

لابد يا مخدوع أن أنصحك
عساك أن تعقل لعلّك

فإن أفضل حل هي وحدتك
مع جميع أبناء شعبك

في ظل حكمٍ شورويٍ مشترك
جمهورية ملكْي وملكك

أعداؤنا متربصين بي وبك
وقصدهم قتلي وقتلك

فاترك ذهبهم قبل أن يِذْهبك
وقبل أن تفنى وتهلك

نبقى سمك يا ذاك ياكل سمك
وخلفنا الصيّاد يضحك

يا مرتزق لا بارك الله لك
ولا أطال الله عمرك

تفتح بلادك للغزاة اعدمك
وخيّب آمالك وسعيك

مش هو وريثه من قفا جدّتك
أو ملك لك .... فصلك

* * *
الشعب ساهم في البناء واشترك
وانت جالس لك تصعلك

تتحمل القرعه على قصمتك
والبندقيّة فوق جنبك

واربع قفوع أو خمس في حوزتك
في قرعتك أو في مسبّك

تقتل وتنهب في الطريق اخوتك
وتعتدي أبناء جنسك

وتقعد أشهر لا الحياة تعرفك
ولا أنت تعرفها نعيتك!

* * *
يا مرتزق إعمل لمستقبلك
مستقبل أبناءك وأهلك

يا مرتزق حُمّا على لحيتك
أخزيتنا اخزى الله دقنك!

ما يعجبك شيئاً سوى بندقك
ولا سوى الطيار حقك

تريد تحني للطغاة جبهتك
ما أسخفك ما قلّ عقلك

إن كان حِبّاب الركب مطلبك
حبّب ركب واقدام أمّك!

لا بارك الله للذي علمّك
حِبّاب رُكَب من لا يحبّك

مش هو نبي مرسل ولا هو مَلَكْ
بل هو بشر مثلي ومثلك

تقول يا مولاي مملوك لك
أيضاً وخادم ترب نعْلك

وكنت ماصطّاك وما قدّرك
ترفع جبينك أو تحرّك

تصيح لو ما تنتفخ كليتك
مش ممكن انه يستجيب لك

وكنت ما تملك سوى شملتك
أو جَرْم له من عصر جدّك

قد هو دِفاك والفرش في مرقدك
تعطّفه تحتك وفوقك

وسمسرة ورده قديه فندقك
دهليز يشبه لحد قبرك

والمستبدّين يذبحوا نعجتك
وياكلو بِرّك وسمنك

فقامت الثورة لكي تِطْلقَك
من سجنك المظلم وقيدك

لا حول ما أشقاك وما أشقبك
يا للأسف من سوء حظك

تشتي يعود مولاك يستعبدك
حتى تشلّه فوق ظهرك

الله لا عادك ولا مهّلك
ما دام هذا القصد قصدك

يا بن اليمن بالله نستحلفك
إعرف صديقك من عدوك

كي لا تكرر يا أخي نكبتك
ولا تعود مأساة أرضك

* * *
إن مائدة هذا الشاعر الكبير عامرةٌ بما لذّ وطاب من فاكهة الشعر وغذاء الشعور، ولن تفي هذه النصوص المختارة في هذه الإشارات السريعة حقاً من فهم أو تأمل لتجربةٍ ثريّة وضخمة ومتنوعة لشاعرٍ لم يُدرس رغم شهرته الكبيرة التي نالها وسط هدير المدافع وصخب المواقف وأزيز الرصاص، وأدغال الكلام!

سبعون يوماً لقّنت أعداءنا درساً جديداً
لا تحزني يا جنة الدنيا ويا دنيا الخلود
أبشّرش يا أرضنا بالنصر والفوز الأكيد
فها هو الشعب من حضرموت حتى زبيد
شعارنا الجمهورية والنصر أو الموت المبيد
إن الحياة ما لم تكن حرّة فإن الموت عيد
نقسم بخالقنا وعزة من سقط منا شهيد
لن ننحرف يوماً ولا عن مبدأ الثورة نحيد

يخاطب الشاعر بلاده .. لا تحزني يا جنة الدنيا ويحيّي الشعب الواحد في حصار السبعين يوماً من حضرموت حتى زبيد ويعلن شعار الجمهورية أو الموت!

وتنتصر الجمهورية، ويندحر الحصار، ويدخل الشاعر مع أحدهم في حوارٍ أغضبَهُ، وأحنقَه، فإذا به يستشيط شعراً هو إلى حِمم النار أقرب!

تأكد أيها الطاغي تأكد
بأنكْ لست تضعف لي عقيده

عليّا عار عوّر جدّي أحمد
إذا أصبحت أفعل ما تريده

ولن يرهبني السجن المؤبد
سأتحداه واتحدّى قيوده

قصفتوا كل مستشفى ومعبد
ودمّرتوا مصالحنا المفيده

وخلّيتو نقيل يسلح مبنّد
وقاسم في الطويل يحشد حشوده

وناجي ينسف الدرب المعبّد
ويقطع بين صنعا والحديده

. . . .
فإن المجد والفوز المؤكد
لنا والإنتصارات الأكيده

* * *
كان الشاعر في هذه المرحلة يعيش مأساة نكسة 5 يونيو 1967، وقد نتج عنها إنسحاب الجيش المصري من اليمن، وكذلك الحصار الذي ضُرب حول صنعاء لمدة سبعين يوماً، من قِبل أعداء الثورة والجمهورية، ورغم فرحة إعلان استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الخامس من نوفمبر 1967؛ إلا أن الشاعر أوجس خيفةً من تطرّفٍ إستشعره مبكِّراً:

الثوريه هي عمل مثمر وإخلاص نيّه
ليست صراع أو خصام

لسنا بحاجة إلى الثورية الفوضويه
هذا هو آخر كلام

وكان قبل ذلك قد ودّع الإستعمار بقصيدةٍ ساخرة، أشار فيها إلى محاولات الدّس بين الإخوة وهي المحاولات التي كان الإستعمار البريطاني محترفاً في فنونها!

فاترك الدّس ياستعمار واخجل قليل
وارحل إلى غير رجعه حان وقت الرحيل
ما أنت بالمالك الشرعي ولا بالأصيل
ولا على هذه الدنيا وصي أو وكيل
قتلت كم من بطل ثائر وكم من نبيل
لكنك اليوم قد أصبحت أنت القتيل
هيا انصرف أيها الضيف اللئيم الثقيل!

* * *
وفي سياقٍ آخر قريب، كانت قضية فلسطين ملء روح الشاعر الثائر المتمرد، هو يتأمل حال الأمة المنكوبة، وتكالب أعدائها عليها في مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة..

يقول ابن سحلول بات طرفي مسهّدا
ولي قلب يقطر دم من باطل اليهود

فلسطين يا طعنة بقلبي لها صدى
ويا جرح دامي مزّق القلب والكبود

فما فادنا في مجلس الأمن مقعدا
ولا نفعت الدعوى ولا نجحت الوفود

فيا مجلس الأمن الموقّر تأكدا
بأن السلام والأمن في الأرض لن يسود

ولن تهدأ الثورة ولا النار تخمدا
لحتّى نرى أرض العرب للعرب تعود

* * *

وفي نصّ آخر، يطلب الشاعر بحزن أن تعذر فلسطينُ شعوبنا العربية! فالعيب كائنٌ في الحكومات العربية المتعاقبة المتقاعسة، وكأن الشاعر ومنذ ستينات القرن العشرين يرى بعين اليوم، ويتأمل بأحزان الشاعر العربي الذي لم يهدأ لحظةً واحدة، أو يشعر بهوانٍ أو تكاسل،.. ومرةً أخرى، يشير الشاعر إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة في نبوءةٍ لمستقبلِ علاقةٍ سلبية بهذا المجلس الذي لا يرى ولا يسمع، بل يُعطّل القرارات،

يا فلسطين أرض الجهاد اعذرينا
لا تلومي شعوبنا العربية

العيوب ليس في الشعوب ولكن
العيوب في دولهم المركزية

كارثة غاب مجلس الأمن عنها
والأمم والمحاكم الدولية

أيّ مجلس هذا وأيّ زمانٍ
أيّ إنسان وأي إنسانية؟

أيّ عربان تفرقوا وتخلّوا
عن فلسطين يا للأسف والأسيّة!

من المؤكد أن شاعراً مُرهف الحسّ، ذكيّ الفؤاد مثل شاعرنا الكبير لابد أنه شعر في لحظات وأوقات كثيرة بعَدَميّة المواقف، وأنه لا جدوى من السّير في طريق لا تبدو لها نهاية، وتحت قصفٍ راعد بلا غيمةٍ أو قطرة مطر.

نعم، ربما شعر الشاعر – وهو شديد الإحساس بما يراه ويسمعه ويعيشه – بلحظةِ إحباطٍ محزنة، لكنها وكما يبدو في سياق تأملات الشاعر، وحياته، لم تكن سوى تنهيدة ستصبح زفرةً بعد أيام أو أشهر! وسوف تغدو الزفرة صيحةً مجلجلة.. هكذا كان الشاعر الثائر منذ بداياته، وهكذا هو الآن..

قال ابن سحلول يا قلبي لما تغتم
تمسي حزيناً وتصبح دائماً مغموم
إيّاك أن تحترق يا قلبي الملهم
ما أنت إلا كمشعل يجهلوه القوم
كم قد نظمنا قصائدنا وكم يا كم
ولا فهم منطقي حاكم ولا محكوم
فاخرس إذاً ياللسان محجور تتكلم
ماذا يفيد الكلام إن لم يكن مفهوم

* * *
في مطلع السبعينات من القرن العشرين كانت اليمن بشطريها ساحةً لصراعٍ مريرٍ بين أبنائها، وكانت الحرب الباردة حاميةً في هذا الجزء من العالم، وخاصةً أن مجموعةً حالمةً في الشطر الجنوبي من الوطن بدأت في إجراءاتها الداخلية والخارجية صوب ذلك الحلم الذي كان بعيداً عن الواقع الإجتماعي، وكان ظنُّ هذه الفئة السياسية أنها ستختصر أزماناً في زمن قصير، وصولاً إلى التغيير السريع والآمال المعقودة، وكان العنف والتعجّل، وسيلتَيَ تلك الفترة المبكرة من سبعينيات القرن الماضي .

وكان الشاعر يرقُب تلك التجربة بإشفاق، ويتأمل أحوال الشطر الشمالي في نفس الوقت غير راضٍ عن هذه الأحوال البائسة اليائسة،
فِقسْمْ منّا إلى ركب الشعوب ينضم
وهو بربّه وبالحبل القوي معصوم

يريد يبني ويتطور ويتقدم
خطوة فخطوة بتفكير مُتَّزِن محكوم

وقسم ثاني يريد أن يسابق العالم
يرى القَدَرْ طوع أمره بالخضوع ملزوم

يريد يقفز إلى المريخ في سلّم
وكيف ومن أين هذا السلّم المعدوم

وقسم ثالث عليه الجهل يتحكم
لا زال يرفس رفيس الماضيَ المشؤوم

لا زال يخبز عجينة جدّته مريم
بنفس أسلوب جدّة جدّه المرحوم

وفي هذا المعترك، واصل الشاعر ثورته الاجتماعية التنويرية، باتجاه قضايا المرأة، والتعليم، والزراعة، وكأنه أعلن في قرارة نفسه، أن هذا هو الطريق الحقيقي للتغيير القابل للبقاء والنماء.

كأن الشاعر معنيٌّ عن كل نبضةِ ضوءٍ في البلاد، وعن كل خفقةِ بُرعُمٍ يفوح بالحياة، ويلوُح تحت هجير شمسٍ لافحةٍ لاهبة.

قالوا وزير الزراعة
وثروة الحوت مثبوت

أين السمك والزراعة
لا به زراعة ولا حوت

ما في المدن والبوادي
إلا صوالين وبيجوت

* * *
يقول أبو جبر صالح
ليت البنادق معاول

والشيخ ليته مزارع
أو صيدلي أو مقاول

* * *

كانت هيام تشتي تزوَّج عصام
وهو بها هايم هيامه

لكنّ ابوها جيم ألف هاء لام
وقف حجر عثرة أمامه

منع عصام منها وزوّج هشام
له سمّ يسكن في عظامه

هاهو الشاعر الشيخ يتمنّى في لحظة تأمّل وأمل أن تصبح البنادق معاولاً، والشيخ صيدلياً أو مزارعاً، هذه هي الثورية الحقيقية، وهذا هو الهدف من مشروع التنوير الإجتماعي الذي غاب عن مجتمعنا في فترات فارقة دقيقة. ولقد كان هذا الشاعر الريفي الذي ولد في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين أكثرَ عصرية من كثير من خريجي الجامعات الحديثة، أو من متحّزبي قاعات الحوار والمؤتمرات والملتقيات والمنتديات .

كان الشاعر وما يزال حاملاً لواء التغيير الذي حمله في الواقع على عاتقه منذ بداياته المتمردة الشاعرة .

وبرغم أن العمر تسعين عام كامل
لا زلت من أزجى الكهول

دلا دلا ياهل الأوالي والجرامل
عاد المراحل با تطول

أمامكم صحراء وراها سهل قاحل
فيه ألف عنقا والف غول

يمكن يبيعوا أسلحتهم كل خامل
بالبخس في سوق البقول

أو يرهن الآلي بَطَلْ بَكْر ابن وائل
في كيس قمح ابيض وفول

ما كنت أظن إني أعَمّر عُمر طايل
حتى أرى المنكر يصول

والجهل يتحدى الأساتذة الفطاحل
والنّوق يركبن الفحول

ألم تروا الياسمين والورد والفل
عاطش مهدّد بالذبول

والعوسج الشائك ينعّمْ بالمناهل
يشرب من امراد السيول

يا عصر صنع الكمبيوتر والمعامل
والحاسبات والكنترول

رفعت كل الناس إلى أعلى المنازل
والقيتنا ننزل نزول

والآن أبدلنا السنابل بالقنابل
والآليات أقذر حمول

وارى الحكومة غافلة والشعب غافل
عن أزمة الماء والحلول

شوقي يشق اسبيل والحيد المقابل
من زاد رقد بين السبول

* * *

وسط أحزان الشاعر وهمومه وفي نهاية السبعينيات من القرن العشرين كانت رحلته إلى مصر التي عشقها، وأحبّها، وأحبّ زعيمها الراحل جمال عبد الناصر. وكانت الرحلة في الواقع تنفيساً وترويحاً عن الروح اللاغبة، والجسد المنهك،.. والشاهد، أن الروح المرحة الحلوة للشاعر تجلّت في نصٍّ خفيف الظل، لا بأس أن نورد بعض أبياته هُنا ترويحاً عن القارئ أيضاً!

يا مصر يا عيني
يا موطن الأحرار

يا جنّة الدنيا
يا قبلة الأنظار

يا مهبط السّوّاح
ومجمع الزوّار

ما مثلها بلده
في ساير الأقطار

لولا شطارة بعض
أبناءها الشطّار

إن رحت تتفسح
فكم يجوك انفار

هذا يبا بقشيش
وذا يبا الغِرّار

وذا يدندن لك
وينتثر أخبار

وذا يرحّب بك
في السوق ترحيب حار

ومقصده لطشك
ولا قد اقفى سار

وان سرت تستأجر
شقة اتى السمسار

يريد له أجره
عُشُر من الأعشار

وتاك طبّاخه
ندفع لها الإيجار

تجيب لنا الأغراض
بأرخص الأسعار

تجيب بدولارين
وتسرقك دولار

تأكل من الجنبين
كأنها منشار

وان قلت يا سوّاق
إمشي بنا مشوار

فكثّر اللفات
وزيّد العصوار

وبعد يحسب لك
بالكيلو الأمتار

الكل جزارين
يشمتروك شمتار

حرام ما تخرج
وعاد معاك دينار

* * *
يمتاز شعر صالح سحلول بالإنسياب الفني البديع كأنه عين ماءٍ تفيض بسلاسةٍ وسهولة لكنها لا تكف عن الجريان والتفجر بثبات واستمرارية حتى فاضت بها السهول والوديان .

ولعلّي وأنا أوشك على الإنتهاء من رسم هذه الإشارات أن أبوح بما شَغَفَني في صفحات هذا الديوان الذي يُلخّص نصف قرن من أحلام التغيير، وأهوال المعارك على كل الجبهات، الاجتماعية والسياسية .

ولا أجد مناصاً من أن أُورد نصّاً آخر راق لي، ولعلّه أن يروق للقارئ أيضاً. وهو نصٌ جامعٌ مانعٌ قاطع! . في هذا النص، ومرةً أخرى تتجلى روحُ الشاعر الحكيمة الكبيرة وهو يتبرّأُ من أحوالٍ لا تسرّه، لكنه يعلن تمسّكه وإيمانه المطلق بثوابت الوطن المقدسة، الوحدة والجمهورية، والثورة أيضاً !

هذا نموذجٌ باهرٌ من الرجال جديرٌ بالأجيال الجديدة أن تتمعّن في تجربته، وأن تُمعِنَ في تأمل شاعرٍ أصبح قصيدةً أسطورية على شفاه شعب وقلب وطن .

يا حسّي المرهف لماذا أكحلت طرفي بالسهرْ
والفكر بالتفكير أرهقني ووفّى ما قصر
وانت يا شيطان شعري زدت نار القلب حر
فاتركني ارقد لي شبيه الناس ذي مثل البقر
لا تعتبرني شاعر الثورة ولا شاعر مُضر
فإن قيس ابن الملوّح كان شاعر معتبر
وكم تغنى قيس في ليلى وكم فيها شَعَر
حتى فقد عقله وأصبح قيس مجنون مشتهر
ولا لمس ليلى ولا هي لمسته حتى انقبر
حكايتي نفس الحكاية والخبر نفس الخبر

. . . . .
والتاثت السمرة وفرحتنا جغرها ذي جغر!
خلّى العصيد مليان براقط والعجين مليان شعر
لانا اشتراكي يا بني شعبي ولانا مؤتمر
ولا من الحزب الذي يمشوا يحجوا في صَفَرْ
ولا أنا بعثي ولا انا ناصري يا بو عمر
ولا من الحزب المريِّع للإمام المنتظر
ذي منويين ضرب الحجر بالفاس والفاس بالحجر
يمّا كسرها الفاس يمّا الفاس في الحيد انكسر
وقصدهم لا بد من صنعاء وإن طال السفر!

. . . . .
يا قاصدين صنعاء صنعا اليوم في سطح القمر
لا تحسبوها حيث كانت في عقيل أو في الزمر
وحكم صنعاء اليوم في أيدي مغاوير البشر
ما عاد يحكمها سوى صنديد راسه من حجر

. . . . .
ما ناش من الأحزاب ولا لي في مجالسهم مقر
أنا من الشعب الذي في فجر أيلول انتصر
وثار ضد الغاصب المحتل في الرابع عشر

* * *
في أحداث صعدة الأخيرة قام الشاعر بزيارتها على رأس وفدٍ شعريٍّ كبير من كل محافظات اليمن . وقد ألقى قصيدةً كانت خلاصة رأيه .. ومن أبياتها:

يا نُقُمْ قل لحيد مرّان مهلا
يا خبيري عاد المراحل طوالي

لم يكن قصدكم هو الدين كلاّ
إنما هي نغمة بأسلوب بالي

إنّ تخريب الكعبة أهون وأدلى
من دم إنسان يُسفك على أيّ حال

إن الشاعر الثائر وقد ناهز المائة سنة من عمره المديد، قد شهد وشارك في إنجاز الكثير من أحلام بلاده، ثورةً، وجمهورية، ووحدة، وتنمية، رغم شعوره بين آن وآخر بلحظة إحباطٍ تُداهمه، أو بجمرةِ حزنٍ تلامسه،

لابدّ لي أن أنصح ابن اليمن
من قبل ما يقحص بنانه

والله ما تمرّ الإحن والمحن
إلا الخسائر والإهانه

والعفو عن بدّاع عبر الزمن
من أجلكم عانى امتحانه

أخلص لكم واشفق عليكم وحن
من قلب يتفجّر حنانه

واليوم اذا ما زاغ عقله وجن
فإنكم اسباب جنانه!

* * *
هذا هو قَدَرُ الشاعر المقاتل، وهذه هي قصةُ أحلامه وأشجانه، عُمْرٌ من التّرحال عبر ذرى التغيير والتثوير في بلادٍ كانت في الأصل ثورةً بركانيةً، ما يزال دخان حِمَمها يتصاعد على كل الجهات .

ربما يشعر الشاعر الآن أنّ جسده بدأ يفتُرُ عن عزائم روحه الجامحة الطامحة، لكنه وهو يقترب من المائة عام أفضل حالاً، وأنعم بالاً من كثير لم يتجاوز الستين من عمره. ولعلّ السّر في هذه الحيوية الدائمة تلك الأحلام الكبيرة الرائعة الساكنة في شغاف قلبه الطفل، والقابعة بين ضلوعه العنيدة الواقفة!

قال ابن سحلول قرّين الركب
واصبحَتْ خطوة المردم عذاب

من بعد ما كنت أقفز قفز ضب
وأجري في أعلى جبل جري الذئاب

وكان طعم الجحين عندي أحب
وأحلى وأشهى من اللحم الكباب

واليوم طعم السبايا كالعُبَبْ
كرهت أكل السبايا والثِّراب

ما كنت أفتر ولا أشعر باللّغَبْ
ولا أهم الشدايد والصعاب

واليوم قرّت عروقي والعَصَبْ
واللّحي لزّج وشعر الرأس شاب

يِنِعْت كالزرع والمغرب غرب
وليس بعد اليناع إلا الصّراب

* * *

قال ابن سحلول ولّى
ربيع عمري وقيضه

أراه كالبرق أومض
وغاب عني وميضه

صرفت نصف الحياة في
حرب العهود البغيضه

ونصفها في نصيحة
أهل القلوب المريضه!

* * *
يُلخّص الشاعر في البيتين الأخيرين حياةً من الكفاح، وعُمْراً من أحلام التغيير، ويشير إلى أنه قضى نصف عمره في حرب العهود البغيضة، والنصف الآخر في نصيحة أهل القلوب المريضة!

يا لها من حَياةٍ توزّعت على شاهق هاويتين، وتقسّمت على ذؤابة شُفرتين! ولَعَمري، أنها غايةٌ شريفةٌ تتقطّع دونها عزائم الشعراء وتشرئبّ صوب ضوئها أعناق الرجال .

وقد كانت حياةُ هذا الشاعر العاصف منذ بداياتها مرتقىً صعباً، واختياراً مُرَّاً، واختباراً قاسياً قساوةَ بيئته التي تَشرّب أجمل ما فيها ؛ كرمَ الروح، وشجاعةَ الموقف، وأضاف إليها رؤيةَ العصر ورؤيا الشاعر. إنه يلتفت الآن إلى ماضيه راضياً، ضاحكاً ! وقد أفنى معظم سنّي عمره المديد في اللهب المقدّس أي في مجمرة التغيير الهائلة الصاهرة التي غيّرت مجرى التاريخ، وأجْرت الأنهار الزاخرة بالجديد والأجد .

صالح سحلول، جبلٌ شعريٌّ مسلول في فضاء هذه البلاد، وعاصفةُ حريقٍ في ليل هذه الوهاد . ما أجمله الآن هانئاً راضياً عن رحلته المضنية الطويلة . هذا غبارُ معاركه وقد فتَّق براعمَ الأمل، فما كذب الحلم، وهذا لهبُ حرائقه وقد شقّق جدارَ الليل، فما كذب الضوء.. أيها الشاعر المقاتل.. هذا وطنُك يحيّيك، وهذا شعبُك يردّ التحيّة.. كبيرةً تبلغُ سماءَ أجنحتك، حارةً تندفق في حرارةِ قلبِك .

زر الذهاب إلى الأعلى