[esi views ttl="1"]

انتحار دولة من أجل داعش

الحرية لا تأتي على دبابة، والديمقراطية لا يمكن أن تنقل داخل حقيبة دبلوماسية، وكذلك السلام الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق بتحويل المجتمع إلى جماعات ومليشيات، يتوزع عليها السلاح بالتساوي، وبدونه.

تقول الأنباء الواردة من العراق إنّ "رئيس الوزراء، حيدر العبادي، أمر بتخصيص مبلغ 25 مليار دينار عراقي لتسليح عشائر صلاح الدين"، مبيناً أنّ "لجنة خاصة شكلت لتجهيز الأسلحة، وفقاً للمبلغ المحدد، وأن قيادة شرطة المحافظة ستتولى مهمة توزيع الأسلحة على أبناء العشائر"

وحسب الخبر المنشور في صحيفة "العربي الجديد"، أمس، فإن الخطوة أثارت غضب أهالي الأنبار، الذين لم يتذكرهم "بابا نويل الأسلحة"، على الرغم من أن الأنبار، هي الأخرى، ليست بمنأى عن خطر الزحف الداعشي الذي استخدمته الحكومة العراقية فزاعة لتمرير عملية تسليح العشائر.

هذه الخطوة نكأت، كذلك، جراحاً طائفية، شخصها نائب برلماني على أنها "التعامل طائفيّاً مع المحافظات العراقية، وأنّ تسليح عشائر صلاح الدين يؤكد ذلك، بسبب أنّ المحافظة تضم مراقد دينية مقدسة بالنسبة للشيعة"، مؤكّداً أنّ "الحكومة تحرص على الحفاظ على تلك المراقد، وعدم سقوطها بيد داعش".
ولو انتقلت من العراق إلى اليمن، ستجد مليشيات الحوثيين تتحكم في معادلات المشهد السياسي بقوة السلاح، إذ فرضت واقعاً جديداً على الأرض، جسد صعود المليشيا على حساب الدولة، وحط من شأن قيمة المواطنة المتساوية، لمصلحة تغليب الطائفية المدججة بالسلاح، حتى بلغت المهزلة حدود المطالبة بإلحاق الحوثيين بالهيئات الأمنية والعسكرية من دون دراسة أو اختبار، وكأنهم حصلوا على الإجازة في الشؤون العسكرية، عن طريق"العلم اللادني" الذي لا يحتاج إلى تحصيل أو دراسة، وبات عاديّاً أن تطالع أخباراً عن شكاوى من تدخلات حوثية مباشرة في إدارة أعمال وزارات الدولة.

المشهدان العراقي واليمني يكشفان إلى أي حد يتراجع مفهوم الدولة، وتذبح المواطنة بنصل المليشاوية، وينسحب الوطن أمام هجوم الطائفة، لينزاح الستار عن وضعٍ ينتمي بالكلية إلى عصر ما قبل اختراع الدولة، حيث تسود شريعة "البقاء للأقوى" بالسلاح، لا بالعدل والمساواة، وهو وضع كان يهدد الوجود البشري في عصور مضت، حتى توصلت البشرية إلى اختراع "العقد الاجتماعي"، حماية للمجتمع الإنساني من الهلاك في حروب الكل ضد الكل.

ولا يقتصر مشهد انسحاب الدولة على اليمن والعراق فقط، بل شيء من ذلك تلمسه بدرجة ما في ليبيا، حيث يوفر النظام العالمي البيئة المواتية لقتل مفهوم الدولة، لصالح العشيرة والقبيلة والمليشيا، من خلال دعمه لمليشيات مسلحة، تقتات على أنبوب الإمداد والتموين القادم من دولٍ أخذت على عاتقها مهمة هدم ثورات الربيع العربي، من خلال تمويل مشروع متكامل لدعم الثورات المضادة.

وبدرجة أقل، ستجد أن السلطة الانقلابية في مصر لجأت، هي الأخرى، لاستخدام "المليشيا"ممثلة في جيش من البلطجية "المواطنون الشرفاء" لأداء أدوار رسمية، بملابس غير رسمية، في قتل الحراك الثوري المعارض .

وفي الوقت الذي تجد فيه هذا التحلل والتفسخ في مفهوم الدولة على أيدي أنظمة سياسية - أو هكذا يفترض- يدهشك، في الناحية الأخرى، أن إدارة شؤون التنظيم "داعش" تبدو أقرب إلى عملية إدارة دولة، بالمعنى الكامل للكلمة، من حيث النظام والانضباطية وإحكام السيطرة على مقاليد الأمور.

وإجمالاً، يثير السخرية أن من يطلقون على أنفسهم "الدولتيون" أولاء الذي يرددون كلاماً كبيراً عن هيبة الدولة وتماسكها طوال الوقت، هم الأكثر هدماً وامتهاناً لمفهوم الدولة، على نحو يتيح لك أن تقول، إن واشنطن تقود تحالفاً عالميّاً ضخماً بمشاركة تنظيمات -لا أنظمة - عربية، للحرب على "دولة" اسمها داعش.

إن أبسط تعريفات الدولة يقول، إنها الكيان الوحيد المسموح له باستخدام السلاح لضبط وتنظيم العلاقة بين الأفراد، حين يتصارعون كضمانة للانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاجتماع المدني، ويبدو أننا نمر بحالة نكوص عربي، ترتد بالمجتمع إلى حياة الغابات المفتوحة، مرة أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى