[esi views ttl="1"]

مسودة الدستور التي ظهر هادي في عدن شاهرا نسختها ستؤدي إلى حرب أهلية

مسودة الدستور التي ظهر هادي في عدن شاهرا نسختها ستؤدي إلى حرب أهلية
‏- الفدرالية المستحيلة في اليمن أدت إلى سقوط صنعاء وعدن في قبضة الميليشيات ‏
‏- سلطة الوفاق والدول الراعية اغلقوا اليمن على خيار الفدرالية في "صناعة إجماع" تكلف ‏اليمنيين هويتهم وسلمهم الأهلي
‏- يستحيل على اليمنيين أن يعبرون بحرية عن إرادتهم في استفتاء على المسودة
‏- الاولوية الآن هي لمنع انزلاق هادي والحوثيين نحو مستنقع المباريات الصفرية

‏***‏
بوسع السياسيين اليمنيين، ومن والاهم من كتاب وصحفيين واكاديميين وقانونيين ‏و"شخصيات وطنية" (!) متابعة المسيرة الحوارية المظفرة والثرثرة باسم مخرجات الحوار ‏ومسودة الدستور والهيئة الوطنية لمتابعة تنفيذ مخرجات موفنبيك... الخ. ‏

لكن الأمور الآن تبدو أكثر وضوحا من أي وقت مضى في مرحلة "صناعة الإجماع" التي ‏كان اسمها "المرحلة الانتقالية" قبل أن يقرر الجميع حرفها عن مهامها باتجاه تفكيك الدولة ‏والتشبث بالسلطة عبر سلسلة تمديدات. ‏

لا مناص من إعادة مخرجات الحوار إلى طاولة الحوار مجددا بدلا من الانزلاق إلى ‏محاولات لفرض الأمر الواقع من قبل الرئيس هادي وحلفائه من جهة، والحوثيين وحلفائهم ‏‏(المبرقعين) من جهة أخرى. ‏

سياسة الأمر الواقع التي تورط فيها الجميع خلال السنوات الـ3 الماضية، قبل أن يرتكب ‏الحوثيون حماقتهم الكبرى في 21 سبتمبر الماضي باجتياح العاصمة، أدت إلى نشوء وضعية ‏حرجة هي بمثابة "موديل" لما ينتظر اليمنيين في حال استمرت هذه الأطراف في ألاعيبها ‏السياسية. ‏

هذه الوضعية تتمثل في سيطرة جماعة مسلحة على عاصمة الدولة ووجود رئيس الدولة في ‏مدينة أخرى. الجماعة تستقوي بالمحيط القبلي لفرض هيمنتها وإنفاذ كلمتها. والرئيس يستقوي ‏بالمكان (عدن ومحيطها) وبمسودة دستور لدولة افتراضية ليس مرجحا أن تعرض على ‏استفتاء شعبي في المدى الفصير. لكن هذا الرئيس يتصرف منذ وقت طويل باعتباره رئيسا ‏لهذه الدولة الافتراضية لا للجمهورية اليمنية، الدولة العضو في الأمم المتحدة! ‏

‏***‏
الرئيس التوافقي في عدن بينما عاصمة الجمهورية ( وعاصمة الدولة الافتراضية المنصوص ‏عليها في المسودة) تخضع لسيطرة جماعة سياسية مسلحة تقول إنها المعبرة عن إرادة "الشعب ‏اليمني". ‏
الرئيس التوافقي الذي انتزع قبل عام موافقة من 500 مشارك ومشاركة في مؤتمر الحوار، ‏على "فدرلة" الدولة، وتمديدا لفترة رئاسته، يستعجل إقرار المسودة بأي ثمن دون تحسب ‏لمخاطر هذا الاستعجال على السلم الأهلي ووحدة اليمن واستقراره. ‏

‏***‏
لعبت فكرة الفدرالية دورا تخريبيا هائلا في المرحلة الانتقالية لأن الرئيس هادي ومعتنقي ‏‏"الفدرالية" على تنوع (وتضارب) دوافعهم واهدافهم، جعلوا منها "إله" يعبد من دون الله. ‏وكذلك فعل اللقاء المشترك والحوثيون و ( إلى حد ما) المؤتمريون الذين كانوا قبل 2011 ‏يعتبرون الحكم المحلي كفرا بالوطنية. ‏

لقد سمح الرئيس هادي، بتشجيع من أحزاب المشترك وسفراء دول غربية مؤثرة، بأن يوضع ‏كيان الدولة التي يرأسها على طاولة النقاش في موقنبيك جنبا إلى جنب السلطة والاصلاحات ‏السياسية والانتخابية والقضايا السياسية الملتهبة جراء سياسات النظام السابق. ‏

كان مؤدى هذا التكديس للقضايا والتطلعات والتصورات المستقبلية (الرومانسية غالبا) في ‏مكان واحد - حتى إذا كان فندق 5 نجوم- هو ما يحدث اليوم؛ "عاصمة محتلة"، كما يقول ‏مؤيدو الرئيس نفسه، من ميليشيات، ورئيس "هارب"، كما يقول مؤيدو الجماعة، من ‏العاصمة، ولجان شعبية في مدن عدة، وجيوش قبلية في مأرب وشبوة وغيرهما من ‏المحافظات التي يحتمل ان تكون ضحية لغزوات حوثية جديدة. ‏

إن القول بأن هذه الوضعية كانت حتمية (بدعوى أن في اليمن "مركز مقدس") أو تحميل ‏طرف واحد فقط مسؤوليتها، هو قول مجاف للحقيقة يستهدف تضليل الرأي العام المحلي ‏والخارجي. فالثابت أن هناك من حذر من خطورة المضي قدما في المسار الانتقالي طبقا ‏لتفضيلات الرئيس هادي وقادة المشترك والدول الراعية. ويمكن لأي متشكك في هذه القول ‏العودة إلى نص استقالة عضوي اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني رضية المتوكل ‏وماجد المذحجي، واللذين اضطرا إلى الاستقالة جراء تواطؤ السيد جمال بنعمر مع السلطة ‏الانتقالية ضدا على المصلحة العليا للشعب اليمني. ‏
الدول لا تنهار تلقائيا، والمجتمعات لا تغرق في الحروب الأهلية لمجرد ان هناك تشوهات ‏وأحقاد ورواسب كانت غير ظاهرة على السطح، تفجرت دفعة واحدة في وجه الجميع. ومن ‏غير العلمي عزو ظاهرة سياسية (أو تحولات سياسية واجتماعية) إلى عامل أوحد كما يفعل ‏عديدون في اليمن منذ سنوات عندما جعلوا من مفردتين اثنتين محورا ودليلا لفهم أي ظاهرة ‏او مستجد في اليمن. هكذا تحول "المركز المقدس" من مجرد اجتهاد لأحد السياسيين اللامعين ‏لمقاربة أزمة الدولة اليمنية في القرن الماضي إلى "عقيدة" تزود المؤمنين بها بإجابات ناجزة ‏وسريعة على كل الأسئلة التي تواجه اليمني في حياته الدنيا. ‏

صار "المركز المقدس" مدخلا لتدنيس كل ما له صلة بالوطنية اليمنية. ‏
ومن دون أن يكون في الامر سوء طوية بالضرورة، فإن كل الشرور التي اصابت اليمنيين ‏خلال العقود الأخيرة صار لها "منبع" وحيد، هو "المركز المقدس". ‏

والحاصل أن "عنفا لفظيا" هائلا تم توجيهه نحو فئات من اليمنيين بجريرة أنها "المركز ‏المقدس". جرى هذا بالموازاة مع تجريد الرئيس السابق صالح وحلفائه من القوة، تدريجيا، ‏وتكريس خطاب سياسي واعلامي يجعل من المرحلة الانتقالية فرصة ذهبية لان يتخلص ‏اليمنيون في المناطق الوسطى والغربية والجنوبية والشرقية من اليمنيين "المشيطنين" في ‏المنطقة الشمالية. تضافر هذا العنف اللفظي وسياسات مرتجلة للسلطة الانتقالية فككت الجيش ‏وأضعفت الروح المعنوية لأفراده وكرست حالة شقاق بين وحداته واشاعت فرزا على الهوية ‏الاجتماعية والسياسية بين قادته. ‏

في هذا السياق الكارثي، شق الحوثيون - المبرؤون من أوزار الرئيس صالح وحلفائه القبليين ‏والعسكريين (الأوفياء والمنشقين)- طريقهم إلى العاصمة في وقت قياسي دون ان تعترضهم ‏أية قوة على الأرض. ‏

‏***‏
لقد أهدرت سلطة الوفاق برئاسة هادي فرصة تلو أخرى، لتدارك الأخطاء وتصحيح المسار ‏الانتقالي. وهي أنهت في وقت قياسي كل الايجابيات التي وفرتها الثورة الشبابية في 2011 ‏وبخاصة الروح الوطينة العارمة التي رممت بعضا من التشوهات والصدوع التي خلفتها حقبة ‏الاستبداد والفساد والحروب الداخلية في الشخصية اليمنية. ‏
بعد تأجج "الذاتية اليمنية" في 2011 تتجاذب اليمنيين، في الوقت الراهن، دعوات عصبوية، ‏مناطقية وطائفية وسلالية، تذكر بأسوأ ما تختزنه الذاكرة الجمعية من حروب وفتن ومذابح. ‏

‏***‏
في سبتمبر الماضي نفذ الحوثيون قفزتهم الكبرى في مسيرتهم القتالية، باقتحام العاصمة ‏صنعاء، وتمكنوا من وضع حد لأية نقاشات بشان تحسين مخرجات الحوار الوطني، إذ جعلوا ‏من مسودة اتفاق جديد بين السلطة وبينهم، اتفاقا ناجزا يوقع عليه ممثلو الأطراف نفسها التي ‏شاركت في موفنبيك. ألزم الاتفاق الجديد الأطراف الموقعة بمراجعة المخرجات المتعلقة ‏ب"شكل الدولة". ‏

بدت هذه الفقرة من الاتفاق هامشية لكثيرين وخصوصا "للفدرالين" اليمنيين وجمال بنعمر ‏وسفراء الدول الراعية. لكنها في الواقع كانت "الفقرة المفتاح" التي تفسر كل ما جرى في ‏اليمن حتى 21 سبتمبر، وكل ما سيجري بعد ذلك اليوم الذي كرس ما يشبه الانقسام بين فئتين ‏من اليمنيين هما "الحوثيون" ومن والاهم، وغير الحوثيين. ‏

لكن الحوثيين ليسوا مجرد فئة من اليمنيين. إنهم "جماعة" صاعدة تستثمر كل الفجوات ‏والصدوع التي خلفها نظام صالح أو تسبب بها مسار انتقالي فضفاض وغير آمن. وهذه ‏الجماعة هي خليط من عقيدة (شمولية دينية) ومصالح (سياسية واقتصادية) وعصبية (بالمعنى ‏الاجتماعي). وهي على أية حال جماعة تتركز في (وترتكز على) مناطق زيدية تقليدية اتسع ‏مفهوم "المركز المقدس" في المرحلة الانتقالية ليشملها برعايته الكريمة!‏
هكذا صار للتقسيم الأولي لليمنيين في خريف 2014، عنصراه الأساسيان: حوثيون وغير ‏حوثيين. ‏
لكن هذا التقسيم لا يخدم الهدف النهائي لدعاة التقسيم، فكان من الضروري التقدم في التقسيم ‏خطوة أخرى اعتمادا على وحدة قياس أكثر عملية: المركز المقدس (آزال) والأقاليم الخمسة ‏الأخرى.‏

انطلاقا من وحدة القياس الرائجة هذه، صار من الممكن الحديث عن زيود وشوافع، مطلع ‏ومنزل، يمن اعلى ويمن أسفل، شمال وجنوب ومشرق وتهامة،... وهكذا انحطت لغة السجال ‏في اليمن لتبلغ الدرك الأسفل بعد سيطرة الحوثيين على دار الرئاسة ووضعهم الرئيس هادي ‏قيد الإقامة الجبرية. ‏

أعاد الرئيس هادي وكل المشاركين في موفنبيك، وبخاصة الحوثيون انفسهم، تعريف اليمني ‏طبقا لمعايير شديدة البدائية. وأغلقوا الخيارات المستقبلية على ثلاثة: فدرالية من أي نوع؛ ‏انفصال بأي وسيلة؛ دولة الرئيس السابق علي عبدالله صالح (بكل مثالبها وبخاصة التركيز ‏العاصمي والتسلط العصبوي).‏

حرم اليمنيون من خيارات عديدة أخرى. وقد تكفلت "صناعة الإجماع" بتوجيه الـ500 ‏مشاركا في موفنبيك إلى "قبلة" الفدرالية باعتبارها الدين الذي لن يضل اليمنيون من بعد ‏اعتناقه أبدا. ‏
كان من موجبات هذا الاغلاق على الخيارات، الحؤول دون أية فرصة لالتقاء اليمنيين. ووأد ‏أية محاولة لتذكيرهم بخيارات أخرى، ورفض أية مقترحات من اجل الإعداد الجيد للحوار ‏الوطني بما في ذلك رفض التهيئة عبر اجراءات بناء ثقة في الجنوب وصعدة. ‏

كان المطلوب أخذ اليمن في المرحلة الانتقالية إلى التقسيم السياسي. وقد فعل جمال بنعمر ‏وخبراؤه الذين يجهلون اليمن، كل ما يتوجب فعله لإقناع اليمنيين بأن الفدرالية ستأخذهم إلى ‏الجنة. ‏

‏***‏
في خريف الحوار نشب خلاف بين المبشرين بالدين الجديد حول عدد الأقاليم الذي سيعتمد ‏لتقسم اليمن. كان هناك معسكران غير متكافئيين: معسكر قوي برئاسة هادي ويضم الإصلاح ‏والمؤتمر والناصري واتحاد القوى الشعبية وتكلتلات شبابية ومدنية، وقد عزم أمره على تقسيم ‏اليمن إلى 6 أقاليم بما يضمن تقسيم الجنوب إلى اقليمين على الأقل؛ ومعسكر آخر يضم ‏الحزب الاشتراكي و"مؤتمر شعب الجنوب" (مكون محمد علي أحمد) وجماعات صغيرة أخرى ‏لا تتمتع بقوة تصويتية في مؤتمر الحوار. ‏

بين هذين المعسكرين وقف الحوثيون معتمدين أسلوب "الشيطان الأكبر" في "الغموض ‏البناء". لم يقولوا كلمة فصل بخصوص مشروعهم التقسيمي الخاص، لكنهم ابدوا تحفظهم ‏لاحقا، طريقة ومعايير تقسيم اليمن إلى 6 أقاليم. وأرسلوا إلى اطراف جنوبية وحزبية ما مفاده ‏انهم يمكن أن يقبلوا تقسيما سياسيا من اقليمين؛ شمال وجنوب. وقد بدا هذا وجيها بالقياس إلى ‏ما كان يردده بعض الحوثيين قبل 2014، من أن الجماعة تؤيد حق الجنوبيين في تقرير ‏مصيرهم! فضلا على هذه التصريحات، كان ناشطون جنوبيون، خصوصا الموالون لنائب ‏الرئيس الأسبق علي سالم البيض المدعوم من إيران، يظنون أن تقدم الحوثيين في الشمال ‏يقرب "اليوم الموعود" الذي تتنزل فيه الفدرالية على الجنوب، ثم يكون من بعد ذلك قرار بشان ‏الوحدة. ‏

‏***‏
يمكن اعتبار "الفدرالية" الكلمة المفتاح التي تفسر سلوك جميع الأطراف في المرحلة ‏الانتقالية. ‏
والشاهد أن "الفدرالية" بما هي موضوع مدرسي، شديدة الإغواء. أنها للوهلة الأولى الحل ‏السحري لكل مشاكل اليمنيين مع دولتهم الراهنة. ‏

كما أي حل سحري يتكثف في مفردة واحدة، صارت الفدرالية دين الشموليين بمختلف ‏تياراتهم. لا يمكن تفسير هذا الانجراف العميق من قادة الأحزاب اليسارية والاسلامية والقومية ‏في "الدين الجديد" من دون الإمساك ب"شموليتهم" المنجرحة أو الآفلة. لقد قاربوا مسألة "كيان ‏الدولة" كما كانوا يقاربون مسألة العدالة الاجتماعية أو مسألة "الوحدة العربية" أو "الوحدة ‏الأسلامية". كذلك حل شعار "الفدرالية هي الحل" محل "الإسلام هو الحل" ومحل "حتمية ‏الحل الاشتراكي" ومحل "الوحدة العربية آتية لا ريب"!‏

في عام الحوار الوطني (2013) عاد الشموليون في اليمن إلى صباهم! لقد وفرت "الفدرالية" ‏علاجا سحريا لحالة الضياع التي دخلوها جراء أفول، أو انكشاف عيوب وثغرات، ‏‏"ايديولوجياتهم" الشمولية. ‏
صار للشمولي، الآن، ما يعيد إليه اعتباره. ‏
هكذا، انغمس شموليو الماضي في تخليق شمولية جديدة من مسألة تجريبية محضة، هي ‏‏"شكل الدولة". ‏

ومن يعيد تتبع مسار الحوار الوطني، وتصريحات أبرز شخصياته، سيضيع وسط أكوام من ‏المقولات التبشيرية التي انتشرت في عام الحوار. لكنه لن يجد أية دراسة علمية جادة تناقش ‏الفدرالية في العمق. ‏
شخصيا، اعرف ان الأطراف التي شاركت في مؤتمر الحوار، لم تكن مزودة بأية دراسات أو ‏استطلاعات تتعلق بالدين الذي يبشرون به. لم يكن أي حزب قد ناقش بشكل مفصل كيف ‏سيفدرل اليمن، وهل بالوسع حقا تحويل جنس دولة من "دولة بسيطة" إلى "دولة مركبة". وفي ‏حال أمكن هذا، ما هي الكلف المتوقعة؟ وما هي المخاطر المحتملة؟ وهل سيؤثر تقسيم شعب ‏واحد سياسيا على عدة اقاليم على هويته الوطنية؟ وما هي الآثار المتوقعة على حقوق المواطنة ‏لليمنيين جميعا؟ وكيف يمكن تفكيك دولة باسم الفدرالية من دون ان يؤدي ذلك إلى تفتيت ‏الهوية الجامعة لليمنيين؟ ‏

‏***‏
لم يحضر أي فدرالي جيدا للاختبار. كان المطلوب انتزاع قرار بأي ثمن وبأسرع وقت، ‏يسمح بتحويل اليمن من دولة بسيطة إلى دولة مركبة. ‏
لم يظهر أي خلاف ذي معنى بين الفدراليين الذين ظلوا حتى نهاية صيف 2013 على قلب ‏‏"فدرالي واحد". لكنهم سرعان ما تضاغنوا بدءا من سبتمبر 2013. كانوا في الخفاء، وبعيدا ‏عن "أرانب السباق" في موفنبيك، يتفاوضون على عدد الأقاليم! وفي رمضان من ذلك العام ‏كانوا قد توصلوا إلى اتفاق أولي بتقسيم اليمن إلى 5 أو 6 أقاليم. لكن الحزب الاشتراكي اليمني ‏أظهر لاحقا انه متمسك بخيار الاقليمين (شمال وجنوب). بينما التزم الحوثيون "الغموض ‏البناء"، مبقين على هامش مناورة يساعدهم على تأجيل أي صدام بأي طرف، وانتظار ‏مستجدات العلاقة بين اطراف المبادرة الخليجية. ‏

‏***‏
في ذلك الخريف، كان من الواضح ان الحوثيين يواصلون تقدمهم في الشمال. وأن جماعات ‏وازنة في حضرموت تتطلع إلى اقليم خاص بالمحافظة، وليكن أقليم يضم محافظات أخرى إن ‏لزم الأمر. ‏

كان الرئيس هادي من أوائل معتنقي الدين الجديد. لكن حليفه الحزبي الرئيسي، وهو التجمع ‏اليمني للإصلاح الذي لعب إلى حد بعيد، دور الحزب الغالب (أو المسيطر)، كان من الصحابة ‏التابعين (!). والحاصل أن الرئيس والإصلاح التقوا في منطقة "الاقاليم الـ6". كانا ضد فكرة ‏الانفصال. وبالتالي وقفا بشدة ضد فكرة الاقليمين. كانا يعرفان ان فكرة الاقليمين لها جاذبية ‏أقوى لدى حلفائهم في الجنوب والشمال. وكلاهما أدرك أن ضرب هذه الجاذبية يتطلب فكرة ‏اكثر جاذبية أو فكرة معطلة! ‏

في منتصف 2013 بدأ الرئيس هادي والإصلاح (وغريمهما الأول حزب المؤتمر الشعبي) ‏الدفع باتجاه اقليم شرقي محوره حضرموت. كان هذا التكتيك يثير جنون الحزب الاشتراكي ‏والحراكيين. فقد ظهر أن في حضرموت وشبوة نزوعا قويا للابتعاد عن محافظات الجنوب ‏الاخرى. وقد جرى استدعاء مشروع بريطاني يقسم الجنوب إلى محميتين، غربية وشرقية ‏انطلاقا من عدن. ‏
هكذا استقطب مشروع الاقاليم الـ6 كل خصوم الحراك والاشتراكي اولا. ‏
كان تقسيم الجنوب (السياسي السابق) إلى اقليمين يجهز تلقائيا على أي امل في استعادة ‏‏"الجنوب السياسي" باسم الفدرالية أو بهدف الانفصال (أو فك الارتباط بحسب علي سالم ‏البيض). ‏
‏[يحضرني هنا لقاء بسياسي بارز من المشترك في خريف 2013، وقد سمعت منه مباشرة ما ‏يمكن اعتباره تعهدا بمواجهة مشروع الاقليمين بأي ثمن حتى لو اضطر حزبه إلى لعب ‏الورقة الحضرمية!]‏

كسب مشروع الاقاليم الـ6 تأييد القوى الرئيسية في موفنبيك باستثناء الحزب الاشتراكي. وقد ‏وجد التجمع اليمني للإصلاح في هذا المشروع ما يبدد هواجسه من التنامي المتسارع لقوة ‏الحوثيين في الشمال. هكذا صار اقليم "آزال" حلا مثاليا للمسألة الحوثية. كان مطلوب تحجيم ‏الحوثيين في الشمال الزيدي خصوصا وقد ظهر للجميع ان هذا "الشمال" سيكون للحوثيين فيه ‏الكلمة الفصل. وقد تحمس الإصلاح لفكرة اقليم شمالي خاص بمناطق نفوذ محتملة للحوثيين. ‏وقد أدى هذا التقسيم الطائفي إلى ضم محافظة ذمار، بما هي محافظة سكانها في اغلبهم من ‏اليمنيين الزيود، إلى اقليم "آزال" بعدما كان التقسيم الأولي يضعها في اقليم "سبأ". [توجد ‏تفاصيل موجعة بشان هذا التقسيم البدائي لليمنيين].‏

في ديسمبر 2013 خرج الدكتور ياسين سعيد نعمان (بما هو نبي الفدرالية في اليمن أو ما ‏يمكن أن يكون "فرانكشتاين الأول" في اليمن) مغاضبا بعدما تيقن من أن الرئيس هادي حسم ‏موقفه لصالح الاقاليم الـ6 متحالفا مع الإصلاح وقطاع مؤثر من حزب المؤتمر الشعبي وكل ‏اؤلئك الذين يتطيرون من انفصال يمهد إليه تقسيم فدرالي من اقليمين. ‏

وقد تشكلت لجنة لتحديد عدد الأقاليم بتفويض شبه مطلق للرئيس هادي من مؤتمر الحوار ‏الوطني. وفي اللقاء الأول للجنة بدا الرئيس هادي حاسما ومستعجلا قرار التقسيم الجاهز. وهو ‏طلب من اللجنة انهاء مهمتها (الاستراتيجية والمعقدة) في ظرف يومين، لكن اعضاء في ‏اللجنة اقنعوه بأن انجاز المهمة بهذه السرعة يثير شبهات في أن اللجنة لم تفعل شيئا سوى ‏الإذعان لمشيئة الرئيس الذي شكلها. تحلى الرئيس بالصبر مراعيا الشكليات. وانهت اللجنة ‏مهمتها بنجاح لكن ممثل جماعة الحوثيين رفض التوقيع على "تقسيم اليمن" لأن لديه ‏تحفظات. وكذلك قال عبدالملك الحوثي مرارا في العام الماضي. ‏

‏***‏
انعكس مشروع التقسيم موادا في مسودة الدستور. وفي الأثناء كان الحوثيون يتابعون تقدمهم ‏جنوبا بدءا من صعدة. وقد استولوا على عمران ثم على العاصمة في سبتمبر الماضي. ‏
كان هذا التطور يثير قلق الفدراليين (السداسيين، إن جاز الوصف). وكم كان لافتا أن هؤلاء، ‏وهم مسؤولون رفيعون في الحكومة والبرلمان والأحزاب والسلطة المحلية، سارعوا إلى إجراء ‏اتصالات ومشاورات ولقاءات لبحث هذا التطور الخطير الذي يهدد مشروعهم الافتراضي. ‏كان التقسيم لا "العاصمة المحتلة" هو ما يثير قلقهم. وقد اجتمع ممثلون افتراضيون من اقليم ‏‏"الجند" واقليم "حضرموت" لغرض تدارس ما يمكن فعله لمنع الحوثيين من تغيير صيغة ‏التقسم، خصوصا وان الحوثيين كانوا قد تمكنوا من ادراج مطلبهم بإعادة النظر في موضوع ‏شكل الدولة، في اتفاق السلم والشراكة. ‏

‏***‏
يمكن ببساطة تفسير سلوك الفاعلين السياسيين اليمنيين انطلاقا من "الفدرالية"، بإقليمين أو ‏بستة أقاليم. ‏
في هذا السياق يمكن فهم ما ورد في موقف الحزب الاشتراكي من الإعلان الدستوري. فقد ‏تضمن الموقف تجديدا على تمسك الحزب بخيار الاقليمين! ‏
بالنسبة لأي قارئ عابر، فإن الإشارة إلى مشروع الاقليمين في معرض بيان بشان اعلان ‏دستوري للحوثيين ينهي السلطة التوافقية ومرجعيات المرحلة الانتقالية، هو أمر مثير ‏للاندهاش والعجب. لكن أي متابع لسلوك قيادة الحزب الاشتراكي يجد الامر اعتياديا على ‏غرائبيته. ذلك ما اعنيه ب"رهين المحبسين". ‏
يمكن في المقابل قراءة سلوك التجمع اليمني للإصلاح في ضوء هذا المشروع. فقد أراد ‏الإصلاح (المتحفظ اساسا على مشروع الفدرالية) تعويض خسائرة المروعة في الشمال بتحفيز ‏مشاعر دينية سنية في المشرق وتهامة وإب وتعز والجنوب. صارت فدرالية الـ6 بمثابة طوق ‏النجاة الإصلاحي من الوحش الفدرالي الزاحف من الشمال، والذي تخلق في عامي الحوار ‏بفعل مثابرة الدكتور فرانكشتاين. ‏

‏***‏
يمكن تلخيص المشهدالآن على النحو الآتي: ‏
‏- كانت الفدرالية مجرد فكرة يتم التلويح بها ضدا على مركزية طاغية لا تحتمل. ‏
‏- صارت الفدرالية دين النخبة اليمنية بدءا من عام 2012. ‏
‏- صارت افيون الشعب اليمني أيضا. فاليمنيون مطالبون بإرجاء اهدافهم من الثورة الشعبية ‏حتى تنزل الفدرالية في صيغة 6 فراديس. ‏
‏- تمكنت السلطة الانتقالية من إرباك الحراك الجنوبي، وتحجيم الحزب الاشتراكي. ‏
‏- في ما يشبه الاستجابة الغريزية للتحدي الفدرالي، تقدم الحوثيون بقوة في الشمال لمنع أي ‏مخطط يعزلهم داخل اقليم آزال. وقد استفاد الحوثيون من الثغرات الظاهرة على التقسيم ‏الاعتباطي الذي قام على اسس مناطقية وطائفية، ولأجل اعتبارات سياسية لبعض الاطراف في ‏السلطة. ‏
‏- يتضمن تقسيم الـ6 اقاليم اكراهات لا حدود لها في ما يخص السكان داخلها. ‏
‏- التقسيم يغذي- حتى من قبل ان يتنزل خطوطا وحدودا على الأرض- النزعات الطائفية ‏والمناطقية في اليمن. ‏
‏- التقسيم الفدرالي من أي عدد، يعيد تعريف اليمنيين كأقليات وأكثريات داخل كل اقليم. ‏
‏- الفدرالية طبق التصورات الراهنة بما فيها مسودة الدستور، مستحيلة التحقق. ‏
‏- يوجد مسودة دستور يلوح بها الرئيس هادي وكل خصوم الحوثيين. لكن الأكيد أن هذه ‏المسودة لن تخضع لاستفتاء شعبي. فالانقسام الحاصل بشأنها يحول دون ان تصير "العقد ‏الاجتماعي" لليمنيين. فهناك بالتأكيد نسبة مقدرة من اليمنيين لا يقبلون بها، في الشمال وفي ‏الجنوب. ‏
‏- حتى في حال أصر الرئيس هادي، بدواعي الثأر من الحوثيين أو استمرارا لمشروعه ‏الأصلي، على تحويل مسودة الدستور إلى محور استقطاب لليمنيين ضدا على الحوثيين وعلى ‏الحراكيين، فإنه لن يتمكن من نيل موافقة الشعب اليمني عليها. ‏

‏- الفدرالية- كما هو رأيي منذ البداية- مستحيلة التحقق في اليمن راهنا. إن التبشير المستمر ‏بفراديسها على الأرض، هو ما يثير المزيد من المخاوف حول مستقبل الكيان السياسي ‏لليمنيين. وبالنسبة لي فإن ما يثير قلقي هو استحالة ان تتحقق بشارات الفدراليين وليس تحققها. ‏

‏- بوسع أي كاتب أو صحفي أو أكاديمي، ان ينخرط كعامل مخلص في صناعة الإجماع. لكن ‏عليه ان يتساءل أولا عما كان يفعله الرئيس هادي والحوثيون والمشترك والمؤتمر وممثلو ‏الشباب والمكونات المدنية والنسوية في موفنبيك خلال عام 2013. ‏
كانوا يصنعون الإجماع! ‏
الإجماع الذي مكن الحوثيون من الاستحواذ على عاصمة اليمنيين، ودفع الرئيس إلى اللجوء، ‏سرا، إلى عدن التي صارت معقله بعد سيطرة اللجان الشعبية (ميليشياته) على المدينة. ‏

‏***‏
كما تفعل "صناعة الإجماع" في العادة. يخضع اليمنيون بمختلف شرائحهم ومناطقهم، ‏لإكراهات غير مسبوقة. وسيكون من الجنون أن يتابع صناع الإجماع الإنتاج في بلد صار في ‏‏"عين العاصفة"، ويستحيل على أبنائه، في الوقت الراهن، أن يعبرون بحرية عن إرادتهم في ‏استفتاء شعبي. ‏
عقب اختتام مؤتمر الحوار الوطني في يناير 2014، اقترحت عقد حوار بين اليمنيين بعد ‏تبديد فرصة حوار 2013.‏
اجدد هذا المقترح الآن بل وأشدد على ضرورته قبل أن يأخذ الرئيس هادي والحوثيون اليمن ‏إلى حرب وجود، إلى مباراة صفرية، إلى قتال حتى النهاية قد يخرج طرف منه منتصرا لكن ‏على "اليمن الخراب"!‏

زر الذهاب إلى الأعلى