[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

وطن مختزل في رقصة!

"أنتم شعب يرقص كثيراً" بهذه العبارة الموجزة وبلكنة عربية ضعيفة وغير واضحة أجابني أحد الصحفيين الأجانب لدى وجوده هنا في صنعاء مؤخراً بعد سؤالي له عن مدى ماعرفه عن اليمن خاصة وهو يزورها لأول مرة..

وبعد أخذ ورد معه اتضح انه يشاهد التلفزيون اليمني منذ وصوله اليمن في مهمة عمل بدافع فضول الصحفي الذي يريد معرفة بعض ما يدور في البلد ولو بصعوبة لطبيعة ضعف عربيته وكلما ظل أمام التلفاز مساء..

وبعد الظهر يخالجه الظن أننا شعب ليس له هم سوى الرقص بكل مدارسه وذلك استناداً إلى فرط تكرار بث مزيد من الرقصات اليمنية على مختلف القنوات وهو ما كان قد ترسخ لديه أيضاً من خلال أسابيع الترويج السياحية في المعارض اليمنية خارج الوطن التي يُشكل الرقص والمزمار 90% من مادتها كل عام وفي كل دولة ومشاركة حتى ظن الرجل أننا لم نعد سوى شعب راقص صباح مساء..

ولدى محاولتي توضيح أهمية ذلك المكون الثقافي "الرقص" ضمن تراثنا الثقافي في اليمن وأنه ليس سوى تظاهرات فرائحية يتسم بها الشعب اليمني للتعبير عن مسراته التي تتلاشى مراراً أفاد بأنه لم يُشاهد على شاشاتنا أياً من أحداث الشارع ولم يلحظ تحليلاً برامجياً أو إخبارياً بشأن مستجدات الواقع اليمني ولا العربي ولم يجد ما يمكن أن يفيده أو يمثل له مدخلاً صحفياً مهماً لتناول قضايا كثيرة تزخر بها مثلاً صحافتنا وتجد لها مساحة على الشاشة..

مضيفاً أنه تمنى ذات يوم أن يجد برنامجاً يتحدث عن خصوصية اليمن الحضارية والثقافية والتاريخية وتساءل كثيراً عن المزايا السياسية والديمقراطية التي تتمتع بها اليمن ولماذا لم ير حضارة سبأ وحضرموت وقصور وقلاع الدويلات المتعاقبة التي حكمت اليمن والتي لطالما قرأ عنها ؟

ولماذا لم يُشاهد حقيقة الوضع الاقتصادي والسياسي في كل اليمن؟ وما سر تخلف الإعلام اليمني المرئي "تحديداً" حتى الآن رغم كوننا في مستهل الألفية الثالثة التي من سماتها مثلاً جعل العالم ليس قرية صغيرة فحسب بل شاشة مصغرة وهل تقف الإمكانيات المادية عائقاً يعترض إنتاج رسالة إعلامية مهنية بيسر وسهولة خاصة في ظل خصوبة واقعنا المحلي وتعدد قضاياه ومشاكله؟ وهل فعلاً مازال التلفزيون في هذا البلد الذي يمثل الأسبق في المنطقة في جانب الحريات الصحفية يتغاضى عن تفاصيل الهم المعيشي والحياتي للأمة اليمنية؟

وهل فعلاً مازال المعنيون لم يفطنوا بعد إلى عظمة دور التلفاز في مكافحة كل مظاهر الفساد وتعرية المفسدين على الملأ كما يحدث في بلادهم"أوروبا" متغافلين عن حقيقة أن التلفزيون يمكن ان يمثل عامل إصلاح فعال في التصدي لكثير من عوامل الإختلال في المجتمع في حال خلصت النوايا؟

ولأن الرجل متخصص بدقة في "دور التلفزيون في هذا الجانب" ظل يردد بحسرة لو أن حكومتكم تدرك أنها لاتحتاج إلى هيئة لمكافحة الفساد بميزانيات وتكاليف تثقل كاهل الإقتصاد المتهالك ولاتحتاج لجهاز رقابة ومحاسبة ولاتحتاج للجنة للدفاع عن الوحدة ولاتحتاج لمحكمة لللصحافة بقدر حاجتها لإعلام مرئي جريئ ومهني ومقتدر ويغوص في نبش قضايا الفساد والبحث عن مكامن الخلل وتتبع جوانب القصور في كل مؤسسة ووزارة ومحافظة وفضح المفسدين بدون إستثناء من أجل مستقبل يمني مزدهر يحققه التلفزيون بسرعة تفوق كل الوسائل الأخرى بمئات المرات شريطة إتاحة المجال لمناقشة قضايانا بدون خجل ولا إستحياء..

ثم أنه بإمكان التلفزيون "والكلام مازال له" أن يُقزّم من شأن المتبجحين بحمل السلاح داخل مدننا وقرانا وحتى جامعاتنا ومؤسساتنا المدنية بمزيد من البرامج المسخرة لهذا الغرض وهو مايكفل تخلي الجميع عن السلاح طواعية وحرجاً مما يبثه التلفزيون"المشغول بإنتاج إعلام سطحي مثالي" وبفعالية تفوق مليون مرة ما تزعمه الحملات الأمنية في هذا الجانب والتي تستثني كل يوم كثيراً من حاملي السلاح بكل أنواعه بسبب وجاهتهم ونسبهم وتطبقه على حاملي "الخناجر" أكثر من المتفاخرين بحمل "البوازيك" والرشاشات في منظر ليس من شأنه سوى الإساءة لبلد لم يعد يحتمل كثيراً من الصمت بقدر الحاجة للمجاهرة بتفعيل قوة القانون بدون إستثناءات كشرط جوهري للخروج من كثير من المشاكل..

ختم الصحفي حديثه بأنه لم يُشاهد كل ذلك ولايبدو انه سيشاهده لاحقاً وتمنى أن يعود لليمن وقد تغيرت الصورة اليمنية لديه من مجرد شعب ووطن يرقص وهي مهمة الإعلام وحده كما قال..

ولم أفضل سوى محاولة إقناعه باعتيادية الأمر وأن اليمن تحقق كثيراً من الإنجاز كل يوم مفضلاً أيضاً أن أخفي عنه حقيقة أن راتب أكبر مذيع مثلاً في اليمن لايتعدى "250 دولاراً" وأكبر أجر برامجي لا يتعدى عشرة آلاف ريال يمني في تلفزة تلج بوابة الغد بإمكانيات لاتساوي عشرة في المائة من تكاليف "فيلا" بتوابعها لأحد مدراء العموم ،فكيف يُراد لها أن تتجه صوب ذلك الغد بقوة صحفية ومهنية عالية؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى