[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

وجهة نظر خاصة حول جذور القضية الجنوبية (1)

مفارقة تستحق التأمل.. إن الذين ظلوا منذ 1994 ينددون بالاحتفال الرسمي والشعبي؛ ولو كان إعلاميا؛ بهزيمة مشروع الانفصال الاشتراكي وبقاء الوحدة؛ نسوا كل أحاديثهم عن عدم جواز الاحتفاء بذلك بحجة أن الحرب جرت بين يمنيين، والمنتصر والمهزوم كلهم يمنيون، ولا بد من إغلاق ملف الحرب.. إلخ الموال الكاره للخلاف بين أبناء الشعب الواحد.

وخلال سنوات تالية نجحت هذه الحجة في تحقيق هدفها حتى تم إلغاء فكرة جعل يوم 7/7 يوما وطنيا مراعاة لذلك، ثم خفت الاحتفال بهزيمة الانفصال حتى تلاشى الأمر تماما.. وها نحن اليوم نجد الأصوات نفسها تتع إلى من جديد لإحياء ذكرى الانفصال والحرب من موقف معاكس، وتستخدم ذلك لإثارة الضغائن بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد مستعينة بقدر هائل من الأكاذيب على العادة الشهيرة في الحياة السياسية العربية التي ينجح فيها من كان أكثر قدرة على الكذب وقلب الحقائق، ومن ثم الإصرار على ترديدها دون توقف أو ملل!

كما قلنا بالأمس؛ لا أحد يستطيع أن يفرض رؤية واحدة لأي حدث تاريخي إنساني؛ وحتى الأحداث المرتبطة بالأنبياء كلهم لم تنجُ من هذه الطبيعة البشرية. المطلوب فقط أن يتواضع الجميع ويجعلوا من رؤيتهم لكل حدث تاريخي مجرد وجهة نظر وشهادة شخصية إن أحبوا ذلك.. أما غير ذلك فهو محاولة لإحياء أساليب الإقصاء الشهيرة وتزوير التاريخ كما حدث في الجنوب –على سبيل المثال يمنيا- وكما حدث في الدول التي شوهت تاريخها بحسب مزاج الحاكم الجالس على الكرسي!

هذا العام تزامنت ذكرى سقوط مشروع الانفصال مع انعقاد مؤتمر الحوار، ووجود نسبة تمثيلية لا بأس بها لممثلين عن الحراك الانفصالي الكامل والنص نص.. احتفلوا بما سموه يوم إعلان الحرب على الجنوب في 27 إبريل.. ولأنها «هيصة» ومولد سيدي انفصال فقد كانت هناك مشاركة حماسية ملفتة للنظر من أتباع الرئيس السابق علي عبد الله صالح والحوثيين! وللتذكير فقط، فقد بدأ موسم كربلاء الحرب ضد الجنوب من ذكرى 27 إبريل (ومن المتوقع استمراره حتى 7/7) عندما خسر المخططون للانفصال جولة ثانية في إحدى أبرز خططهم لفرض الانفصال عن طريق إعادة القوات اليمنية إلى مواقعها الشطرية قبل الوحدة بدعوى حرمة سفك الدم اليمني، وكان ذلك يعني واقعيا: انفصال كامل الأوصاف.
واستغلت المناسبة كما يعرف الجميع إعلاميا بصورة كبيرة ليس للاستفادة والعبرة ولكن لتأكيد صوابية الدعوة للانفصال، وأن الفريق الذي أجّج الأزمة ودفع الأمور إلى حافة الحرب كان بريئا ومسالما ويستحق نوبل للسلام، لولا المؤامرة عليه وشن الحرب الظالمة ضده، وفيما بعد تم وضع كلمة الجنوب محل الحزب الاشتراكي في كل التناولات، وصارت الدولة دولة الجنوب، وصار الجنوب هو الشريك وليس الحزب!

تزامنت الذكرى كما قلنا مع مؤتمر الحوار، وخاصة مع موعد تقديم رؤى الأحزاب والمكونات المشاركة في لجنة عمل القضية الجنوبية حول الجذور التاريخية للقضية.

والمؤكد أن أحدا أو حزبا أو كائنا من كان لا يستطيع أن يفرض رؤية واحدة للأحداث التي انتهت بسقوط مشروع الانفصال وبقاء اليمن موحدا، وحتى هذه الرؤى التي قدمتها الأحزاب لا يمكن أن تحصل على إجماع داخل تنظيماتها! فالأحزاب عادة تتخذ رسميا لنفسها مواقف وسياسات وفقا لحسابات سياسية ومقاربات اجتهادية تغلّب فيها ما تظنه ترجيحا لمصلحة وتفويتا لشر.. لكن ليس ما تعلنه يكون بالضرورة قناعة عامة أو مجمع عليها!

ومن أجل ذلك، ولأهمية المرحلة التاريخية التي يمر بها الوطن، وحاجتنا لمكاشفة صريحة بعيدا عن الاجتهادات الحزبية؛ مهما كانت حسنة النية؛ فإن تقديم رؤى خارج نطاق الأحزاب والمكونات الجماعية ستكون مفيدة في توضيح ما عجزت الرؤى الجماعية عن رؤيته أو تعامت عنه..

والحمد لله فإن في اليمن من وسائل الإعلام ما يتسع لتقديم رؤى بعشرات الآلاف. ولأن كاتب هذه السطور من أبناء المحافظات الجنوبية، ووعى حياته خلال السبعينيات حتى اليوم وهو في لجة ما يسمى الآن بالقضية الجنوبية؛ فقد كان لا بد لنا أن نسهم في تقديم رؤيتنا الخاصة لما جرى، أو لا بد أن نقف –وفق تعبير د. ياسين سعيد نعمان- بمسؤولية تجاه ما حدث بدءا من الجذور الحقيقية للقضية الجنوبية كما نؤمن بها، وهو ما نوينا أن نجعله بعون الله مادة لهذا العمود خلال الأيام القادمة.

القضية الجنوبية.. من هنا نبدأ

ولأن نقطة البدء في القضية الجنوبية عند جماعات سياسية جنوبية عديدة منذ 1994 هو الحديث عن مظالم، ونهب الثروات، وطمس هوية وتزوير تاريخ تعرض لها الجنوب والجنوبيون؛ فإن مجمل هذه الحيثيات؛ إن أردنا الإنصاف؛ تولد أكثر من قضية جنوبية توفرت لها الحيثيات والدوافع ذاتها؛ حتى يمكن القول إن هناك «قضايا جنوبية» متعددة وليس قضية جنوبية واحدة فقط.. ولكن الذي حدث أن الذين تصدوا للحديث عن «القضية الجنوبية» والتنظير لأسبابها قصروا مشاكل الجنوب على مشكلتهم المستجدة عام 1994 بعد خسارتهم للسلطة، انطلاقا من معاناتهم الذاتية فقط، وما يعدونه استحقاقات ثابتة لمواقعهم الرسمية باعتبارهم قيادات في الدولة الجنوبية قبل الوحدة وفي دولة الوحدة بعدها؛ لا يجوز حرمانهم منها وإلا صارت الوحدة –حسب ما يفهم- فاشلة لم يعد لها وجود، ووحدة تمت بالقوة والضم والإلحاق، (في رواية للحراكي الانفصالي ناصر الخبجي أنها تمت بمؤامرة.. بين من ومن؟ فتح مخك وافهم كما تريد!)! وصار الجنوب بالتالي مضطهدا ومقصيا عن المشاركة في السلطة، ومحتلا من قبل الشمال!

ومن الواضح هنا أن هذه الرؤية حزبية بحتة لا تخص إلا الحزب الاشتراكي اليمني أساسا، كما يلاحظ أن هناك تعمدا وإصرارا منهم لرفض أي حديث عن مظلومية جنوبية قبل 1990، وإن اضطروا أو «زنقوا» في الجدال يتحدثون عن أن الحزب قد انتقد ماضيه إلى حد الجلد، ولم يعد هناك من مبرر لإثارة الماضي إلا من قبيل إلهاء الناس عن القضية الجنوبية وبث الفرقة بين مكونات الحراك (يعني مش ضروري التعويض والاعتذار!).. وسوف نلاحظ في هذا الإطار أن أصحاب هذه القضية الجنوبية الخاصة يقاتلون من أجل حقوقهم المالية والمعنوية، ومن أجل استعادة منازل لهم تعرضت للاستيلاء من قبل آخرين؛ في الوقت الذي لا يبذلون أي جهد لإعادة حقوق الجنوبيين المتضررين من نظامهم السابق وسياساتهم القديمة فضلا عن أن يجعلوا استعادتها مقدمة على حقوقهم!

بالإمكان أيضا ملاحظة أن أصحاب القضايا الجنوبية السابقة على 1994 –ربما باستثناء أصحاب القضية الحضرمية المطالبين بدولة خاصة لهم والمنكرين لهوية حضرموت اليمنية- لا يمتلكون الزخم الإعلامي والسياسي والإمكانيات المالية كما هو حادث مع الذين جاءوا بعدهم؛ الذين استفادوا من كونهم ينتمون لحزب عريق في الحياة السياسية حكم الجنوب حكما حديديا قرابة ربع قرن، ولهم رموز سياسية تعيش في الخارج ذات علاقات خارجية مع دول عربية وأجنبية، ومعظمهم أصحاب تجربة في السلطة التي كانت حاكمة وقيادات عسكرية كبيرة كانت تقود جيشا وأجهزة أمنية؛ بالإضافة أيضا إلى العامل القبلي/ المناطقي المؤثر بقوة في التركيبة النفسية في المناطق الجنوبية التي ينتمي إليها عامة الحراكيين (على غير ما يحاول الكثيرون تقريره بأن الجنوب قد تخلص من القبلية والعشائرية المناطقية)، هذا العامل القبلي كان له دور مهم وخطير جدا في كل أحداث الصراعات السياسية في الجنوب من 1976 وحتى الآن كما يبدو في التنافرات والتجنحات القبلية الحادة بين مكونات الحراك المسلح الانفصالي بوضوح! لكن ذلك لا يمنع من القول إن هناك بالفعل مظالم تاريخية وحقوقية، ومعاناة إنسانية مؤلمة لعدد كبير من الجنوبيين من خارج القضية الجنوبية نسخة 1994.. وكثيرون منهم ما يزالون مشردين (بمصطلح الحراك ذاته) من بلادهم في بلاد الله، مقصيين ومهمشين حتى من الشكوى والاعتراف بهم كأصحاب قضية إنسانية!

إذا.. نقطة البدء في تكريس «القضية الجنوبية» قضية وطنية إنسانية أخلاقية عادلة هو الاعتراف بأن جذورها تعود إلى 30 نوفمبر 1967 الذي شهد بداية الانقسام الجنوبي الحاد، ونزوح الآلاف من الجنوبيين إلى خارج البلاد على إثر سيطرة فصيل سياسي واحد على السلطة؛ ثم عندما قامت دولة يسارية متطرفة عام 1969 استمر حكمها حتى 1994 واتسم أداؤها السياسي على الطريقة الشائعة في ذلك الزمن بالشمولية وبالإقصاء، ورفض للشراكة، وعدم الاعتراف بالآخر وبحقه في الاختلاف، وتعاملت مع تاريخ الجنوب ونضال الجنوبيين؛ باستثناء فئة واحدة أو بالأصح الجزء الماركسي منها فقط، وفق خياراتها السياسية المتطرفة.

أما المشكلة الكبرى التي واجهت الجنوبيين فكانت في السياسات الاقتصادية للسلطة التي نالت من حقوق المواطنين وممتلكاتهم مثل قوانين الإصلاح الزراعي، وتأميم المساكن والشركات والمصانع أو المعامل، التي يمتلكها مواطنون جنوبيون، وهناك أيضا الحقوق الوظيفية للآلاف من الجنوبيين قبل 1990 الذين فقدوا وظائفهم بالتسريح من الجيش والشرطة والجهاز الحكومي.. أو تركوها مؤثرين السلامة والعيش الكريم ونزحوا إلى الخارج –كما نزح الآخرون عام 1994- تاركين كل شيء وراءهم مع فارق أن معظمهم لم يجدوا دولا خليجية تستقبلهم وتستضيفهم بأموال البترودولار.

في ظل تلك السلطة تم العدوان على التاريخ الجنوبي، ومحو كل ما له علاقة بالخصوم السياسيين، حتى صحيفة الأيام التي يزايدون عليها تم إيقافها، وغالبا صودرت مطبعتها، وهرب أصحابها إلى الشمال، ولا أحد طبعا يتحدث عن تعويضها عن الـ23 سنة التي أوقفت فيها! كذلك تم تغيير هوية المكونات الجغرافية التاريخية للجنوب وإلغاء الأسماء التاريخية بما فيها أسماء محافظات عدن وحضرموت واستبدالها بمجرد أرقام (المحافظة الأولى، المحافظ الثانية.. إلخ)، وحتى وصل الأمر إلى إلغاء الأسماء التاريخية للأندية الرياضية التي اشتهر بها الجنوب وعدن خاصة، واستبدالها بأسماء لا علاقة لها بالرياضة ولا بتاريخ أنديتها المعروفة. وفرضت أسماء من خارج الدائرة العربية والإسلامية على أحياء ومؤسسات لا علاقة لها بالجنوب بتاتا! وتم تسمية المدارس والأحياء والشوارع بأسماء شهداء ومناضلين من الحزب الحاكم فقط وإقصاء وتهميش شهداء الأحزاب الأخرى!

كل ما سبق يؤكد أن القضية الجنوبية لم تبدأ من 1994 فقط، وأن الضحايا في الجنوب سلسلة طويلة تبدأ من قبل ذلك التاريخ الذي لا يؤرخ إلا لمجموعة حزبية معينة فقط.

هؤلاء الجنوبيون المظلومون بمقاييس جنوبيو 1994 نفسها يستحقون أيضا أن يعاملوا كبشر وأصحاب حقوق منهوبة، ويستحقون أن تعود إليهم حقوقهم مثل غيرهم ممن جاءوا بعدهم بل قبلهم. وإعطاء أولوية في الاعتراف بقضيتهم، لأنها حقوق مواطنين لم يكونوا يملكون سلطة أو نفوذا وما زالوا حتى الآن بعيدين عن استعادة حقوقهم لأن الأولية للذين كانوا حكاما ومسؤولين. وعليه فما لم تكن هناك نية شجاعة في الاعتراف بكل قضايا الجنوب دون استثناء وخاصة من قبل الذين تسببوا فيها، والعزم على حلها حلا عادلا متساويا دون إهمال أو تجاوز أي واحدة منها تحت أي مبررات؛ فإن أزمة القضية الجنوبية سوف تستمر فتكرار أخطاء الماضي لم يعد يفيد، والتطورات الأخيرة منذ 2007 فتحت الباب أمام كل المتضررين للمطالبة بالإنصاف، واستعادة الحقوق، والعيش في إطار المواطنة المتساوية.

زر الذهاب إلى الأعلى