[esi views ttl="1"]
آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

معضلة الدساتير اليمنية

على مدى خمسة عقود من عمر الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، لم تخطر على مواطني اليمن لحظة تذكرهم معنى النص الدستوري ولا أثر وقيمة العقد الاجتماعي في تنظيم شؤون حيواتهم أو توازن علاقاتهم بالسلطة.

وقبل أن يكون لدينا ربيع ثوري يمنحنا شيكاً دون رصيد مقابل حلم فضائي يزين مشاريعنا النظرية كنا نضع الفساد السياسي في موازاة أم الكبائر مقارنة بالفساد المالي والإداري والاجتماعي والاقتصادي.

وما يزال هذا الاعتقاد قائماً والخوف من إحيائه في سياق توافق الساسة مستمراً؟
مرت الحقب من أمامنا وتسربت الفرص بين أصابعنا وتغيرت أوضاع المجتمعات حولنا، بينما لم يجد في أعمار اليمنيين جديد.. وكلما لاح بارق من ثنايا السحب العابسة، هبت الرياح ونزل المطر حوالينا لا علينا.

يغمض الإنسان عينيه على محنة ويستيقظ على صراع وينشغل معظم السكان بحاسة الشم وفضول التعرف على نوع الوجبة التي تحضرها مطابخ النخب الأمنوسية، ومع كل انقلاب أو أزمة أو احتراب يغمد في جرحنا دستور أو إعلان دستوري أو تعديل للدستور.

يحدث هذا ويتكرر على مرأى ومسمع شعب تمثله بصمة أليفة تنبذ التمايز والمغايرة ويطبع الموتى نسختها في متناول الأحياء ولا يقل ريعها عن 90% طرف صندوق وضاح سواء كان الموضوع انتخاباً أم استفتاء.

توزع نصوص دساتيرنا على ثلاث صيغ، أولاها تنقل عن طريق اللصق كما جاءت في دساتير عربية أبرزها مصر، والثانية يتم تركيبها لأغراض التسويق الخارجي وتمرير القروض المجحفة، أما الثالثة وهي الأهم فمن شروطها الدقة في معرفة مقاس الملابس الداخلية للحاكم وحزبه الكاسح بأغلبياته البرلمانية وتصميمها بمهنية عالية على شاكلة دستور بلون البقرة التي نحرها بنو إسرائيل، مرن في الصيف وخشن في الشتاء، يمتاز بأحكام مطاطية يلبسها الحزب من أعلى أو أدنى، بالطول أو العرض.. لا تنكمش متى بللتها دموع الضحايا، ولا تتمدد عند انقطاع التيار في صيف المكلا، وهي تعمل آلياً بحساسية انفعالاته وهواجسه، رضاه وسخطه، وتنضبط وفق تقديراته الحكيمة التي تنسج خيوطها العنكبوتية من نخاع المواد المصاغة حصرياً لاستخدامات الحاكم، فمتى اتسعت رؤيته انعكس ذلك على جغرافيا الوطن الواحد، وإذا اقتضت المصلحة خلاف ذلك تغيرت مواصفاته الهندسية ورفع شعار لا ضرر ولا ضرار.

وفي دساتير اليمن تعددية حزبية يتأبطها الرجل الأول أثناء زياراته عواصم الديمقراطيات العريقة، كما أن لدينا تداول ميكرفونات وحلبة منافسات أثيرة على استنساخ تجربة الحاكم متى دفعت به الأقدار خطوة إلى الوراء، وفي الحقيقة لم يكن النظام السابق غير الوجه الآخر لأشد أحزاب المعارضة غيرة منه أو نقمة عليه وليس علينا عدا التأمل في آلياتها التنفيذية ومكاسبها التاريخية على طريق تحويل قدرات الربيع الثائر إلى نزوات تستقطب الجماهير الحاشدة بغرض قراءة الفاتحة على ضريح النباش الأول.

في اليمن فقط يحتاج الناس لضمانات موثوقة تشجعهم على خوض مغامرة الاحتماء بظلال العقد الاجتماعي الذي يرصع صدور النافذين وقطاع الأرزاق فيحمي مصالحهم الخاصة ويحافظ على امتيازاتهم الاستثنائية، أما البسطاء من أبناء المجتمع فإن حصتهم من الدستور تندلق بمحابر التشريع الحزبي، إذ تستمد معظم النصوص قوتها من السند الأدنى منها، ونادراً ما نجد مادة دستورية لا يرتهن نفاذها للقانون، والأخير يعطي الحق بيد ويسلبه بالأخرى عبر اللوائح التنفيذية وترمومتر الأداء النرجسي لوزراء النظام السابق أو الذي يليه، وفي أحايين عديدة تتطابق ممارسات كليهما ويقع الحافر على الحافر لنسترجع صدى الحلاج (نحن روحان حللنا بدنا).

ودساتير اليمن على تعدد الحكام لا تعدو المصالحات العرفية بين الحق والواجب، وكثيراً ما تبدلت القواعد واختلفت السنن وغدت حقوق المواطنة واجبات ندفعها لسدنة النهار وزوار الليل.

لم يقف العبث بالدساتير اليمنية عند حد معقول يحتمل اللجوء إلى ذرائع التدرج في بناء الدولة، لكنه بلغ درجة الاستخفاف بالقيم الضامنة طمأنينة المجتمع وسلامة الحاكم وتعزيز مقومات الثقة المتبادلة بين كليهما.. وفيما كان الأخير يجتهد في زراعة واجهات سياسية ورأسمالية طفيلية تفوقه سوءاً لتغيير مجرى النفور الشعبي من سياساته إلى الصراع مع تلك الواجهات، لكن وعلى حين غرة انقلب السحر على الساحر، وفي الوقت الضائع راح الحاكم يبحث عن دستور مهاب يحفظ شرعيته ويحافظ على مكانته دون جدوى!

هل استوعبنا الدرس بما يكفي للوقوف على مفترق طرق بين أن نكون وطناً محترماً أو لا نكون؟ بين إعادة الاعتبار لرسالة العقد الاجتماعي أو المضي بنفس الوتيرة المعتادة من تسخير الملكات الوطنية في الفقه الدستوري لتفصيل الدستور ورهن منطلقاته ومبادئه وأحكامه لحاجات آنية تلبي رغبات أطراف الصراع وتعزف عن استلهام تحديات المستقبل. وهل يكون دستور الجمهورية اليمنية القادم وثيقة مصالحات ومستند تسويات أم مفتتحاً يهدي إلى أحلامنا الكبرى وفي طليعتها إحساس كل مواطن بانتمائه لوطن لا نعاقب على حمل هويته ولا ينتابنا الخجل من الانتساب إليه؟

والحق أن الذي شهدته اليمن خلال العقود الخمسة الماضية هو الأزرى من كل تجارب الاستبداد.. ذلك أن النظم السياسية المائعة بدساتيرها المشوشة وخياراتها المضطربة تؤدي إلى مخاضات هشة وتحولات هزيلة وثورات بلهاء.

فمتى يرف جفن العبرة في ضمائر الساسة؟ وهل بمقدور اليمن الإفادة من التجربة المصرية!؟ ويتحرر من كابوس الأخونة دون دماء..؟ اللهم إني صائم.

زر الذهاب إلى الأعلى