[esi views ttl="1"]

خطيئة غياب الدولة عن صعدة.. من المستفيد؟!

لو قدّر أن وضع سؤال مجرّد علينا في هذا البلد قبل أن يبتلع الحوثي محافظة صعدة كاملة منذ العام 2011م: هل من المقبول في حق دولة – أيّ دولة- أن تدور على أرضها حرب تتجاوز الأشهر ثم لايصدر عنها أي موقف حقيقي يؤكد سيادة هذه الدولة على هذه البقعة من أرضها؟

أحسب أن الجواب لن يخرج عن أحد احتمالين:
الأول: عجز حقيقي لدى تلك الدولة، ومن ثم فليس أمامها أمام شعبها وخاصة من يستغيث بها من المنتهكة أعراضهم وكراماتهم وحقوقهم هنالك من مختلف الأطراف والقوى؛ إلا أن تعلن رسمياً عجزها عن القيام بذلك، ومن ثم تتخلى -رسمياً كذلك- عن تلك البقعة الجغرافية من الأرض، إذ لم تعد خاضعة فعلياً لسيادتها!

الثاني: أنها منحازة إلى أحد الأطراف، وطبيعي أن يكون الطرف المسيطر الأقوى، الذي تتزايد الشكوى من قهره وغشمه وبطشه من مختلف المكونات، دون أن تحرك ساكناً حتى بلسان مسئوليها، إذ بات هو الذي يمثلها، ويتصرف باسمها، وإن لم يُعلن أيّ من الطرفين عن ذلك!

الحق أن هذا هو ما يحدث فعلياً في محافظة صعدة، ولا سيما منذ أكثر من ثلاثة أشهر، حيث تدخل الحرب الدائرة في دمّاج بين جماعة الحوثي المسلّحة وأهل بلدة دمّاج وطلبة العلم فيها هذا المدى الزمني منذ بدء الاعتداءات الحوثية المتفرقة أواخر شهر رمضان الفائت، مروراً بمقتل شابين سلفيين في منطقة منبه يوم عيد الفطر الفائت ( 8/8/2013م)، يليها تفجر الأوضاع في منتصف شهر شوال ذاته( 22/8/2013م) في دمّاج، حيث تكررت الاعتداءات الحوثية فخلفت العديد من الجرحى والقتلى من الطرفين، كل ذلك قبل أن يتخذ الحوثي قراره النهائي –فيما يبدو- بسحق دماج عن آخرها بدءاً من يوم 29/10/2013م، في حين ظل دور الدولة مقتصراً على دور الوسيط المتوسل إلى الحوثي بأن يسمح للصليب الأحمر بإنقاذ الجرحى، وعدم منع لجنة الوساطة من الحركة أو الدخول إلى منطقة دمّاج، وهكذا يمر الشهر بعد الآخر، ودور لجنة الوساطة لايزال سلبياً بل عاجزاً، إلا من بعض التصريحات (المقدّرة) التي يطلقها بين الحين والآخر- على استحياء- رئيس لجنة الوساطة الأستاذ يحيى منصور أبو أصبع، وفحواها اتهام شبه مباشر للطرف الحوثي، وإدانة ضمنية له، بوصفه المتسبب في كل هذا العدوان، الرافض لتثبيت إطلاق النار، المخترق لكل اتفاق تهدئة أو هدنة يعقد بين الطرفين، كما أن الألوية العسكرية (المحتجزة) في صعدة تكتفي بدور (المتفرّج)، وليس من المستبعد أن بعضها على ولاء تام للحوثي، وبعضها لايجرؤ على مخالفة (السيّد)الحاكم هنالك، بوصفه الوحيد المسيطر على صعدة، وأيما تفكير بالخروج عن أوامره فيعني مصيراً سيئاً، إذ هو من يعيّن أو يعزل هذا المسئول مدنياً كان أم عسكرياً، ولا تسل عن وزارة خدمة مدنية أو دفاع أو داخلية، حيث لاصلة بين المركز والمحافظة أكثر من رابط الميزانية السنوية!

مثل هذا التوصيف لايعني دعوة للدولة للدخول في معركة عسكرية مباشرة مع الطرف المعتدي (الحوثي)، إذ ذلك غاية مناه، ليجد الذريعة التي طالما تمناها من وراء قرار حربه العبثية الفاشلة في دمّاج، كي يجد نفسه في حلّ من كل التزاماته التي وقعها محرجاً، وعلى غير قناعة منه، في مؤتمر الحوار الوطني، وأبرزها تسليم سلاحه السيادي، وإعادة المحافظة إلى سيادة الدولة المركزية، بيد أنه من غير المقبول ولا المعقول تحت أي ذريعة أن تظل الدولة تتفرج على محافظة بأكملها تحترق، وعلى بلدة فيها تتعرض لحرب إبادة جماعية، وهي- أي الدولة- تكتفي بلجنة وساطة، أثبتت الأشهر الماضية عجزها أمام غطرسة الحوثي وعنجهيته. ومع التفهم لكل ذلك لكنه لايعفي الدولة حتى من قيامها بالحدّ الأدنى من وظيفتها المتمثل - بناء على توصية الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية- بنشر قوات الجيش في مناطق النزاع، لفض الاشتباكات، والحيلولة دون استمرار مسلسل الدماء، وحينها سينكشف من هو الطرف الحريص على استمرار هذا المسلسل، وأهدافه الحقيقية. أيعقل أنه حتى مثل هذه المهمة باتت شأناً مستحيلاً على الدولة؟!!

قلت في غير ما مناسبة إن الحرب الدائرة في دمّاج اليوم سياسية بامتياز، مع أن البعض حريص على أن يغطيها برداء الطائفية والمذهبية، واستشهدت على ذلك بخصومة الحوثي حسين وعبد الملك وإخوانهما ضد ابن عمومتهم محمد عبد العظيم ومن قبله العلامة الراحل مجد الدين المؤيدي رأس المذهب الزيدي ومرجعيته الكبرى وأتباعه، إلى حدّ القتل من طرف الحوثي الحاكم في صعدة اليوم لأتباع ابن عمومتهم محمّد عبد العظيم وتهجير بعضهم من مسقط رأسه، وعلى رأسهم محمد عبد العظيم ذاته، وبلوغ حد الخلاف بينهم درجة تكفير الحوثي عبد العظيم للحوثي بدر الدين وحسين وأتباعهم، حتى قال عن جهادهم بأنه " أفضل من الصلاة، وأفضل من جهاد اليهود، وأنهم أخبث من إسرائيل ، وأضرّ على الإسلام" (حوار محمد عبد العظيم الحوثي مع صحيفة الأهالي(اليمنية) (أجرى الحوار مهدي محسن)، العدد (170)، 1/1/1432ه- 7/12/2010م ، ص9)، لكن طيلة غياب الدولة عن القيام بوظيفة بسط الأمن والاستقرار في المحافظة وفي بؤرة الصراع في دماج – على نحو أخص- من شأنه أن يرفع من سهم دعاة الطائفية والمذهبية، ويصوّر الأمر عملياً على أنه كذلك، لاسيما مع تنادي المجموعات السلفية من جانب والمذهبية الحوثية من الجانب الآخر، لدعم كل طرف الجانب الذي يعنيه.

إن استمرار الدولة متفرجة على المشهد في دماج اليوم – بصورة خاصة- أمر مريب يبعث على رفع أكثر من علامة استفهام عن المستفيد من بقائها على تلك الحال، وذلك في ضوء التداعيات (التراجيدية) التي يمكن أن تترتب على ذلك، وهي في مجملها تتناقض مع مجمل الآمال والطموحات التي يتوقعها كثيرون من مؤتمر الحوار الوطني، وأبرزها إعادة هيبة الدولة وبسط سيادتها على كامل أرضها، وتحقيق أهم مفردات دولة

العدالة والمؤسسات أو ما تُعرف بالدولة المدنية.

ليس من المهم أن يذرف بعضنا غداً – لاقدّر الله- الدموع الحقيقية أو دموع التماسيح إذا ظل في التهوين من شان شلل الدولة عن القيام بوظيفة حماية مواطنيها اليوم ضد تغول بعضهم على بعض، إذ إن ذلك يدفع أطرافاً للتدخل في شؤون البلاد، سواء المحلي منها أم الدولي، للشغب على وظائف الدولة والتدخل في مهامها، كما نجد جانباً منه اليوم من قبل الرعاة الدوليين الإقليميين للمبادرة الخليجية، وقد يكون هذا الشاكي أول المتسببين في بروز ذلك، نظراً لإصراره على التمرّد، وتشتيت جهود الدولة، وإضعاف أدائها، ناهيك عن أولئك المتربصين بالبلاد من خارج إطار المبادرة تلك، ذلك أن بقاء الدولة متفرجة يعني أنها غدت عاجزة عن أداء وظيفتها في حماية مواطنيها، من جبروت بعضهم على بعض، وإذا فقدت ذلك فلِمَ

تلام أطراف محلية يأتي في مقدمتها القبيلة سواء الممثلة للطرف المعتدى عليه أم للطرف المعتدي، إن هي هبّت لنجدة الطرف الذي يعنيه شأنها، وذلك حين استنصر بها، مادام أنها ترى الدولة تكتفي بدور التوسط والرصد؟!

كما أن ليس من المهم أن يتسابق بعضنا لتسجيل موقف إدانة أو استنكار أو حتى اتهام سواء ضد تنظيم القاعدة، أم ضد الطرف الضحية حين أعلن تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب (تنظيم القاعدة) -وهي ذات بعد إقليمي ودولي –الدخول على خط الصراع الدائر اليوم في دمّاج، زاعماً أنه سينتصر للمظلومين في دمّاج، فالجواب حاضر، حيث سيقال لأنه لم يجد الدولة التي تنتصف للمظلوم!

هذا ناهيك عن أن تستثمر جماعة الحوثي المسلّحة عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها في دمّاج لتزعم أنها ليست موجهة ضد طلبة علم سلميين ومدنيين أبرياء كما يتردّد، بل هي ضد جماعة (إرهابية مسلّحة)، على تحالف مع القاعدة!

إن بقاء الدولة على ذلك النحو من السلبية والعجز، بقصد -وهو الأرجح اليوم- أو بغير قصد يمنح أطرافاً إقليمية رسمية ودولية فرصة تاريخية للعب على (ورقة الطائفية)، وهي أسنح الفرص لتدخلاتها في الشأن الداخلي، كما حدث في العراق- مثلاً-حيث استقطبت دولة الاستكبار الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي غدت دفعة واحدة محبة للشيعة وأهل البيت، فتحمل راية (الحسين)، لتنتصف للطائفة (الشيعية) المظلومة هنالك، وحينها كان دعاة الموت لأمريكا في إيران والعراق –بوجه خاص- الطرف الأكثر انجذاباً وراء المشروع الاستعماري للشيطان الأكبر، والذريعة المرفوعة انتصافها من خصمها الذي بات يصنف طائفياً (سنيّاً)، وقس على ذلك الطرف الإقليمي الآخر الحريص على (مشروعه الخاص) كذلك، علاوة على تأكيد رسالته لشعبه وشعوب المنطقة، سواء تلك التي قامت فيها ثورات الربيع العربي، أم تلك التي تنتظر بأن هذه الفوضى وضعف الاستقرار، وهذا الخراب الذي يشتعل في المنطقة إن إلا هو ثمرة ثورات الربيع العربي، ولذلك تراه يسعى بكل إمكاناته لدعم الثورات المضادة وفلول الأنظمة السابقة، وكل من تراجع القهقرى من الثوار فتحالف معه، وهو الأمر الذي يسوق له في الوقت نفسه دهاقنة الدين والسياسة معاً، سواء في بلد الاستقطاب الإقليمية تلك أم في بلدان المنطقة جميعاً من ثار منها ومن ينتظر، كي لاتتفاعل مع دعوات التغيير، حيث هذه ثمارها!

إن أخطر ما في هذا الغياب للدولة في صعدة أنه يقدّم – على الصعيد المحلي- شهادة رسمية معمدّة، ومنحة تشجيعية مجانية لعصابات محلية في صورة جماعات مسلّحة (دينية) أم (دنيوية)، (قبلية بدائية) أم ( حداثوية مدنية)، كي تسعى لبسط نفوذها في مناطقها، فتعلن أنها باتت الحاكم بأمره، كما هو الحاصل في محافظة صعدة، وغدت سلطة الأمر الواقع، ويتم التعامل معها من قبل الدولة المركزية على ذلك النحو! كما يغري أي دولة طامعة على المستوى الإقليمي أم الدولي بالتدخل المباشر بل الاحتلال للبلاد – إن هي شاءت- إذا كانت هذه هي حقيقة قوة الدولة ومستواها العسكري أمام ميليشيات متمردة!

زر الذهاب إلى الأعلى