[esi views ttl="1"]

«داعش» والرئيس أوباما

أخيراً تحامل الرئيس الأميركي باراك أوباما على نفسه وقرر، نهار الجمعة الماضي، توجيه ضربات عسكرية محدودة إلى مواقع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، في شمال العراق.

لو سئل رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته، نوري المالكي، عن الموضوع لأجاب بأن أوباما تأخر كثيراً، وضرباته الجوية لن تفيد كثيراً. وهو يقصد بذلك أن أوباما لم يواجه قوات التنظيم لحظة استيلائها على الموصل في حزيران (يونيو) الماضي. لو فعل ذلك لحقق المالكي مكاسب سياسية كانت ستغطي فشله وطائفيته، ولأزاحت العراقيل أمام السماح له بولاية ثالثة في رئاسة الحكومة. يبدو أن أوباما كان يريد تفادي هذه النتيجة تحديداً، عندما لم يندفع بتوجيه ضربات جوية إلى «داعش» بعد استيلائه على الموصل. هو يقول إنه لا يريد أن يجعل من سلاح الجو الأميركي سلاحاً للشيعة في العراق ضد السنّة، ولذا حصر هدف ضرباته الأخيرة بمنع سقوط أربيل في يد «داعش»، حماية لإقليم كردستان وحماية لموظفي القنصلية الأميركية في عاصمة الإقليم. هو يشترط توسيع تدخله العسكري بتشكيل حكومة تمثل كل العراقيين.

هذا موقف أميركي متوازن، لكنه أولاً موقف محدود من الناحيتين السياسية والجغرافية، ثانياً، هو موقف جاء متأخراً، أو كما يقال «جاء بعد خراب البصرة». ثالثاً، والأهم من ذلك، أنه موقف معزول ومن دون استراتيجية متكاملة، كما أشارت صحيفة «الواشنطن بوست» أمس (السبت). من هنا لن يكسب الرئيس كثيراً من هذه الضربات.

سيستغرب كثيرون في المنطقة أنه في مقابل اهتمام أوباما المفاجئ بمصير كردستان ومصير الأقليات اليزيدية والمسيحية، وهو اهتمام مستحق وله ما يبرره أخلاقياً وسياسياً، ترك الشعب السوري بكل مكوناته لقدره أمام أبشع نظام سياسي عرفه التاريخ الحديث في المنطقة! لم يحرك ساكناً والمدن السورية تدك يومياً على مدى أكثر من ثلاثة أعوام. لم يعر اهتماماً لحقيقة أن ضحايا النظام تجاوزوا الـ200 ألف قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمعوّقين والمفقودين، وأكثر من 10 ملايين هجّروا بين منافي الداخل والخارج. نظر أوباما إلى الناحية الأخرى متجاهلاً أن إيران تمد النظام في جهوده هذه بالمال والسلاح والميليشيات العسكرية، وأنها الشريك الأول والأهم للنظام السوري وهو ينفذ مذبحته المتواصلة. اكتفى بتدمير الأسلحة الكيماوية حماية للأمن الإسرائيلي قبل أي شيء آخر. وبعد ذلك ترك الفلسطينيين لآلة الجيش الإسرائيلي تدمر غزة على رؤوسهم. ثم وفر الغطاء السياسي لهذه الوحشية بإصراره على أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها. يسأل الفلسطينيون: هل لهم حقوق تستحق الدفاع عنها في نظر الرئيس الأميركي؟ هل الاحتلال والحصار والاغتيالات، وغيرها من وسائل القمع تقع ضمن حدود الدفاع عن النفس؟

المشهد في العالم العربي هذه الأيام، ساهمت أميركا ويساهم باراك أوباما في رسمه منذ أكثر من خمسة أعوام. كيف يبدو هذا المشهد في نظر أحد أطرافه على وقع سياسات الإدارة الأميركية؟ سيبدو على النحو التالي: دمرت أميركا العراق عام 2003، ثم سلمته لحلفاء إيران. دع عنك كذبة السلاح النووي الذي استخدم ذريعة للاجتياح والاحتلال. هذه باتت معروفة، ولا ينكرها حتى الأميركيون أنفسهم. لماذا سلّم العراق لإيران؟ هذا هو السؤال الذي لن تجد جواباً عليه في أي مكان من أرجاء الولايات المتحدة، وهي أرجاء واسعة جداً. الأدهى أنه بعد حو إلى 10 أعوام من احتلالها له انسحبت أميركا من العراق وتركته لقدره، أو هكذا يبدو الأمر من بعيد. استخدمت «الصحوات» لمحاربة «القاعدة» بين عامي 2006 و 2009، ثم تركت قيادات هذه «الصحوات» وعناصرها لرحمة حكومة المالكي، وهي تعرف من هي هذه الحكومة. غرق العراق في الطائفية والعنف والإرهاب، كأنه كان لا بد من أن يغرق العراق حتى يصحو أوباما لخطر «داعش» وما قبلها وما بعدها، وحتى يشعر أوباما أخيراً بأنه لا بد من العودة إلى العراق عسكرياً، ومن الجو، وإن في شكل محدود حتى الآن. لكنها عودة من بوابة «داعش» وأربيل، وليس من بوابة الموصل أو بغداد أو الأنبار.

في جوار العراق، وعلى مدى ما يقرب من أربعة أعوام، بُحّت حناجر سورية وعربية وأوروبية وأميركية وهي تناشد إدارة أوباما فعل شيء لحماية الثورة السورية في أيامها وشهورها الأولى. لكن أوباما رفض بشدة وعناد لافتين. في البداية تلكأ، واكتفى بخطوات سياسية، تتمثل في دعم المعارضة سياسياً، وتقديم المعونات الخيرية للاجئين السوريين. تذرع أوباما بأنه لا يريد دعم الثوار بالسلاح كي لا يقع كل أو بعض هذا السلاح في أيدي جماعات متطرفة. اكتفى الرئيس بترديد مطالبته الرئيس السوري بالتنحي، بين الفينة والأخرى. وهي مطالبة تخلى عنها أخيراً، وتبدو الآن وكأنها في أسوأ الأحوال خدعة، أو كان لها مفعول الخدعة. وفي أحسن الأحوال تبدو نوعاً من السذاجة السياسية، ثمنها البشري والأخلاقي والسياسي ثقيل على السوريين، وعلى المنطقة كلها. على خلفية هذه السياسة تفرع تنظيم «القاعدة» وتشعب. ولدت «الدولة الإسلامية» ثم «جبهة النصرة» و«داعش» في العراق وسورية. هل يدرك الرئيس العلاقة العضوية بين الوضعين العراقي والسوري، وتحديداً بين سياسته تجاه سورية، ونمو تنظيمات التطرف والإرهاب، وتحديداً بروز «داعش»؟ لا يبدو أنه يعترف بذلك. صحيح أن «داعش» سيخسر في الأخير، لكن كيف؟ ومتى؟ وبأي ثمن؟ لا أحد يعرف. قيل الشيء نفسه عن «القاعدة» في بداياته الأولى. ثم تفرّع، وقتل زعيمه، وشعرت واشنطن أنها حققت النصر. ثم انشق «داعش» عن «القاعدة»، وهو يحاول الآن أن يصبح «دولة» تفرض نفسها على الجميع. لا أحد يعرف كيف ومتى سيخسر «داعش»، ليس لأن هذا التنظيم لغز أو أحجية يصعب فكها، وإنما لأن السؤال يهم أهل المنطقة الذين يبدو عجزهم، وتتصاعد حاجتهم إلى سياسة أميركية أكثر حزماً وتماسكاً.

تدرك إدارة أوباما دلالات كل ذلك، وأن المنطقة تمر في حال صراع طائفي بين السنّة والشيعة. وتدرك أن هذه الحال انفجرت بعد الغزو الأميركي للعراق، وتسليم واشنطن العراق للنفوذ الإيراني. ثم تصاعد هذا التفاقم بتخلي واشنطن عن الثورة السورية، وتركها لتحالف إيران مع النظام السوري، ودعم روسيا لهذا التحالف. وفي ظل كل ذلك تتفاوض إدارة أوباما مع إيران على ملفها النووي، وهو تفاوض مرشح لأن يشمل دور إيران الإقليمي وحدود هذا الدور. كيف سيبدو كل ذلك لغير الأميركيين، وتحديداً للطرف السنّي في المشهد؟ سيبدو أن الأكراد يتمتعون بحماية أميركا، والشيعة بحماية إيران. وأن التنظيمات والميليشيات الشيعية تتمتع بغطاء سياسي إيراني وتغاضٍ أميركي عن هذا الغطاء. سيدرك السنّة أيضاً أن التنظيمات والميليشيات السنّية ليس فقط أنها لا تتمتع بأي غطاء أو حماية سياسية من أي طرف، بل هي في حال عداء مع كل الدول السنّية، وتستهدف هذه الدول قبل غيرها. ستبدو الدول السنّية من الضعف أنها مهمومة بحماية نفسها قبل غيرها. وعلى رغم هذا العداء بين التطرف والإرهاب السنيين من ناحية، والدول السنّية الرسمية من ناحية أخرى، فإن التركيز الأميركي منصب على الإرهاب السني، ومتغاضٍ عن الإرهاب الشيعي ودوره المدمر في العراق وسورية ولبنان. هكذا ستبدو صورة السياسة الأميركية تجاه المنطقة، وهي صورة تضاف إلى تحيز أميركي قديم لإسرائيل، وعداء لحقوق الشعب الفلسطيني. لن يكون مفارقةً أن التطرف بوجهيه السني والشيعي هو المرشح أكثر من غيره للكسب من هذه السياسات الأميركية والأوضاع الإقليمية المنحرفة.

زر الذهاب إلى الأعلى