[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]

سيناريوهات المستقبل بعد غزة.. التغيير قادم!

بشكل عام يمكن الحديث عن سيناريوهين للمستقبل بشأن أزمة العدوان على غزة محليا وإقليميا ودوليا: أحدهما سوف يبرز بقوة لو صمدت حماس، ولم تنهر كليا أو يجري إبعادها عن السيطرة على غزة، والثاني لو نجح العدو الصهيوني عبر الغزو البري والبحري في تحقيق أهدافه خصوصا وقف الصواريخ وقتل قادة المقاومة الرئيسيين.
في كلتا الحالتين يمكن توقع تغييرات في فلسطين والنظام السياسي العربي والعالم معا،

وتبدل في مراكز القوى في المنطقة، ربما ظهرت معالمه في التنافس بين سلسلة المبادرات التي طرحتها كل من تركيا ومصر بالتعاون مع فرنسا.

فلو وافقت إسرائيل على خطة لوقف إطلاق النار بدون أن تحقق أيا من أهدافها الرئيسية (إنهاء حكم حماس وقتل زعمائها – إزالة خطر إطلاق الصواريخ على مدنها – إطلاق الجندي شاليط)، فسيكون هذا هزيمة لها من الناحية الإستراتيجية والعسكرية معا، وربما يفقد باراك وزير الحرب وليفني وزيرة الخارجية المكاسب الانتخابية التي حصلوا عليها بفعل الحرب.

ولو استمرت إسرائيل في حربها داخل المدن، فسوف تخسر أيضا المزيد من صورتها الأخلاقية ودعمها الإستراتيجي عالميا، كما أن سقوط قتلى بين قواتها بصورة أكبر، سيزيد الضغوط الداخلية لوقف الحرب كما في حالة جنوب لبنان، وفي كل الأحوال لن يمكنها تحقيق نصر فعلي إلا في حالة احتلال رفح بالكامل ومحور صلاح الدين وتفجير الأنفاق ثم تسليم المنطقة لقوات دولية، وبالتالي فرض شروطها على حركة حماس.

وبشكل عام يمكن رصد السيناريوهين على النحو التالي:

أولا: سيناريو الصمود

لا يقدر النصر في حروب الجيوش مع المقاومة داخل المدن غالبا بأعداد القتلى أو الجرحى، بقدر ما يرتبط بمدى صمود المقاومة وقدرتها في النهاية على الاحتفاظ بكيانها وقدرتها على إزعاج العدو وتهديد أمنه وعمقه وخلق نوع من توازن القوى بين الطائرة والدبابة من جهة، وبين صواريخ المقاومة أو قذائفها من جهة أخرى، والأهم هنا هو المكاسب الإستراتيجية لا التكتيكية.

فالنصر هنا مرتبط بمقدرة الطرف المعتدى عليه، على مواصلة مقاومته وصموده دون أن يفقد البنية التحتية الحربية الأساسية، وحصد رأي عالمي يؤيده، وهو ما يبدو أن المقاومة تحققه حتى الآن، برغم دخول الخطة الإسرائيلية مرحلتها الثالثة وإشراك قوات الاحتياطي في الوقت الذي تقول فيه حماس إنها تحارب بالصف الأول ولم يشارك احتياطيوها.

وفي حالة صمود المقاومة، يتوقع أن يقوى موقف حماس ويلتف الشعب الفلسطيني والعربي حولها أكثر، مقابل تقلص شعبية حكومة الرئيس عباس وضعف موقفها، بعد الدور السلبي تجاه العدوان، بل والتحريض على حماس باتهامها هي لا الاحتلال بالمسئولية عن القتلى في المذابح الصهيونية.

ويجد هذا التحول إرهاصاته في الضفة بعد المظاهرات الضخمة التي قمعتها قوات شرطة عباس، فضلا عن اعتقال عدد كبير من نشطاء المقاومة ممن كانت هناك مخاوف من قيامهم بعمليات استشهادية في الدولة الصهيونية، وبدت التساؤلات والمقارنات بين ما حققته حماس بالمقاومة وبين ما حققته السلطة الفلسطينية بالتهدئة والسلام!.

وبالتالي إذا لم تستطع إسرائيل هزيمة حماس، فمن الممكن أن تخرج الحركة أكثر قوة على حساب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الطرف الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في معظم الأحيان في سياستها الخاصة بالعلاقة بين العرب وإسرائيل، والطرف الذي تؤيده الدول المعتدلة.

وعلى الصعيد العربي ، لو استمر صمود المقاومة، فسيعني هذا مزيدا من تآكل محور "المعتدلين العرب" الذي يضم مصر والسعودية والأردن وبعض دول الخليج بشكل أساسي مقابل انتعاش محور "الممانعة" أو "المقاومين" والذي يضم سوريا بشكل أساسي ومعها إيران وبصورة ما السودان وليبيا واليمن وبطبيعة الحال حزب الله اللبناني.

وسيزيد من ضعف هذا المحور غياب إدارة بوش وانتهاء عهدها في 20 يناير الجاري وقدوم رئيس أمريكي جديد – أوباما – أكثر ميلا للحلول الوسط، وأقل انحيازا لإسرائيل (كما ظهر من تصريحاته المحايدة حتى الآن). أضف لذلك التركيز الأمريكي على الداخل أكثر من الخارج للسيطرة على انفراط عقد الولايات المتحدة وانهيارها المالي الذي يؤثر على نفوذها الخارجي، ما يعني انتهاء أو تجميد المخططات الأمريكية الرامية لما يسمى "الشرق الأوسط الجديد" وتقييد قدرات الصهاينة على القيام بمغامرات عسكرية تسبب مشكلات لأمريكا.

ولا شك أن هذا سيكون انتصارا لفكر المقاومة والصمود في المنطقة العربية، قد يعززه ويسانده عودة قوية للدور الإيراني في الخليج وكل الشرق الأوسط في حالة نفذ الرئيس الجديد أوباما خطته للحوار مع طهران التي سيكون لها مردود أو "حوافز" لطهران في صورة مصالح إقليمية وضوء أخضر لتمددها في المنطقة العربية على حساب "المعتدلين العرب".

وبطبيعة الحال قد يضيق هذا الخناق على الإسرائيليين بما يدفع باتجاه سلام وفق أسس أفضل للفلسطينيين وسوريا، وسيخفف هذا السيناريو -في حالة تحققه- الضغوط على دول مثل السودان، ويسمح بنشوء دولة إسلامية في الصومال بدون تدخل أمريكي لإسقاطها كما جرى من قبل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر وكلاء محليين (أثيوبيا).

وعلى مستوى النظام العربي الداخلي ، يمكن توقع أن ينال هذا الصمود الفلسطيني، الأنظمة نفسها التي وقفت ضد المقاومة وحماس، خصوصا مع توالي المظاهرات والاعتقالات والاحتقان والفرز والاستقطاب الداخلي الحاد، وأكثر الدول العربية المتوقع تأثرها هي مصر التي هوجمت - لأول مرة في تاريخها - بمثل هذه الضراوة من غالبية الشعوب العربية، وخرجت مظاهرات في العالم العربي وأوروبا وأفريقيا تندد بمواقفها وتحرق صور رئيسها!.

وما يضر القاهرة سيمس باقي "المعتدلين العرب" خصوصا السعودية التي من المرجح أن يزيد تأثرها بالأزمة المالية العالمية (فقدان مليارات من صناديق السيادة في الغرب)، وتأثرها بالانخفاض الحاد في أسعار النفط، وتقليص دورها الإقليمي، بموازاة دور إيراني أو تركي أنشط إقليميا في الشرق الأوسط.

أما على المستوى الدولي ، فهذا الصمود للمقاومة، مضافا إليه جرائم الحرب اللأخلاقية التي فعلتها إسرائيل وباركها الغرب، سوف يزيد من منسوب "الإسلاموفيا" و"الغرب فوبيا" معا في الغرب والعالم الإسلامي على التوالي، وسيكون له أثر على زيادة الكراهية العربية والإسلامية للغرب، ما قد يرفع أسهم دول أخرى كبرى مثل روسيا والصين، ويشجعهما على لعب أدوار أبرز عالميا على حساب الغرب الذي أصبح متهما أخلاقيا وأدبيا بالمسئولية عن مجازر غزة.

ثانيا: سيناريو الهزيمة

هذا السيناريو قد يكون متشائما ومستبعدا في تصور الكثيرين، خصوصا أنه يصعب تصور أن تسيطر إسرائيل على غزة بالكامل بسهولة دون أن تستمر المقاومة ضدها ولو بأقل القليل، كما أنه ليس متصورا – إسرائيليا أيضا – السيطرة على غزة مرة أخرى واحتلالها بشكل دائم؛ لأن كلفة هذا مرتفعة جدا ماديا، وستزيد المقاومة اشتعالا، فضلا عن أن احتلال غزة سيطرح معضلة أخرى هي "لمن يتم تسليم القطاع.. للرئيس عباس أو مصر أو أوروبا؟، ولكنه على أي حال سيناريو يبقى مطروحا.

ولو تحقق هذا السيناريو أو درجات منه، ونجح الصهاينة في التوغل في عمق غزة بمباركة إقليمية ودولية خصوصا لو رفضت حماس المبادرة المصرية – الفرنسية لوقف القتال كمرحلة أولى، ونتج عن هذا قتل غالبية قادة ومجاهدي المقاومة واجتياح غزة كلها والسيطرة على إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل، فسوف تنهار "إمارة حماس الإسلامية" في غزة (كما يسميها رسميون مصريون)، وينتهي فوزها في انتخابات البرلمان الفلسطيني بقوة السلاح.

وفي هذه الحالة قد تعود الضفة وغزة موحدة تحت سلطة فتح، ونشهد جملة تنازلات فلسطينية للوصول لفكرة الدولة الفلسطينية كثمن تدفعه سلطة رام الله لاستعادة غزة، وإلا تنال مصير الرئيس السابق عرفات من تهميش وحصار، وسيعني هذا – في حالة سار السيناريو وفق الأهداف الإسرائيلية- انتهاء مشروع المقاومة للأبد في فلسطين كلها، والانتقال لفكرة "الدولة الفلسطينية المعتدلة" غير المقاومة، وربما نشهد أيضا تهجيرا لفلسطينيي 48 للضفة، ضمن تبادل الأراضي المقترح إسرائيليا بما يسمح بتدشين "دولة يهودية خالصة"!.

وعلى المستوى العربي: ستكون هزيمة المقاومة أو تحجيمها بمثابة نصر لمحور "المعتدلين العرب" مقابل محور المتشددين أو الممانعة، وسيكون على زعيمة المحور الثاني (سوريا) أن ترضخ لتسوية غربية أخرى باتفاق سلام مع إسرائيل بشروط مجحفة لإعادة الجولان وإنهاء التوتر في المنطقة العربية، بحيث يجري الانتقال لاحقا للسيطرة على الطرف الإيراني، سواء عبر اتفاقات سلمية أو غزو وضربات عسكرية على طريقة العراق، بعد تصفية أو "تحييد" مناصريه على الجانب العربي (سوريا وحزب الله) بحيث تعيش الدولة الصهيونية في أمان نسبي لأول مرة في تاريخها!.

وطبيعي أن يريح هذا السيناريو الصعب التحقق أمريكا على المستوى العالمي ويخفف الضغط عليها، ويسمح لها بالتفرغ لتجاوز أزمتها الاقتصادية واستعادة هيبتها ومشروعها للسيطرة على العالم خصوصا أن إدارة أوباما الجديدة تضم محافظين جددا متطرفين، وإن كانوا أكثر برجماتية من محافظي إدارة بوش.

وهنا فإن نجاح إسرائيل في إبعاد التهديد الذي تمثله الصواريخ التي تطلق من غزة، وفرض واقع جديد على الأرض يضعف حركة حماس لقدر كبير، قد يؤدي بفريق أوباما إلى إحياء المحادثات المباشرة بين إسرائيل وعباس بصورة أسهل عن قبل، بشأن اتفاق للسلام قائم على إقامة دولتين، تتحقق فيها رؤية إسرائيل لهذا الحل.

نظام سياسي عربي جديد

أما أحد أخطر تداعيات حرب غزة مستقبلا، ستكون على النظام السياسي العربي الداخلي وعلى النظام الإقليمي معا، وما لم يلتفت إليه أحد في غمرة هطول الصواريخ والقذائف الصهيونية على غزة، أن هذه الحرب والمباركة الغربية والعربية لها، تعني إجهاض وقتل فكرة تداول السلطة والتحول الديمقراطي السلمي في المنطقة العربية، وتحديدا رفض صعود ووجود حركة إسلامية تحكم ولو إقليما محتلا ومحاصرا (فما بالك بدولة مستقلة)!. وهذه ستكون هي النتيجة الأخرى لو جرى إنهاء حكم حماس المنتخب ديمقراطيا بقوة السلاح، ويطرح بالمقابل تشجيع العنف والتطرف في العالم كله على حساب الوسطية والاعتدال.

أيضا يرتبط بهذا إقليميا ودوليا، أن تعود الصيغة القديمة للتعامل بين الحكومات العربية من جهة، وأمريكا والغرب من جهة ثانية، والقائمة على تقبل الغرب وجود حكومات عربية علمانية قمعية لا ديمقراطية مقابل ضمان مصالحها في المنطقة -ومنها أمن إسرائيل– وذلك بدلا من تشجيع الغرب للديمقراطية في العالم العربي، أي الاتفاق الضمني على استبعاد استخدام الغرب لسلاح الديمقراطية للضغط على الحكومات العربية، طالما أن التجارب أثبتت أن الشعوب العربية -المتدينة بطبعها والحانقة على استشراء الفساد- تأتي بالإسلاميين غالبا في صناديق الاقتراع على غير رغبة الأنظمة العربية أو الغرب الذي يريد بدوره التعامل مع أنظمة تهتم بأمنها ومصالحها (التي يتحكم هو فيها) أكثر من اهتمامها بصالح "الدولة " ككل.

وخطورة هذا الرهان الغربي على هذا الخيار "غير الديمقراطي" في المنطقة العربية أنه يعمق من حدة الفجوة بين الشعوب والحكومات، وهو أمر ظهر بوضوح في حالة غزة، حينما مالت غالبية الحكومات "المعتدلة" ضد حماس وضد المظاهرات المؤيدة لها، وتعاملت معها بعنف و"تخوين"، في حين مالت الشعوب للمقاومة وصبت لعناتها على "تواطؤ" و"خيانة" الحكومات، بصورة تثير مخاوف من انفجار شعبي قادم قد يكون في صورة عنف يفضي لتغير أنظمة أو "تغيير قسري طبيعي" في ظل هرم العديد من القيادات العربية المرشحة للغياب، وعدم وجود سيناريو واضح للخليفة أو الوريث. وفي كل الأحوال، سيكون هناك "تغيير" ما سواء سلما أو عنفا يجعلنا نقول إننا على أعتاب ميلاد نظام سياسي عربي جديد، تختلف معالمه عن النظام العربي القائم حاليا.

ومع هذا، لا يعني وجود سيناريوهين فقط للتوقعات في هذا التحليل، أنه لا يوجد هناك سيناريو ثالث رمادي لا يميل للأبيض أو الأسود، فالأصل أن "الصمود" أو "الهزيمة" في هذه الحرب "درجات"، وليس صمودا كاملا أو هزيمة كاملة.

ومثل هذا السيناريو بدأ يميل له الطرفان في صورة إعلان إسرائيل – كدعاية – أنها تقترب من تحقيق أغراضها استعدادا لوقف إطلاق النار الذي ترتبه مصر بينها وبين حماس، كما أن حماس بدأت تميل لتقبل وجهة النظر المصرية الخاصة بالتفرقة بين شقي المبادرة المصرية، أي وقف القتال كشق أول، ثم التفاوض على حزمة الأمور الأخرى كالمعابر والانسحاب الإسرائيلي والأنفاق كشق ثانٍ.

وفي كل الأحوال سيخرج كل طرف ليعلن أنه انتصر، فالواقع يؤكد أن إسرائيل انتصرت "تكتيكيا" وانهزمت إستراتيجيا وأخلاقيا، أما حماس فقد كسبت سياسيا وأخلاقيا وأضحت طرفا أصيلا في معادلة الصراع لا مجرد "جماعة إرهابية"، كما أن شعبيتها زادت تماما كما هو الحال لحزب الله عقب معارك صيف 2006، وهو ما يجعلها مستقبلا رقما صعبا في حسم القضية الفلسطينية.

محمد جمال عرفة

المحلل السياسي بشبكة إسلام أون لاين.نت

زر الذهاب إلى الأعلى