آراء
مئة عام على ميلاد «المسحراتي»
«المسحراتي» هو الوصف الذي أطلقته الفنانة الكبيرة أم كلثوم على الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر، فقد كانت الفنانة ترى - وهي على حق - أن الأمة العربية كانت قبل جمال نائمة تعاني من سبات تاريخي وكانت في انتظار المسحراتي الذي يطرق أبواب أقطارها المغلقة وهو ينادي «أصحى يا نائم» شأنه في هذا الصنيع العظيم - من حيث شكل المهمة شعبياً - شأن «مسحراتي» ليالي رمضان الذي يطوف بالحارات والساحات وهو ينادي الصائمين «أصحى يا نائم وحّد الدائم» وهي مقاربة شعبية جديرة بالحديث والتأمل لاسيما في هذه المناسبة العظيمة، وهي مرور مئة عام على ميلاد المسحراتي جمال عبدالناصر الذي أيقظ الأمة العربية من سباتها الطويل وجعلها في وقت قصير تعيد النظر في واقعها مقارنة بما كانت قد وصلت إليه أمم أقل منها شأناً وأضعف إمكانات.
لقد كان النموذج الرفيع والقدوة المثلى للزعيم الذي لم يضعف أو يتردد تجاه حمل المسؤولية الكبرى التي أوكلها إليه القدر ووضع على عاتقه مهمة القيام بها في أقل عدد من السنوات، وهكذا ارتبط به وليس بأي زعيم أو قائد آخر مفهوم التحرر السياسي والاجتماعي وارتفاع صوت التحرر الكامل من الاحتلال الأجنبي الذي كانت جنوده تحاصر الخارطة العربية من أقصى المغرب العربي إلى أقصى المشرق العربي أو التعبير السائد من المحيط إلى الخليج.
ولعل أهم ما مثلته هذه القدوة أنها فتحت، العقول العربية الشابة خاصة على الحلم بالتغيير والتبشير بالقيم المستقبلية الداعية إلى الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة المتساوية. وفي عهده اختفت النزعات الطائفية وخمدت التطلعات المذهبية، وصار المستقبل والتفكير فيه والعمل من أجله هو الهدف والشغل الشاغل لكل الناس الذين كان الفراغ الفكري يدفع بهم إلى البحث في الزوايا والكتب الصفراء عن أسباب يفتعلونها للدخول في مناخ ملتهب من الخصومات والمنازعات التي تحولت في واقعنا الراهن إلى حروب واقتتال ونزوح عن الوطن.
صحيح أن أشياء كثيرة بعد رحيل الزعيم الخالد قد تغيرت وأن التجربة لم تكتمل إلاَّ أن ما تحقق منها وما رافقها من أحلام كبرى قد بقيت ملهمة للناس ليس في مصر العربية وحدها وإنما في سائر الأقطار العربية، فقد رسمت المستقبل بخطوطه العريضة مضيئاً وواضحاً لا لبس فيه ولا انحياز نحو يسار أو يمين، عروبة تنتصر لأبنائها وتَعِد بحياة جديدة يتساوى فيها الجميع ويجدون فيها الكرامة أولاً، والعمل ثانياً.
ولم يكن تطبيق مبدأ الإصلاح الزراعي في مصر وإنصاف ملايين الفلاحين سوى الخطوات الأولى لإنصاف الشعب من الأقليات المترفة التي كانت تزداد غنى ويزداد معها الآخرون فقراً وبؤساً. لقد جاء «المسحراتي» في الوقت المناسب والمكان المناسب ليصنع تجربة فريدة حاول أعداؤها في الداخل العربي وفي الخارج الأجنبي أن يخمدوها وينتصروا عليها فزادوها وضوحاً وتوهجاً وإشراقاً.
ومن تحصيل الحاصل القول بأن الوطن العربي قبل عبدالناصر كان مستعمرة أجنبية وإن كان بعض أقطارها يدار بأشخاص من ينتمون في الظاهر إليها. وكان الوطن العربي من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق ومن المحيط إلى الخليج في قبضة الاحتلال، وكانت مصر نفسها تحت الاحتلال البريطاني وقناتها ومصدر ثروتها الأولى تدار بأيدي البريطانيين والفرنسيين وخيراتها تذهب إلى هاتين الدولتين، وفي سنوات قليلة استعادت مصر سيادتها كاملة واستعادت معها القناة كما تمكنت الأقطار العربية في المغرب والخليج من التحرر وحتى الجزائر التي خضعت لاحتلال استيطاني، وكادت تكون جزءاً من «فرنسا الأم» حسب تعبير قادة الاحتلال تحررت هي الأخرى وعادت عربية كما أرادها الله وأرادها شعبها العظيم الذي قدم مليوناً ونصف المليون من أبطاله ثمناً للاستقلال والسيادة، وكان لمصر وللقائد العربي جمال عبدالناصر دور لا ينكر ولا يغمط في هذا الانتصار الكبير.