هل كتب النعمان مذكراته؟
ترددت كثيرا في الكتابة عن قضية مذكرات والدي ( أحمد محمد النعمان ) التي كثيرا ما يسألني الأصدقاء والمحبون عنها، ذاك أن الحديث عن إنسان هو الأقرب في حياتي لابد أن تختلط فيه الحقيقة بالعاطفة، ومن الصعب الفصل بينهما، وفي ذكرى مولده 26 أبريل 1909، حين ولد في قرية ذبحان -قضاء الحجرية- جنوب غرب تعز، أنتهز الفرصة لأنشر فيها أجزاء من رسالتين تبادلهما مع أقرب إنسان إلى قلبه وعقله في سنوات حياتهما الأخيرة ومنذ التقيا سنة 1978 ميلادية إلى أن فرقهما الموت. أقصد الشيخ الجليل الراحل عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري. (توفي النعمان في 26 سبتمبر 1996وتوفي التويجري في 10 يونيو 2007).
كان التويجري يلح على أن يكتب النعمان مذكراته، فخاطبه قائلا «يا نعمان اليمن: ماذا تعني خطواتكم ومسيرتكم وفقهكم إذا لم تفتحوا خطاب السريرة وتقرأوا كتابها علانية لصغاركم وشبابكم ولمن أتى على دربكم؟ يكتب هذه الرسالة لك أخٌ ودهُ لكل يمني وأمله في كل يمني. يا نعمان اليمن: ألا تدري من هو أقوى الرجال ومن هو أشجعهم ومن هو أكبرهم نفسا؟ هو ذاك الذي يعلن سريرته ويقرؤها علانية، يوم تكون في صالح الناس وعلى خط مسيرتهم».
لم يتراجع النعمان رغم إلحاح صديقه التويجري، وأخيرا كتب له رسالة قال فيها «سأودعك بهذه الرسالة. ومن يدري، فقد تكون وداعا للحياة غداً أو بعد غد. إنني كلما هممت بكتابة مذكراتي تموت الكلمات في فم القلم وتتجمد أناملي وترتعش يدي خوفاً من محاصرة الذكريات والأحداث والآلام والأحزان التي لا تحتملها شيخوختي وأعصابي. إنني أترك كل شيء، فليظلمني من يظلمني، سامحه الله، وليذكرني بالخير من يذكرني، جزاه الله خيراً، فالمذكرات في فهمي لها هي نوع مِن الضلال والقذف والظلم وعرض النفس وتزكيتها والإساءة إلى الموتى وإيذائهم وجرح مشاعر من ينتمي إليهم مِن الأحياء».
كتب النعمان «من لي؟ من يؤمنني من نفسي؟ كفى أيها الأخ عذابا.. لن أكتب المذكرات. لن أجرح من جرح نفسه، كما يتراءى لي. لن أحمل فأسا أهدم بها هذا وأعفي منها ذاك. رحم الله قومي وأهلي من يمنيين وغير يمنيين. لقد اختلفت كثيرا مع الآخرين وحملتني تصوراتي على معاداة حكام بلادي من الأئمة وغيرهم، من أجل المستضعفين مِن شعب اليمن، وطال الخلاف ودخلت السجون وتشرد كثيرون من أهلي وأسرتي وغيرهم من المواطنين، وآخر المطاف سجن الرئيس عبدالناصر رحمه الله يوم وقفت أنا وزملائي ورجال الحكومة اليمنية -مدنيين وعسكريين- وقفنا ذاهلين مأخوذين أمام البوابة الكبيرة للسجون الحربية نقرأ على لوحة نحاسية مثبتة على تلك البوابة (السجون الحربية للتأديب والتهذيب والإصلاح). رحم الله الرئيس عبدالناصر ما أطيبه وما أخلصه».
عاش النعمان ما تبقى من سنوات عمره بعيدا عن وطنه وأهله، لكن همومهم لم تفارقه يوما حتى يومه الأخير في 27 سبتمبر 1996 أي قبل يوم واحد من ذكرى وفاة عبدالناصر، الذي لم يحقد عليه النعمان رغم أنه أودعه في سجن انفرادي لأكثر من عام لم يرَ خلاله الشمس إلا لحظات قليلة عندما يسمح له السجان، بل إنه بكاه حين كان ينعيه، كما لم يحمل حقدا على الإمام أحمد الذي سجنه لسبع سنوات في حجة وأعدم عمه الشيخ عبدالوهاب نعمان. علق التويجري على هذا فقال «رحمك الله يا نعمان، إنك تملك نفساً طاهرة وقلباً وما أكثر ما مسحت دموع عينيك عند موقف مؤثر تقرأه عن إنسان مظلوم أو بائس. أشهد لك بذلك وأعتز كل الاعتزاز برسالتك هذه التي تشحنها نصحا».
في رسالته إلى صديقه التويجري قال «اليوم ويدي صفر من نتيجة آمالنا الكبار التي سقط من أجلها الشهداء في اليمن وفِي الوطن العربي الكبير وسائر أقطار الإسلام، لا شيء أقوله إلا: اللهم لطفك ورحمتك بعبادك الضعفاء. خذ هذه الرسالة دعوة مخلصة ومودعة أيضا لما يقال عنه (سياسة)».
قد أكون هنا أوضحت لكل مهتمٍ ومحبٍ كيف كان النعمان ينظر إلى قضية المذكرات، وكان يردد علينا أنه لا يحتمل استعادة المعاناة التي مر بها خلال سنين عمره التي قضى أغلبها مشردا، لأنه ما تمكن من التكيف مع السياسة التي كانت تبعده عما يُؤْمِن به من ترفع ونزاهة مقصد وابتعاد عما تلحق بضعفاء النفوس من فساد يجعلهم أسرى لمباهجها.
* كاتب يمني وسفير سابق