حب بتقديس أو شيطنة!
"ان حبتك عيني ما ضامك الدهر" مثل شعبي وكنت أسمع هذا المثل، يتردد، وأظنه ينحصر في العلاقات الشخصية. ولكن تبين لي ويا للأسف، يطبق في كل حالات الإنسان العربي، وحتى لا أتهم بالتعميم المخل، دعني أقول إن الكثير والكثير ممن يتعرضون للأمور العامة وينتقدون الساسة وأهل الفكر والرأي، مصابون بهذا الداء الكبير.
من نحب منهم، مقبول الرأي ومقبول الفعل ومغفور الخطأ، بينما المكروه هو مرفوض الرأي مرفوض الفعل وخطأه غير مغفور ويصدق فينا قول القائل
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** وعين السخط تبدي المساويا
هذه حقيقة لا تنكر، شاهدتها ومررت بها كتجربة شخصية، ولنضرب مثال.
عندما انتقد تصرفا ما لشخص، وبعد أن أكون قد كتبت نصف المقال في ذكر الأفعال الحسنة التي قام بها والنصف الثاني في نقد بعض ما فعل،للأسف تجد الكثير ممن يخالفون هذا الشخص، ينطلقون في سبي، وإني أحسّن وابيّض هذا الشخص وأطبل له، أما المؤيدون له، فيهاجمونني، ويبدؤون في سبي أيضا فكيف أتجرأ على نقد محبوبهم،
بينما يرى الكثير ممن ليس لديه فكره مسبقة ان المقال متوازن، ذكرت فيه الحقائق في كلا الاتجاهين.
يرى الأول أني أطبل لفلان عندما اذكر محاسنه ويرى الأخر إني أطبل للآخر عندما أذكر سيئة له.
لماذا لا نتعود أن نتقبل مساوئ أو أخطاء من نحترم أو لنقل نحب من الدعاة أو المشايخ أو الساسة؟
لماذا إذا كرهنا نكره بحقد، وإذا أحببنا نحب بتقديس، لا اعتدال لدينا في الحب والكره؟
لماذا نخلط الحب والكره والمشاعر الشخصية في السياسة والرأي؟
هنا نأتي للمشكلة الثانية، وهي أخطر من الأولى، ففي عقلنا العربي أصبح قبول شيخ أو داعية أو سياسي ما بمثابة حب لشخصه وليس لفكره، نتعلق بالشخص، ثم تبدأ عملية التحويل إلى الرمز ثم التأليه ثم... تعرفون البقية التي طالما عانينا منها.
وعندما نكره شخصية عامة ما أو رجل دولة، فنحوله إلى شيطان، نكرهه ونحاربه، وحتى إن صدق في فكرة أو فعل أو نقطة ما، نكرر قول " صدقك وهو كذوب " أو نبحث في نواياه، ونحاكم فكره على ما نظن إنها نواياه.
هذا النوع من الحدية إما إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار في فكرنا وتصرفنا حيال الأمور العامة يجعلنا نفقد عامل هام من عوامل رقي المجتمعات وتطورها. وصدق قول حافظ إبراهيم،
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا.. فالشر في التقييد والإطلاق
إذا كنا نظن أن دول العالم المتقدمة وصلت لهذه المرحلة بقيادة " س" من الناس أو " ص". فهذا خطا، لقد وصلت إلى هذه المرحلة بتلاقح الأفكار وانتخاب الجيد،أفكار اليمين وأفكار اليسار، أفكار الحزب الجمهوري وأفكار الحزب الديمقراطي، أفكار حزب المحافظين وأفكار حزب العمال، حتى في إسرائيل، الدولة اللقيطة، تأسست في الأمس، يوجد تلاقح بين أفكار حزب العمل والليكود و كاديما، وينتخب الأنفع والأصلح للدولة وسياستها، وخطتها التنموية.
هذا التلاقح ينتج أفكار جديدة، ويبنى المجتمع على كم كبير من الموروث الفكري الجماعي، قد نراه متناقضا في أحيان، ولكنه هو الطريق الوحيد لمعرفة الطريق الصحيح.
يجب ان نقلع كلنا عن " حب " الساسة ورجال الدولة، وان نراهم ليس كأشخاص، بل كأفكار، قد نتفق في نقطة ونختلف في نقاط، نناقشهم وننتقدهم ونمدح الجيد في فكرهم وننبه على الذي نراه خطأ فيهم، فإذا لم نفعل ذلك فلن نتحرك خطوة إلى الإمام. بل سيصدق فينا قول احد مذيعي راديو العراق عندما قامت إحدى الثورات في وقت توالت الثورات في العسكرية في العراق وسوريا، فعلق على الهواء مباشرة، " الحميّر هو حميّرنا بس الجلال تغير " أي انه تم فقط تغيير البردعة ولكننا بقينا على نفس الحمار ( الحميّر تصغير حمار).
ليس كل من انتقد شخصية محبوبة لدينا هو خائن أو طابور خامس أو صاحب فتنة، بل يجب نقبل انتقاده، وحتى إن لم نتفق معه، ونترك فرصة مفتوحة له ولنا للنقاش.
كم أتمنى أن نعي قولان مشهوران في فقهنا، الأول، إن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، والثاني، أن الحكمة ضالة المؤمن، فأنا وجدها فهو أحق بها.
لقد ناقش إبليس ربنا جل وعلا، وسمع منه وناقشه، بل وحتى انه سبحانه وتع إلى أمهله، وسمع الله من فوق سبع سموات من كانت تجادل رسول الله، وأنزل بها قرآنا يتلى إلى يوم يبعثون، إذا كان هذا ربنا، وهذا نبينا، وهذا ديننا، فلماذا نحن متعصبون، لا نقبل برأي مخالف ولا نقبل نقاشهم. بل ونكيل لهم صنوف التهم؟