سلاح سرقة المساعدات: التجويع كأعلى مراحل الحرب في اليمن
عندما توقفت شاحنة في إحدى ضواحي محافظة إب جنوبي غرب اليمن، تحمل على متنها مساعدات غذائية مقدمة من برنامج الأغذية العالمي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تجمع العشرات من السكان لتسلمها، وسط همس بعضهم باستغراب كيف للمساعدات هذه المرة، أن تصل دون عناء، فيما المعتاد، وفقاً للوعي الذي بات سائداً لدى أعداد غير قليلة من اليمنيين، أن غالبية المساعدات الغذائية يتم بيعها في الأسواق أو توزع في نطاقات محصورة، بما في ذلك على غير المستحقين.
وبعد ما يقرب من ساعتين على مغادرة الشاحنة، التي وزعت أكياساً يضم كل منها كيلوغرامين من خليط القمح والصويا وهي جزء من منحة قدمتها اليابان، ابتسم أمين أحمد، وهو مالك أحد محال المواد الغذائية، وقال، لـ"العربي الجديد"، الآن فهمت لماذا قاموا بتوزيع المساعدات، ووضعوا لدي كمية أوزعها على الذين لم يحصلوا عليها من الشاحنة خلال تواجدها. أما الإجابة، فقد كانت في تاريخ انتهاء الصلاحية المدون على السلعة، إذ تم توزيعها بعد شهر من انتهاء الصلاحية أو الفترة المفضلة للاستهلاك، لكن أحمد قال إن المساعدات تُباع، في العادة، عبر السوق السوداء، وهي لم توزع إلا كنتيجة لانتهاء الصلاحية.
ولدى سؤال صحيفة "العربي الجديد" برنامج الأغذية، حول ما إذا كان البرنامج يسمح بتوزيع المساعدات منتهية الصلاحية أم أن شركاء المنظمة المحليين قاموا بتخزينها لبيعها ثم اضطروا لتوزيعها بعد انتهاء الصلاحية؟، ورداً على الاتهامات التي وجهها القيادي في جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، محمد علي الحوثي، بشراء مساعدات منتهية الصلاحية، قالت مسؤولة الإعلام، ريم ندا، إن هذه المعلومات تتطلب مراجعة مكتب البرنامج، لكن الشحنات تخضع في العادة للرقابة قبل دخول اليمن.
في العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى في البلاد، يبرز شعار برنامج الأغذية العالمي وآخر للجنة الدولية للصليب الأحمر، على منتجات معروضة في العديد من محال بيع المواد الغذائية، بما فيها أكياس القمح وعبوات زيت الطبخ وغيرها من المواد، كالفاصولياء. كما أنها تباع أيضاً في نقاط متفرقة على الأرصفة.
ويرفض بالعادة البائعون الكشف عن مصدرها.غير أن جزءاً منها، يأتي كنتيجة لقيام يمنيين من الأسر المحتاجة ببيعها مقابل المال الذي يوفرون به حاجيات أخرى، لكن الجزء الآخر والأكبر، والذي جاء بيان "الأغذية العالمي" ليعززه هو أن هناك عملية سرقة تطاول الطعام المخصص ليمنيين يعيشون أوضاعاً تشبه المجاعة. ويحاول الحوثيون الحصول على المساعدات بشتى الطرق، إذ إن هناك 10 سفن جديدة، تحمل مساعدات ومشتقات نفطية، ستصل قريباً إلى مرفأي الحديدة والصليف.
وقبل أن يصدر البرنامج، بيانه اللافت، الإثنين الماضي، كانت الأضواء قد سلطت على القضية، بعدما أكد صحافيون وعاملون في أكبر صحيفة حكومية يمنية يسيطر عليها الحوثيون في صنعاء، وهي مؤسسة "الثورة"، أنهم تلقوا اتصالات من برنامج الأغذية العالمي للتحقق مما إذا كانوا حصلوا على مساعدات شهرية (سلة غذائية)، تصرف بأسمائهم، في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها الموظفون بمناطق سيطرة الحوثيين، جراء انقطاع مرتباتهم الشهرية منذ أكثر من عامين، لكن العاملين في الصحيفة فوجئوا بالاتصال وبأن هناك مساعدات تصرف لأسرهم ولا تصل، قبل أن يبُلغوا أن المساعدات تُصرف شهرياً منذ بداية العام 2018.
ومأساة موظفي القطاع العام، هي واحدة من أسوأ أوجه الأزمة الإنسانية الكارثية في البلاد منذ سنوات، إذ تحول ما يقرب من مليون يمني، من موظفين توفر لهم وظائفهم الحكومية حداً أدنى من الأمان المعيشي، إلى فقراء، يعيش البعض منهم وضعاً يشبه المجاعة، واضطر آخرون إلى مزاولة مهن أخرى لتوفير ما يطعم أسرهم، ليأتي الخبر الصادم، بوجود مساعدات غذائية شهرية لموظفي بعض الجهات الحكومية على الأقل، تعرضت للنهب في الخفاء، وهو ما دفع المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، لوصف ما حدث ب"السلوك الإجرامي"، وبأنه "سرقة للطعام من أفواه الجياع".
وتواصلت "العربي الجديد"، مع أكثر من يمني، بعضهم يشكو عدم تسلم مساعدات غذائية قاموا بالتسجيل للحصول عليها، للتخفيف من الأزمة المعيشية الخانقة، وهناك آخرون أفادوا بأنهم يتسلمون المساعدات كل عدة أشهر، فيما يقول برنامج الأغذية العالمي إن مساعداته الشهرية مخصصة للوصول إلى ما يقرب من ثمانية ملايين يمني، وهو ما يعني أن ما نسبته 26 في المائة على الأقل من اليمنيين يتسلمون مساعدات غذائية شهرية تخفف عنهم الجوع. وفي الواقع، عندما يتم إسقاط النسبة في أي منطقة أو مدينة، تبدو النتائج مختلفة. وأشار برنامج الأغذية العالمي إلى منظمة محلية مرتبطة بوزارة التربية والتعليم الخاضعة للحوثيين، ويشغل منصب الوزير فيها يحيى الحوثي (شقيق زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي).
والمنظمة هي "مشروع التغذية المدرسية والإغاثة الإنسانية"، التي يرتبط اسمها بأغلب الأخبار التي تتحدث عن عمليات توزيع المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي، لكن رد الحوثيين قال إنه "سبق مطالبة البرنامج بتسليم قائمة بأسماء الجهات أو الشخصيات محل الاتهام، خلال اللقاء بمدير الطوارئ والإغاثة ببرنامج الغذاء العالمي عمر الداؤودي، والممثل المقيم لبرنامج الأغذية، ستيفن أندرسون، في صنعاء منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، واللذين اتهما جهات حكومية (خاضعة للجماعة)، دون تسميتها، ولم يقدما مذكرة رسمية، وإنما اكتفيا بالحديث العام"، حسب بيان محمد علي الحوثي، الذي أضاف اتهاماً آخر للبرنامج بشراء مساعدات منتهية الصلاحية، منعت سلطة الجماعة دخولها إلى البلاد.
وعلى صعيد أزمة الأغذية مع الحوثيين، أظهر بيان البرنامج والجماعة، أنها ليست جديدة، وإنما وصلت إلى المرحلة التي خرجت فيها من إطار المفاوضات والاتصالات غير المعلنة إلى الرأي العام والاتهامات المتبادلة علناً، وهو ما يبدو واضحاً في بيان برنامج الأغذية العالمي، والذي أفاد بأن سلطات الحوثيين قاومت مراراً محاولات البرنامج إجراء إصلاحات، بما في ذلك، إدخال نظام التسجيل البيومتري للمستهدفين من المساعدات، للتأكد من وصول الأخيرة إلى مستحقيها، الذين يتضورون جوعاً نتيجة للأزمة الاقتصادية والحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات، إذ إن ما يزيد على 20 مليون يمني بحاجة إلى المساعدات.
تتنوع أوجه شبهات ممارسات الفساد، بين حرمان أعداد كبيرة من المستحقين المدرجة أسماؤهم في كشوفات الرصد، وبين قوائم وهمية يتسلم مستحقاتها نافذون، بالإضافة إلى الاتهامات للحوثيين بتقديم الأولوية لأسر الضحايا من أتباعهم أو الموالين للجماعة. وفي الوقت الذي لم يُكشف فيه رسمياً عن نسبة ما يتم التلاعب به من المعونات الغذائية، تتحدث بعض التقارير عما يصل إلى 60 في المائة، وهي نسبة كبيرة، إذا ما تأكدت، فإنها تعني سرقة معونات الملايين من اليمنيين.
الجدير بالذكر، أنه وفي بلد يعيش حرباً كارثية وأزمة إنسانية هي الأسوأ بالعالم، وفقاً لبيان منظمات الأمم المتحدة، تعد قضية كنهب المساعدات الغذائية تطوراً له ما بعده، على أكثر من صعيد، إذ من الواضح أن وكالة الأمم المتحدة للأغذية ألقت بالمسؤولية على سلطات الحوثيين، وهي خطوة يرى بعض اليمنيين أنها تأخرت، بالنظر لكون المعلومات عن إساءة في الاستخدام والتوزيع، ليست حصرية في الأشهر الأخيرة بالضرورة، غير أنه بات على الحوثيين في المقابل، أن يكشفوا لليمنيين المسؤولين عن نهب الغذاء المخصص لإغاثة الجياع، واتخاذ كل ما من شأنه أن يوقف التلاعب بالمعونات على الأقل، خصوصاً أن الأزمة يمكن أن تلقي بظلالها على الموقف الدولي الداعم للتسوية مع الجماعة، وعلى ثقة المنظمات الإنسانية العاملة في البلاد، والتي لعبت دوراً في وقف العملية العسكرية للتحالف والقوات الحكومية في الحديدة.
ترحيب حكومي
وفي تصريح لـ"العربي الجديد"، قال وزير الإدارة المحلية في الحكومة الشرعية ورئيس اللجنة العليا للإغاثة، عبد الرقيب فتح، إن بيان برنامج الأغذية العالمي، يؤكد ما تشير إليه التصريحات والبيانات الحكومية "حول قيام مليشيات الحوثي الانقلابية بنهب واحتجاز المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرتها وحرمان المستفيدين من المخصصات الإغاثية".
وأضاف "نشيد بهذا البيان الذي يدين المليشيات مباشرة بسرقة الإغاثة من أفواه الجياع والتلاعب بأسماء المستفيدين وتزوير كشوفات التوزيع لصالح المنتمين للمليشيات، ونهب المساعدات وبيعها".
وتحدث الوزير اليمني عن أن الحكومة وفي إطار مساعيها لضمان إيصال المساعدات الإغاثية إلى جميع المحافظات اليمنية دون استثناء، اتخذت تدابير، منها طرح خطة مع المنظمات الدولية باعتماد لامركزية العمل الإغاثي وتقسيمه إلى خمسة مراكز، تتخذ من عدن مقراً للمركز الإغاثي الإداري الأول، ومن خلاله نقل المساعدات إلى محافظات عدن، ولحج، وأبين، والضالع، وتعز، وإب، والمركز الإغاثي الإداري الثاني في محافظة الحديدة، ويتم من خلاله التوزيع إلى محافظات الحديدة، والمحويت، وريمة، وحجة، ومركز ثالث في مأرب، يشمل محافظات مأرب، والجوف، والبيضاء، ورابع في صنعاء ويتم التوزيع من خلاله إلى محافظات صنعاء، وعمران، وصعدة، وذمار. ويكون المركز الخامس في محافظة حضرموت ليتم التوزيع من خلاله على محافظات حضرموت، وشبوة، والمهرة، وسقطرى.
وحمّل فتح الجماعة "المسؤولية الكاملة عن تدهور الوضع الإنساني" في مناطق سيطرتها. ونفى، في الوقت ذاته، وجود عراقيل في المناطق الخاضعة للشرعية، قائلاً إن "العملية الاغاثية في المحافظات المحررة تسير بشكل طبيعي وفعال"، وإن "كافة الإعاقات لعمل المنظمات الإغاثية تقع في مناطق خاضعة لسيطرة الانقلابيين".