قطر والأمريكان.. أسرار العلاقات المتينة

قطر والأمريكان.. أسرار العلاقات المتينة

عندما تولى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم في بلده في شهر يونيو من عام 1995، كان حريصا في البيان الذي ألقاه على عدم المساس بالصورة الإيجابية لوالده الأمير السابق، ولم يسمح لوسائل الإعلام القطرية أن تنال من والده، أو تكتب عن سلبيات السنوات الأخيرة في حكمه طالما وقد تسابقت دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاعتراف بالحكم الجديد، ونشرت كل وسائل إعلامها تقريبا مديحا في الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، مؤكدة أنه هو الحاكم الفعلي الذي ظل يدير شئون الحكم في البلاد أثناء جلوس والده حاكما على عرش الدوحة.

بعد مضي أكثر من نصف عام على استتباب الأمن والحكم والشرعية للحاكم الجديد فوجئ القطريون بطائرات سلاح الجو البحريني وبدعم سعودي تحلق في مظاهرة تأييد وحماية لجولة الأمير الأب الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وتأكيده في كل العواصم الخليجية والقاهرة ودمشق أنه بات قريباً من العودة حاكما لقطر، وأنه يمثل الشرعية الوحيدة في البلاد؛ وهو ما يعني في نهاية المطاف أن سيناريو العودة سينهي إلى غير رجعة الأمن الذي تتمتع به الدوحة، الأمر الذي سيجعل حمام الدم يصل إلى كل شبر من هذه الدولة الصغيرة الآمنة، فالعائلة كلها أو معظمها بايعت الأمير الجديد، وخرجت القوات المسلحة ورجال الأمن وأفراد الشعب والجيران والأصدقاء ودول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية تؤيد الأمير الجديد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وبالتالي لا يمكن لأي عاقل أن يحسب أن عودة الأب حاكماً لقطر من جديد تعني العفو عن الأمير الإبن ومعظم أفراد العائلة الحاكمة ورجال القوات المسلحة والأمن والسفراء ورجال المال والإعلام والمثقفين وعدد كبير من أفراد الشعب ممن بايعوه وأيدوه، وهو ما دفعه للتصدي لهذه المحاولة الانقلابية وإفشالها في لحظاتها الأولى.

ومن هنا، وجد الشيخ حمد نفسه أمام معطيات ينبغي عليه التعامل معها فيما يخص علاقاته بجيرانه، حيث يرى بعض المراقبين أن محاولة عودة والده المدعومة سعوديا، قد شكلت بالنسبة له صدمة حقيقية، وأثرت على نظرته نحو من اعتبر أنهم الداعمون لعودة الحكم السابق، كما أدى إلى تنامي الشعور لديه بأنه قد بات مستهدفاً من قبل بعض جيرانه بشكل أكيد.

إجراءات من أجل حماية الحكم واستقلال القرار

لاشك أن الهواجس الأمنية التي سيطرت في حينها على مشاعر الحكام الجدد في قطر قد جعلتهم يؤكدون من خلال إعلامهم المفتوح بأن تلك المحاولة الانقلابية قد علمتهم أن الخطر على وجودهم السياسي يأتي أحياناً من جيرانهم الأقربين، وأن الطريق الوحيد لحماية حكمهم وتحرير قرارهم من وصاية الجيران يمر عبر البوابة الأمريكية، وأن ذلك يقتضي شيئاً من الانفتاح الأمني والعسكري على الجانب الأمريكي، ومن أجل ذلك اتخذوا قراراً بتوسيع مجالات اتفاقية الحماية العسكرية الأمريكية المبرمة عام 1992م، وبموجب هذا التوسع أصبحت منطقة «العبيدية» القطرية تضم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية، وفيها أكبر مدرج للطائرات الأمريكية، إضافة إلى قاعدة «السيلية» التي تعد منطقة اتصال هامة للقوات الأمريكية في المنطقة ومقراً للقيادة الميدانية.

وبهذا فإن قطر باتت تستضيف أهم بنية تحتية عسكرية للأمريكان، إضافة إلى المقر الميداني للعسكرية المركزية الوسطى في العالم، وذلك لحماية قطر من أي تهديد من جيرانها وبما يعزز ويقوي مركزها القيادي واستقلالية قرارها السيادي وبما يضمن لها دوراً دولياً، إضافة إلى الحماية الأمنية، كما يضمن لها تواجداً قوياً ومؤثراً في التجمع الإقليمي لدول الخليج بالشكل الذي يوازي الدور السعودي وينافسه، وفي هذا الاتجاه شجعت قطر الأمريكان لنقل قواتهم العسكرية من المملكة السعودية إلى قطر، وأعطتهم تسهيلات إضافية في تنفيذ العمليات العسكرية، والقيام بمهمات الحظر الجوي على العراق بدون تلك الشروط التي كانت تشترطها المملكة، ومنذ ذلك الحين انتهج حكام قطر استراتيجية إقليمية جديدة تتمتع باستقلالية سيادية من شأنها الإسهام المباشر في تسوية المنازعات الإقليمية والأزمات الداخلية والحروب الأهلية في المنطقة على النحو الذي يمكنها من منافسة الدور السعودي في المنطقة والتخندق في المواقف الإقليمية المناهضة للسياسات السعودية أهم الحلفاء الرئيسيين للأمريكان في المنطقة.

استراتيجية إقليمية قطرية مناهضة للسياسات السعودية

في سبيل تعزيز مسارات الاستراتيجية القطرية الجديدة قام الشيخ حمد بعدد من الخطوات المهمة التي من شأنها تعزيز استراتيجيته الإقليمية الجديدة ومن ذلك الانفتاح على الجماعات والأحزاب السياسية المعارضة للأنظمة الحاكمة في المنطقة بما في ذلك الجماعات الإسلامية المعارضة للحكومة السعودية، واستيعاب بعض تشكيلات المنظمات الجهادية، إضافةً إلى ذلك قيام قطر باستقبال قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد طردهم من الأردن.

وقد تزامنت هذه الخطوات مع قيام الحكومة القطرية بإجراء إصلاحات سياسية وإعلامية داخلية، ولعل المشروع الأهم الذي حمى به الشيخ حمد حكمه هو إطلاقه لقناة «الجزيرة» التي أصبحت سلاحاً ضارباً للسياسة الخارجية القطرية، وقد أصبحت أهم محطة فضائية عربية على الإطلاق، حيث استطاعت في غضون فترة زمنية قصيرة أن تهيمن على الرأي العام العربي وتصبح عنوانا للانفتاح الإعلامي، وتهمّش الوسائل الإعلامية الأخرى سواء المصرية أو السعودية؛ وتحاشيا لأي ردود فعل أمريكية متوقعة جراء هذه السياسة القطرية المناهضة لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة قام القطريون بتوقيع اتفاق أمني مع الولايات المتحدة إضافةً إلى الانضمام إلى المشروع الدولي لمكافحة الإرهاب وكذا الانخراط في المشروع الأمريكي المنادي بالإصلاحات وتقوية الديمقراطيات في المنطقة العربية وتشجيع حرية الإعلام والنشر وتعزيز الحريات العامة.

سيطرة أمريكية على مخرجات الاستراتيجية القطرية

بموجب الاتفاق الأمني الموقع بين قطر والولايات المتحدة إضافةً إلى استيعاب الاستراتيجية القطرية لمجمل التوجهات الأمريكية وكذا الانخراط القطري المباشر في كل مشاريع الإصلاحات الأمريكية في المنطقة تكون قطر قد تمكنت فعلاً من استقطاب الموقف الأمريكي الداعم لصالحها، وفي الوقت نفسه تكون الولايات المتحدة الأمريكية بموجب هذا الاتفاق الأمني قد تمكنت من السيطرة على العلاقات القطرية مع الجماعات الإسلامية والمنظمات الجهادية وكذا الكيانات السياسية المعارضة للأنظمة الحاكمة في الدول الحليفة للأمريكان، وأيضاً السيطرة على مخرجات العلاقات القطرية مع الأنظمة الحاكمة في الدول المناهضة للسياسات الأمريكية في المنطقة ضمن برنامج أمني متفق عليه مع الأمريكان.

الأمر الذي ينبغي ملاحظته أنه في ظل هذه العلاقات القطرية الأمريكية الراسخة والتعاون الأمني الوثيق فقد شهدت السنوات الأخيرة أن تمددت استراتيجية قطر الإقليمية وازدادت توسعاً لتشمل مناطق نفوذ جديدة أبعد من محيط قطر الخليجي حيث مارست قطر أدواراً دبلوماسية مؤثرة في المنطقة وأطلقت عدة مبادرات للتسويات بين العديد من الأطراف المتصارعة كما هو الحال في لبنان وفي السودان وفي اليمن.

الملاحظ أن كل هذه التحركات الدبلوماسية القطرية في المنطقة ومجمل المبادرات التي أطلقتها قطر للتقريب بين أطراف الصراع قد انطلقت من قاسم مشترك واحد ولكنه ثلاثي الأبعاد وهو:

• حساسية العلاقة القطرية مع الرياض.

• ودية العلاقة القطرية مع إيران.

• سوء العلاقات الإيرانية مع الرياض.

الأمر الأهم الذي ينبغي الإشارة إليه أن مجمل هذه التحركات القطرية في المنطقة وخاصة بعد مؤتمر الدوحة من أجل غزة قد أخذت طابع التمحور حيث برزت قطر في إطار محور ما يسمى (الممانعة) بقيادة إيران وسوريا كأهم دولتين مناهضتين للسياسات الأمريكية في مواجهة محور (الاعتدال) بقيادة مصر والسعودية كأهم حليفين استراتيجيين للولايات الأمريكية في المنطقة، الأمر الذي يعني أن التحركات القطرية في إطار هذا الوضع المتمحور أصبحت على ارتباط وثيق بالتحركات الإيرانية في أهم المواقف الحساسة مثل فلسطين، ولبنان، واليمن والبحر الأحمر وأخيراً منطقة القرن الأفريقي التي وضعها الحراك القطري مؤخراً مع هبات الرياح القادمة من طهران في إطار الترويج للمبادرات الإقليمية لتسوية الصراع في الصومال وخاصةً بعد إحياء العلاقات القطرية الإريترية عقب إحياء العلاقات الإريترية الإيرانية وفي الوقت الذي تكون فيه إريتريا قد عانت كثيراً من آثار انسداد علاقاتها مع أمريكا ومحاصرتها من قبل المجتمع الدولي.

العجيب في الأمر أن هذا الحراك القطري المثير ورغم انخراطه بمحور (الممانعة) وارتباطه الوثيق بالتحركات الإيرانية في المنطقة، إلا أنه لم يثر حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية ولم يدفعها حتى لتوجيه التحذير لقطر حتى الآن وهو ما دفع العديد من المراقبين للتساؤل عن السر وراء هذا الموقف الأمريكي الغامض من قطر؟

طبعاً من الصعب الإجابة على هذا السؤال من دون الوقوف على خلفية العلاقة الأمريكية القطرية وكذا التعرف على شكل وطبيعة التعاون الأمني بين قطر والولايات المتحدة لإدراك سر التفهم الأمريكي لهذا الحراك القطري في المنطقة.

تفهم أمريكي مدروس

من خلال قراءة متأنية لشكل وطبيعة العلاقات العسكرية والأمنية بين قطر والولايات المتحدة؛ يستطيع أي مراقب أن يرصد أسرار التفهم الأمريكي للحراك القطري في المنطقة والتي يمكن رصدها على النحو التالي:

أولاً: أن قطر قدمت للولايات المتحدة ولا تزال تقدم المزيد من التسهيلات العسكرية والمزيد من التعاون الأمني مقابل أن تقوم قطر بممارسة بعض الأدوار في المنطقة في إطار استراتيجيتها الإقليمية الهادفة إلى تسوية المنازعات الإقليمية في المنطقة خصوصا تلك القضايا والمنازعات التي تمنح قطر البريق الإعلامي كدولة تمارس أدوارها السيادية بكل استقلالية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لا تريد أن تخسر مكاسبها العسكرية والأمنية طالما وأن قطر باتت تستضيف أهم بنية عسكرية وأمنية لها مقابل بعض المواقف الدعائية التي تكسبها قطر، وبدعم من الأمريكان.

ثانياً: أن الولايات المتحدة تدرك أن قطر وإن مارست بعض الأدوار التي تظهر فيها كدولة كبيرة إلا أنها في حقيقتها دولة صغيرة ولا تتمتع بقوة استراتيجية بالشكل الذي يؤهلها إلى حماية مواقفها أو تنفيذ مبادراتها وقراراتها؛ وبالتالي فإن أمريكا تدرك أن المناهضين لسياستها في المنطقة قد لا يستفيدون من مواقف قطر سوى الناتج الدعائي والأثر المعنوي والنفسي فقط.

ثالثاً: أن الدوحة تحولت إلى أهم منتدى في المنطقة للتقريب بين الأطراف والمحاور والأديان والثقافات وأصبحت تستقبل قادة الفكر والسياسة من كل الألوان والأديان، وهذا أمر مفيد للأمريكان حيث تستطيع أمريكا من خلال هذا المنتدى قراءة تراث المنطقة وأحوالها ومزاجها بكل التفاصيل، كما أن الولايات المتحدة تستطيع من خلال هذا المنتدى تمرير مشاريعها وعرض أفكارها أو على الأقل اختبار مشاريعها في المنطقة، وأخذ الآراء والانطباعات والمواقف إزاءها قبل إنزال هذه المشاريع للتطبيق في المنطقة، وبالتالي أصبحت الدوحة بالمنظور الأمريكي أهم منتدى للترويج للمشاريع الأمريكية في المنطقة.

رابعاً: أن الولايات المتحدة ورغم سيطرتها الكاملة على حلفائها في المنطقة إلا أنه من المصلحة لها أن لا يظل حلفاءها يمنون عليها بخدماتهم، بل من المهم أن يظل هؤلاء الحلفاء بالنسبة لها على الأقل تحت الضغط النفسي والخوف الدائم من قدرة أمريكا على صناعة حلفاء جدد في ذات المحيط ولو كانوا صغاراً.

خامساً: أمريكا تدرك أيضاً أن حلفاءها الكبار في المنطقة يمارسون الاستبداد، ويقمعون معارضيهم، وينتهكون حرية الإنسان، ويمنعون حرية التعبير والصحافة والإعلام المفتوح، أي أن هؤلاء الحلفاء باختصار ينتهكون المبادئ الأمريكية وهو ما يعرض قادة الإدارة الأمريكية للمسائلة أمام الكونجرس وبعض المؤسسات الأمريكية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة تستفيد من الوضع الجديد لدولة قطر لتسليط الضوء من خلالها على حلفاءها بغرض الكشف عن تلك الانتهاكات التي يمارسونها، وبالتالي تحسين موقف الإدارة الأمريكية أمام الكونجرس، خاصة إذا ما تمت الإشارة من قبل قادة الإدارة الأمريكية المساءلين إلى قناة الجزيرة التي وإن حرضت على الأمريكان وإسرائيل إلا أنها تمارس الإعلام الحر والمفتوح وتكشف عن الأخطاء الكبيرة التي يمارسها حلفاء أمريكا في المنطقة ضد الحريات وحقوق الإنسان، ومثل هذا الدور لاشك يخفف من الضغط على قادة الإدارة الأمريكية الذين يعرضون للمسائلة أمام الكونجرس وبعض المؤسسات الفاعلة.

سادساً: صحيح أن الولايات المتحدة لها خصوم في المنطقة من المعارضين لسياستها من أنظمة دول الممانعة، ومن الكيانات السياسية، والجماعات الجهادية، ولكنها -في حقيقة الأمر- لا تريد أن تنغلق على خصومها وتغلق قنوات التواصل معهم، ولا تريد أن تنقطع عن جمع المعلومات عنهم خاصة وهي وضعت في حسابها أنها ستتبنى -ولو على المدى البعيد- فتح الحوار معهم، وبالتالي فإن قطر تظل هي الوسيط الأمريكي الدائم في المنطقة لتوثيق أحوال هذه الكيانات المناهضة للأمريكان، أو هي في حقيقة الأمر مكتب اتصال دولي للكيانات المعارضة غير الرسمية التي يصعب على الأمريكان التواصل بهم عبر المؤسسات الدبلوماسية الرسمية للخارجية الأمريكية، وبالتالي لا يوجد مانع أمريكي أن تظل قطر على صلة بهذه الكيانات المناهضة طالما وأن أمريكا تأمن شر الجانب القطري، أو على الأقل أن مستوى قطر العسكري والأمني، وحجمها في الميزان الاستراتيجي في المنطقة لا يؤهلها لأن تصبح مصدر تهديد للولايات المتحدة، وبالتالي فإن مواقف قطر المتماهية مع مواقف الكيانات المناهضة للأمريكان تظل مواقف غير منتجة تفتقد إلى القوة الاستراتيجية القطرية في حال صدقت قطر مع هؤلاء المناهضين وآمنت بمواقفهم وتحولت عملياً إلى مناهض حقيقي للسياسة الأمريكية في المنطقة.