شاءت المصادفات أن اكون في صنعاء عام 1994م حينما اندلعت حرب الأنفصاليين المتمردين على استمرار أول تجربة وحدوية ناجحة في التأريخ العربي المعاصر وشاهدت بعيني كيف أهتزت حارات وأزقة العاصمة اليمنية تحت ضربات صواريخ سكود بعيدة المدى التي ارسلها الانفصاليون الجنوبيون من عدن وتلمست وعن قرب حقيقة تشبث الشعب اليمني بتجربته الوليدة ودفاعهم المستميت عنها وقت كان عمرها بضعة سنوات فكيف سيدافعون عنها بالغالي والنفيس وقد صار لها من العمر 19 عاماً مع ما يعبر عنه هذا العمر في حسابات الزمن من عنفوان الشباب وقوة العضلات وحجم الطموحات ..
وقد جالت بخاطري تلك المشاهد قبل ايام وانا اشاهد واستمع إلى السيد علي سالم البيض وهو يتلو من ميونخ في المانيا وعبر الأثير بيان يدعو فيه اليمنيون إلى فك عرى الوحدة وعودة التشطير إلى ما قبل قيام الوحدة المباركة ويطالب بعودة اليمنين الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الديمقراطية في الجنوب وتسائلت مع نفسي هل يعقل ان تنجح هذه الدعوة الجديدة على ضوء المعطيات والحقائق التي ترسخت خلال الفترة الماضية من عمر الوحدة على ارض البلد و بعيداً عن الكتابة العاطفية والتعبيرات التي تضع وبلا شك كل عربي غيور على أمته ووطنه ان لا يجد الا أختياراً واحداً له وهو ان الكل مع الوحدة اليمنية الغالية والكل مع تصحيح الأخطاء التي رافقتها ومع ذلك فأن المراقب للمشهد السياسي اليمني لا بد له ان يتوقف أمام نقطتين بارزتين عند تفحص الحقائق الجغرافية والسياسية الجديدة .
اولا .. أن هناك تغيراً كلياً وجذرياً قد حصل لكل معادلات القوة لدى البيض ومجموعته الأنفصالية فهو في عام 94 كان يملك جيشاً وحزباً وميليشيات ودبابات وصواريخ سكود واستحكامات على الأرض ولم يفلح في تحقيق شئ فكيف به الآن وهو لاجئ سياسي في النمسا وقد نزعت عنه جنسية سلطنة عُمان التي حملها لسنوات وليس له جيش أو قوى عسكرية ولا تأييد السنوات الخوالي والناس الذين خرجو في الشوارع هم في أكثرهم ناقمين على الأوضاع الأقتصادية والبطالة ونقص الخدمات وليس لهم مصلحة في فك عرى الوحدة كمشروع وخيار نهائي لا رجعة عنه على الرغم من محاولة جماعات مرتبطة بمجموعات انفصالية تعيش في الخارج تحاول تجيير هذه الأحتجاجات والتظاهرات لصالح غايات مشروعها التشطيري والعودة باليمن إلى المربع الأول .
ثانيا ً .. تغير معادلات الموازين الأقليمية والدولية لصالح بقاء اليمن بلداً موحدا فدول الجوار اليمني أعربت وبصورة واضحة لا لبس فيها عن دعمها ومساندتها لليمن الموحد وعدم السماح لأية مجموعة من المس بسلامة ووحدة اليمن وجاء هذا الموقف واضحا وجلياً من السعودية على لسان وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز وكرره وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل وسارعت سلطنة عُمان إلى اصدار قرار بنزع الجنسية العُمانية من علي سالم البيض والتي منحتها له لدواع إنسانية بأعتباره لاجئا بها يجب أن يلتزم بشروط الضيافة وعدم القيام بأي نشاط سياسي مطلقا واعلن المصدر الرسمي العُماني بأن مسقط حذرت البيض بشكل محدد من قيامه بأي أنشطة سياسية معادية لليمن وها هي تعلن موقفاً جلياً بدعمها لليمن ووحدته العتيدة ثم جاءت زيارة علي لاريجاني رئيس البرلمان الأيراني إلى صنعاء ليعلن منها دعم إيران لوحدة اليمن وكذلك على الصعيد الدولي سارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعلان موقف سريع وواضح بأنها مع اليمن الموحد اضافة إلى كل المواقف الأقليمية والدولية الداعمة لليمن ولشعبه في خياراته الوحدوية وهنا لا بد من السؤال على من يراهن السيد البيض في دعم مشروعه الجديد في الدعوة للانفصال ؟ هل رهانه على ما يسمى بقوى الحراك الجنوبي في الداخل أم انه نام وحلم بأن احلامه قابلة للتحقق بالزعامة على وقع أصوات متظاهرين خرجوا مثلما يخرج اقرانهم في الهند وتركيا ومصر والفلبين وسائر أرجاء المعمورة يحتجون على سوء الخدمات والبطالة وتجاوزات حصلت هنا وهناك ليس لقيادة اليمن علما أو رغبة بها . ومع ذلك فأن مهمة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح بما عرف عنه من غيرة قومية ووطنية وما يجسده من حنكة سياسية تفرض عليه بالتحرك السريع من خلال طرح مشروع لحوار وطني شامل يستهدف تحسين شروط التنمية عبر عمل حقيقي على الارض ومحاربة الفساد المالي والإداري من خلال جملة من الآليات الواضحة والتضحية بشلة من المسؤولين الفاسدين لهي خير وابقى من التضحية بالوحدة بأفراد وجماعات لا تكره الوحدة الا انها ربما تستغل من آخرين لهم مشروع تدميري لليمن لا يهمهم سوى مصالحهم الأنانية لان الناس في الأخير مثل الجيوش في العالم تمشي على بطونها والأهداف الكبرى دائما بحاجة إلى رؤى كبيرة وسواعد وعقول تقول وتفعل ..وليحفظ الله اليمن ارض العروبة والأصالة والأجداد من شرور الطامعين والموتورين ولا نريد ان تتكرر لوعة شاعر اليمن الكبير الراحل عبدالله البردوني عندما كان يشاهد وطنه ممزقاً ومشطراً إلى نصفين متصارعتين بينهما أذ قال ... فضيعُ جهل ما يجري وأفضع منه أن تدري ... يمانيون في المنفى منفيون في اليمن .. شماليون في صنعاء جنوبيون في عدن ..
•محمد مصلح الدليمي
•كاتب عراقي
• نشوان نيوز