47 عاما وحانت المكاشفة، لم تعد هناك قبائل زيدية بل هناك أسر زيدية.. المصارحة حانت رغم أن شيخ الإسلام وحجته الأكبر الإمام الشوكاني ومن سبح بنهره من ابن الأمير الصنعاني وابن الوزير والإمام زيد بن علي الديلمي القاضي الأشهر ورئيس الاستئناف في العهد الملكي الإمامي..
وآخرون كثر من الدوحة الهاشمية نفسها في اليمن، كلهم رضي الله عنهم وقفوا جنودا في الحرب الفكرية الدائمة ضد الزيدية بشقيها الشرائعي والسياسي، وقفوا لا يطمئنون للزيدية المذهبية ولا يرجون لها إقامة في بلاد القبائل شمال اليمن، ودخلوا جميعا في محاجات فكرية طويلة وقاسية وخطيرة كادت أن تودي بحياتهم لتوفر المتعصبين وأصحاب الحول والعور الزيدي المذهبي (صراعات الإمام المقبلي مثالا).
لكن السؤال الباهي والأبهر، ماذا كانت عليه قبائل شمال الشمال من مذهب قبل الولادة الثانية للزيدية في اليمن بعد ولادتها الأولى في إيران، هذا سؤال لم يجب عنه أحد وما تعرض له أحد على حد علمي، ولعل من الاستدراك وضع ما يلي، لجلاء الرؤية وفهم عقلية التساؤل، لقد دخلت الزيدية اليمن عام 285 هجرية، فماذا كانت عليه قبائل الشمال من مذهب قبل تاريخ 285 هجري.
فترات طويلة من تعاقب الأجيال، قرابة ثلاثمائة عام على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم أي 285 عاما، ترى هل عاشت قبائل الشمال بلا مذهب خلال هذه الفترة، وترى (ثانية) بأي مذهب كانت قبائل الشمال تتعبد وتحسن صنيع حياتها، وبماذا كانوا يديرون أمورهم الفقهية، والإجابة المختصرة جدا، أن قبائل الشمال كانت تعمل في سيرتها التشريعية والعقدية المذهبية، وفقا لمذهب (مالك) الإمام اليماني إمام الأئمة شيخ الإسلام حجة الأمة. إمام دار الهجرة أبو عبدالله مالك ابن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة الحميري.
فعلى هذه السجية المالكية كانت قبائل الشمال القريبة من الحجاز بما فيها (دار الهجرة المدينة المنورة)، تتمذهب على مذهب هذا الإمام العظيم، تمذهبوا نحو ثلاثمائة عام على السنة المالكية وما عرفوا قط مذهبا شيعيا زيديا أو إماميا أو إسماعيليا إلا بعد 285، وهو زمن ركب الطمع أصحاب الملل والنحل والذين وفدوا بمعتقداتهم الشيعية والخارجية إلى اليمن من إيران والعراق، وفدوا تكسبا للإمكانات المالية والإمكانات السياسية الشعبية ونجاة من المطاردات والمضايقات.
فوسعوا على أنفسهم بمذاهبهم الزيدية والإسماعيلية والباطنية وضيقوا على اليمانيين في دينهم وأرزاقهم، ونشأت في اليمن بوجود هؤلاء (قادة المذاهب) عصور الحروب المذهبية الطويلة في اليمن، فتحارب الأئمة الزيديون فيما بينهم وتحاربوا مع السنة ومع الإسماعليين وحتى الخوارج، كان لهم هنا دولة آخرها دولة بني مهدي، حروب دينية طويلة عاشها اليمن، ولم تفقه قبائل الشمال أن كل الوافدين أخرجوهم من سعة السنة المالكية إلى ضيق المذاهب الثأرية، فقد كانت المذاهب الشيعية من إمامية وزيدية وإسماعيلية ولا زالت مذاهب ثأر وكذلك الخوارج، ذاك فيما مضى.
واليوم لم يكن من المتوقع لا في المدى القريب أو في مستجد الأيام من تاريخ اليمن بكل تغيراته التفكيرية والاعتقادية والمذهبية وأنماط الحكم التي تعاقبت وستتعاقب في اليمن أن تلج الحقبة الزيدية مرحلة الانحسار في لحظات سيتذكرها التاريخ حتما بتمرد الحوثيين، بعد أن استنفدت الزيدية الحاكمة سابقا حضورها السلطوي وعمرها الزمني الافتراضي ليس تشبها بالآلات الميكانيكية، فالمذاهب لا تقارن بتلك ولكن المذاهب كالدول أيضا كما قال ابن خلدون تلد وتشب ويشتد عودها وتشيخ وتختفي، وكل ذلك يمر عبر مراحل من الصراع .
وفي هذا التدافع وضع الحوثيون الزيدية في قائمة عدم الصلاحية للمدنية السياسية للعموم الوطني. والزيدية لحقت هنا بعد أن طرأ عليها متغير المليشيات الحوثية التي ولدت منها، بمسار تاريخي مغاير لما أراد مؤسسوها ، وهي هنا تتجه- أي الزيدية- وبسرعة إلى ما انتهت إليه الحقبة الصليحية التي نشأت على مذهب ديني وانتهت بذات المذهب لأخطاء اعتقادية وهوس من حكم بعد أروى بنت أحمد، ويقاس على ذلك الاباضية التي اختفت من حضرموت بعد أن كان حضورها طاغيا هناك، رغم أن المذهب الاباضي في جانبه السياسي منفتح ومتطور مقارنة بالمذاهب الأخرى المنغلقة كالزيدية لولا أن الاباضية القديمة نشأت على الدماء.
وبحمل المليشيات الحوثية مذهبا مغايرا كما يصرح أهل العلم، وان أعلنوا عكس ذلك وبتمنطقهم بالسلاح على الناس تهديدا وترويعا وسفكا للدماء قبل أن يواجهوا به السلطات يكون قد لزم الزيدية متغير متحول خطير وضعها أمام نهاية تاريخية حتمية لمذهب عقدي عظيم حيوي ونشط، وقد سماه السنة جميعا "مذهب شيعة السنة" وهو هنا شيعة لاشتراط المذهب أن تكون الإمامة في شريحة واحدة فقط من كل المكون البشري للأمة المسلمة.
وهو أمر لا يستسيغه أحد اليوم ولا يلقى قبولا لانفتاح البشرية على مصالح حقوق الناس جميعا وحقهم في أن يطمحوا في الحكم إذا ما تملكهم الرشاد والتقى والصلاح والعلم وقوة الإرادة، فليس هناك ما يميز أي قرشي عن أي يماني من سواد القوم أو صومالي من عامة الناس في أن يحكم، إذ لا معطى إلهي في الحكم لأحد وهذا أيضا سبب آخر في تراجع الزيدية وانحسارها. والحوثيون الذين تسببوا في سمعة سيئة لهم ولأتباعهم وللزيدية أخافوا في السنوات الأخيرة من تبقى من المعتقدين بالزيدية، وحملوهم على التفكير بجدية حول جدوى مقولات حكام وأئمة الحق في مسك زمام الأمور مقارنة بغيرهم من عامة الناس.
كما أنهم تسببوا، وإلى الأبد في آلاف الإعاقات البدنية في يمنيين آخرين وزرعوا اليتم لأطفال كثر بقتل معيليهم في الحروب التي خاضوها في صعدة، وقد حمل هؤلاء الحوثيون، الناس وقد استقبلت قراهم قتلى وجرحى هذه الحروب وبأعدادهم الكبيرة ومعظمهم من المحسوبين على المذهب الزيدي لحدوث المعارك في مناطقهم، حملوهم على التبرؤ من الزيدية.
وأوقع الحوثيون الذين أعلنوا مرجعيتهم للزيدية مؤخرا أنفسهم وغيرهم أمام عاصفة كبيرة من الكراهية وقليل من الحب وربما هذا الحب في الضالع وردفان والنمسا وفي أعماق بعض الأسر في صنعاء وتعز والحديدة، وربما حب مغلف بالتقية في أوساط أحزاب سياسية، أما من تبقى من المتعاطفين مع الزيدية لفكرها الفلسفي المعتزلي فإنهم يتوجسون اليوم خيفة من المذهب بعد أن سكت قادة المذهب ومراجعه وظهور حملة ومراجع الدماء والسلاح على حساب مراجع العقل.
ولعل مرد ذلك أن من يسمون بالعلماء الأعلام عند الزيدية ركنت إلى أن هؤلاء يقومون بخدمتها على المدى الطويل في مقارعة مغتصبي الحكم، فالحوثية ولدت زيدية لكنها ترعرعت في فضاءات غير زيدية حسب قول من تركهم بعد الحرب الأولى، والحقيقة أن لا مستقبل لهؤلاء جميعا، وقد تملكت الناس كراهية الفعل والفاعل في صعدة، وهي كراهية يلمسها الناس جميعا وبالأخص في المناطق التي حملت المذهب الزيدي منذ قدومه لليمن، بل إن الكراهية والتوجس انتقل إلى مرحلة التوصيف بوصف الحوثيين بالإيرانيين والفرس والصفويين، وذاك تطور قاتل للزيدية.
وقد دفعت هذه التداعيات إلى أن من يطلق عليهم الزيود في بلاد القبائل لم يعودوا يحفلون بالمذهب الذي اهتزت مكانته، والتي تربعت في مراحل زمنية غابرة على مراتب القداسة والقدسية، وأضحت الزيدية الآن توصيفاً سياسياً اجتماعياً لقبائل الشمال دون معنى حقيقي لوجودها ولمدلولها في واقع التعبد والالتزام، وترفض غالبية القبائل اليوم وصفها بالزيدية.
بل إنها أصبحت شتيمة لدى البعض، وبنظرة إلى من لحق بركب الحوثية وأتباعها نكتشف كم أنهم ليسوا كثراً، كما أن من تبع الحوثية تبعها بفعل المال لا بفعل المعتقد، فالكراهية تنمو وتتخذ ملامح وصوراً، نحو هؤلاء بفعل الحرب التي أتت من انحرافات، لقد ارتكب الحوثيون جريرة كبرى على زيديتهم.
إذ أن توقيت تمردهم الجديد على السلطات الدستورية، وضعهم والمذهب بتوجسات الأيام، فهاهم يحملون السلاح مجددا للمرة السادسة والساحة تغلي بالرعب منهم ومما يتعرض له ساكنو المناطق التي يتواجدون فيها، فما يقوم به الحوثيون شبيه بأعمال مليشيات الموت وفرق الإعدام الشيعة (العراق مثالا) وبتصرفات الحوثيين تلك شدت الانتباه لمقارنة الزيدية مجددا ببقية أخواتها في مذاهب الشيعة، وفتحوا بقبيح صنيعهم الباب واسعا بالخوف من الزيدية القديمة والجدية والتي يؤكد أهل العلم أن الحوثيين زاوجوها بالاثني عشرية.
الزيدية اليوم في فارقة تاريخية لم يعد بالإمكان لها أن تتحسس طريقها، فقبائل الشمال تشيح بوجهها عنها وقد تخلى عنها الغالبية الكاسحة، لأن من قتل منهم ضدها ومن أجلها وعلى مدى تاريخها في اليمن كان كبيرا، ومن المؤكد أن قبائل الشمال يتخلون عن الزيدية في ظل رغبتهم في وحدة مذهبية واحدة لليمن ليتحد الفعل السياسي وخوفا من المثل العراقي.
وقد يكونون رحلوا عنها لأنهم جميعا يرفضون أن تكون الإمامة خاصة بفئة، أو أنهم رحلوا عنها لأن أجدادهم وهم حملة الإسلام وجنده يرغبون في عودة أحفادهم إلى مذهبهم السني الذي تركوه مع قدوم الإمام الزيدي من جبال الرس بالمملكة العربية السعودية، أو قد يكونون تركوه للحفاظ على صفاء العبادة والتعبد بعيدا عن خرافات علقت بالتشيع. ويبقى الأهم في هذه المقاربة أن الجميع في اليمن اللحظة يعون أن الزيدية لم تعد زيدية الإمام زيد بن علي رضي الله عنه، ويبقى الملموس أن الحوثيين الذين جروا خلفهم وبحلم رومانسي ثوري وبمتطلبات الأحقية في الحكم دون سواهم، هم من أنهى مذهب أجدادهم وآبائهم وكانوا هم من أنهى حقبة العصر الزيدي في عقول وأفئدة الناس في بلاد القبائل.
إعلامي يماني - قطر