قبل قمة سرت كان اليمانيون الذين يختبرهم الله بالحزبية السياسية يتحرون نجمها كما يتحرى المسلمون أهلة رمضان والعيدين، فقد ظنوها مجلجلة، والداعي لتحري نجمها كان شخصية القذافي الثوري العتيد وقائد في تجمع دول الزبادي الغنية،
أما أنا فلم يكن لي في قمة سرت وأي قمة عربية إربةَ ولا صالح، ولن أكون مخبولا لأحدثكم عن قمة سرت سياسيا، هذا يصبني بالملل، وإليكم صور أخرى أعدكم أنها لن تكون مملة، ليبيا الآن في شهر الطير بالتقويم الليبي وقمة سرت ائتلفت حسب هذا التقويم الفريد في يومي السابع والعشرين والثامن والعشرين من شهر الربيع الماضي من عام ( 1378 و. ر) والمقصود برمزية الحرفين و.ر تاريخ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني أن الرسول توفي منذ 1378 عاما يقابله الآن عام 2010 مسيحي.
وقد ابتكر قائد الثورة تاريخ وفاة الرسول تقويما للجماهيرية للأعوام والدهور، وبدورهم قضى الزعماء العرب الذين وفدوا على سرت دقائق يومية من وقتهم الثمين في القمة في استظهار وحفظ أسماء شهور هذا التقويم، وكان شهر التمور الذي يقابله شهر أكتوبر أعلاها محبه وأسهلها حفظا عندهم، هكذا هو معمر محمد أبو سالم (وفي راوية أبو سليم) حامد أبو منيار القذافي، له عقل لا يعرف الاسترخاء، يمتاز بسعة النشاط وغزارة التفكير ينزوي كثيرا ليقرأ، وعندما ينزوي أو يتحدث أحدهم، يكتب ملاحظاته على ورق طلاب الابتدائية، ورق عادي يباع في دكاكين الفقراء سواء في مصراتة أو عندنا في المخاء، لتكتشف أنك أمام رجل مميز للتفكير وليس للسياسة..
القذافي لا يجدي نفعا في الدسائس السياسية وفي المخاطر السياسة وأثمانها الباهظة، بالنسبة لي، زعامته السياسية أفقدت العالم فيلسوفا ومفكرا، كان سيُنشط نظريات السياسة والاقتصاد وحتى علم الاجتماع التي أتى بها مفكرو وفلاسفة الإغريق والنهضة الأوروبية أو على الأقل كان سيربكها مثلما أربك الغرب والعرب والأفارقة حتى ظنوه زعيم المدرسة الفوضوية في السياسة يعيث خرابا في الأمصار والقرى الثورية..
المصلح جيمي كارتر ورونالد ريغان تأبطا منه قلقا، ويعي كارتر اليوم أن القذافي يتربع على كرسي الزعيم العالمي الأكثر ثقافة وإطلاعا بعد أن أطاح المرض ب ( لكومدينتي) فيديل كاسترو، الاثنان القذافي وكاستروا مهابة ثقافية عالمية يقرءآن أكثر من ساعات حكمهما ونومهما، ربما لهذا يتمسكان بمواقف البدايات الثورية.
من هنا عاد القذافي بعبد الناصر إلى سرت من خلال المؤثرات والمناشطات الثورية التي أظلت قمة سرت، فمن القاعة التي عقد فيها المؤتمر وصالة المؤتمر الصحفي وفي ممرات مجمع المؤتمرات والقاعات الأخرى، استمرت أغاني عبد الحليم حافظ الوطنية، وأحلف بسمائها وبترابها، تترد مرات ومرات لا صوت يعلوها في فضاءات زمن القمة، وعلى مدار اليوم، كل شيء كان يوحي أننا في الستينات، فمن الشعارات التي نسجت مدينة سرت والصور وأحلام العروبة والاستقبال والترحيب بالرؤساء والوفود، إلى الرايات والحماس الجماهيري الليبي بروح قائد ثورة الفاتح، وزاد الزعيم على ذلك، أننا سمعنا في جلسة الافتتاح مجددا ذلك الشعار المهيب "شعبا عربيا واحد" تفاعلا مع دعوة رئيسنا صالح للاتحاد العربي،وهي فلتة أخرى من الثوري المفكر، إذ لم يحدث أن انعقدت قمة بهذا الترتيب من البساطة والفخامة والتواضع..
مواطنون ليبيون وآخرون عرب عاديون جدا ومن مختلف الأعمار، زج بهم الزعيم إلى قاعة المؤتمر مع قادة الدول العربية في خطوة موفقة وذات مغزي ومعاني سامية، فكانت الستينات في سرت القمة، واضحة الأثر والشعبية وببذاخة ثورية كبيرة، وحتى الراهبات الثوريات حارسات القذافي والثورة، تقلص عددهن في قمة سرت وظهرت واحدة خلف القائد، وهن تاريخيا لم يكن من أثاث ثوريي الخمسينات والستينات.
وفقط في كلمته خالف القذافي عاداته الثورية وتحدث عشرين دقيقة وبعضا من الثواني، أكثر من 15 دقيقة خصصها لتاريخ مدينة سرت مسقط رأسه، خطابا لم يكن يتوقعه أحد، فليس هذا هو القذافي، الذي تعود على التشبيب بنهج السياسات المناقضة لمكرمات مصالحنا العلياء وهو النهج الذي يعتبر رياضة شعبية واسعة الانتشار في صفوف الحكام، لكنه صاحب الخيمة والمضيف هذه المرة..
ومن ملاحظاتي أن القذافي في بلده لا يستفز فأصول الضيافة تتطلب ذلك وهو مكسب يمكن توظيفه لمن يخشى أحاديثه من الحكام، ويستحسن لهم استثمار هذه النعمة التي هبطت عليهم، بأن تنعقد القمم العربية كلها في ليبيا، فهو في ليبيا لا يشاغب أحدا ويتمسك بعصا لقمان وفي غيرها عصي موسى لا تكفي..
الزعماء العرب حذرون من القذافي، يصنع مالا يمكن الاهتداء إليه من توقع، قال له الحسن الثاني رحمه الله في أول لقاء لهما، بعد خصام طويل بسبب البوليساريو "ما أكثر ما حاولت الإطاحة بي، فرد القذافي سريعا وأنت كذلك لم تقصر"..
والصورة الثانية في قمة سرت كانت منشآت الضيافة التي بنيت في تسعة أشهر وتمثلت في 22 قصرا خصصت لقادة الدول، وعينت ليبيا لكل قصر رئاسيا نحو عشرين موظفا وموظفة بين طباخ ونادل ونادلة وحلاقين ومعتنين بالغرف والملابس ومبخرين ومعطرين، يعملون على مدى ساعات الليل والنهار، واختير لهذه المهمة ألف شابة وستمائة شاب من أبناء تركيا، لم تتجاوز أعمارهم العشرين ربيعا شبيهون بأولئك الغلمان الذين كانوا يخدمون في قصور آل عثمان والقواد الإنكشاريين والصدر الأعظم أو وزيري أعظم، وليس هذا فحسب فقد شُيدت أيضا تسعة وتسعون فيلا أخرى للمرافقين وأربعمائة وخمسين شقة وفندقا بخمسة نجوم وسفينة عملاقة رست في الميناء، سطا عليها الصحفيون أصحاب الأنوف الطويلة وأذان الفيلة، كما تم تسيير رحلات جوية بطائرة إيرباص صنعت خصيصا للقمة، تطير كل ساعة من مطار سرت إلى طرابلس ولمدة أيام المؤتمر ولم يكن أيا من الموجودين بحاجة لتذاكر بل تكفي بطاقة المؤتمر للسفر، لقد خُدمت القمة بأكثر من ثلاثة ألاف شخص.. يا إلهي كم هي قمم الرؤساء والملوك والأمراء مكلفة، وللصور بقية في العدد المقبل إن شاء الله..
إعلامي يماني