
برغم البداية الغريبة لمجموعة "أصدقاء اليمن"، والتي ابتدأت بدعوة مفاجأة من غوردن براون رئيس وزراء بريطانيا في 3 يناير 2010 لعقد اجتماع عاجل بشأن اليمن، الا أن اليمن وغيرها من الدِّول العربية والغربية قد تداعت لحضور الأجتماع في الـ27 من الشهر نفسه في جو مليء بالتوقّعات والشك من دعوة جاءت دون مقدِّمات أو شروحات.
وزاد الأمر ريبة طبيعة الحضور الذي شمل عددا من وزراء خارجية الدِّول الكبرى ودول الأقليم، وطبيعة الظروف المتزامنة والدّعوة لاسيما ازدياد نشاط القاعدة في اليمن وعملية النيجيري عمر عبدالمطلب. الا أن اليمن قد أحسنت صُنعا بالاستجابة للدعوة والتفاعل معها اذ أن ذلك، كما سنرى، قد اتاح لها فرصة كبيرة لتلمس أهداف الدعوة ونوايا الدِّول الغربية والتعامل معها بمساعدة أشقائها المشاركين للوصول بعد عدّة اجتماعات إلى برنامج وخطة عمل تزيل مخاوف الأشقاء والغرب ممّا يدور في اليمن وتخدم اليمن ومستقبله.
لقد كان واضحا من البداية ازدياد القلق الدّولي والإقليمي من تفاقم اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية وتدهور الحالة الاقتصادية في اليمن وما يمثله ذلك من تهديد لمنابع النفط في دول الجوار وخُطوط الملاحة الدّولية في البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، وهو الأمر الذي ولا شك يسبب قلقا مشروعا ليس فقط لدول الإقليم بل للعالم بأسره. وقد سيطرت هواجس تأمين منابع النفط وخطوط الملاحة الدولية على اللقاء الأول في لندن، إلى جانب هاجس مواجهة الأرهاب وهو الموضوع الحاضر الدائم على طاولة الاجتماعات الدولية. وقد أقر مؤتمر لندن تكوين مجموعة أصدقاء اليمن وتشكيل مجموعتي عمل أولاهما: مجموعة "الاقتصاد والحُكم الرشيد" وثانيتهما: مجموعة "العدالة وسيادة القانون" بغرض إعداد مفهوم مشترك وتوصيات محددة للإجراءات المطلوبة لمواجهة التحدِّيات العاجلة والآجلة التي تواجهها اليمن.
وعقدت عدّة اجتماعات في الرياض وأبوظبي ولاهاي وبرلين، تُوِّجت بالاجتماع الوزاري لمجموعة أصدقاء اليمن بنيويورك يوم 24 سبتمبر 2010، وهو الاجتماع الذي أقر تقارير مجموعتي العمل وأصدر بيانا يمثل مع التقارير المفاهيم والأسس والخُطط والإجراءات المتّفق عليها بين اليمن ودول المجموعة، والتي يفترض أن تحقق لمجموعة الأصدقاء ما يرمون إليه من مصالح في تأمين منابع الطاقة وخطوط الملاحة الدولية، وكذا مكافحة الارهاب، وفي الوقت نفسه تحقيق الأمن والاستقرار وقدر من التنمية لليمن. وقد صرح آلن دنكن وزير التعاون الدّولي البريطاني بعد اجتماع نيويورك بأن هناك مخاطر كبيرة على البلاد والأقليم والعالم، إذا انهارت الدولة في اليمن، وأن هذا هو الدافع الرئيسي لدعم استقرار وأمن اليمن.
والدراسة المتأنية لبيان وتقارير اجتماع نيويورك تُبرز مجموعة من الحقائق التي لا بُد أن نشير إليها قبل الدّخول في أي تفاصيل للمواضيع والخُطط والإجراءات المتضمّنة في هذه الوثائق. وأول ما يجب أن يُشار إليه من هذه الحقائق أن بيان الاجتماع قد منح اليمن دعما سياسيا جمعيا غير مسبوق من دول أصدقاء اليمن عندما نص على أن الدِّول المشاركة تؤكد دعمها الذي لا لبس فيه لوحدة وأمن واستقرار اليمن والتأكيد على عدم التدخل في شؤونه الداخلية. وثاني هذه الحقائق أن جميع التقارير ومحتوياتها قد أعدت بمشاركة فاعلة وموافقة صريحة من الجانب اليمني بل إن أسس وقواعد عمل المجموعتين كانت الخُطط والاستراتيجيات الرسمية للحكومة اليمنية. والحقيقة الثالثة: أن البيان الختامي لاجتماع نيويورك قد نص على أن خُطة التنمية الخمسية اليمنية وبرنامج الحكومة للإصلاح الوطني إلى جانب خطة موازنة حكومية طويلة الأمد ستشكل في مجموعها الآلية المناسبة لتوجيه مساهمات المانحين للخمس سنوات القادمة. ولا يجب أن نغفل عن الحقيقة الرابعة وهي أن على اليمن استحقاقات تسبق خُطط الإصلاح وتمهّد لها، ومنها خُطة التنمية الخمسية ومشروع الموازنة الحكومية طويلة الأجل والتقرير الأول لمبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية.
وعند النظر في تفاصيل ما جاء في تقريري مجموعتي العمل، وفي التفاصيل تكمن الشياطين كما يُقال، نجد أن تقرير مجموعة "الاقتصاد والحُكم الرشيد" الذي قامت بمهماته بصورة متميِّزة دولة الإمارات العربية وألمانيا إلى جانب اليمن قد حددت التحدِّيات التي تواجه اليمن في أربع قضايا، وقدّمت مقترحاتها للتعامل مع هذه التحدِّيات، وكان أولها: "حل الخلافات السياسية" بين الفُرقاء اليمنيين سلميا من خلال الحوار الشامل لكل الفئات وكل المواضيع، والقائم على اساس وحدة اليمن وتهيئة الأجواء لاقامة انتخابات نيابية حُرة ونزيهة العام القادم 2011.
وثانيها: "تعزيز وتقوية المالية العامة" التي تُعاني من اعتمادها على النفط المتناقص، ويزيد عثرتها الانفاق الحكومي المتركز في الانفاق السياسي غير الأساسي بدلا من الانفاق الرأسمالي. واقترحت المجموعة المُضي في برنامج الإصلاح الذي اتفقت عليه الحكومة اليمنية مع صندوق النّقد الدولي مع ضرورة تعزيز شبكة الأمان الأجتماعي بالتزامن مع تطبيق ضريبة المبيعات والخفض التدريجي لدعم الطاقة، وطلبت المجموعة في تقريرها من المانحين توجيه دعمهم إلى المشاريع التي تحقق أهداف الألفية التنموية وربطها بخطط التنمية المحلية والوطنية والتأكيد على مشاركة البرلمان في خطط الإصلاح؛ كونه الجهة التشريعية التي تُقرّ الموازنات وخُطط التنمية.
وثالثها: "توليد الدخّل في الاقتصاد" وأهم بنوده إعداد قوى عاملة فاعلة ومدرّبة تدريبا مناسبا للسوق المحلية وغيرها (هكذا جاء في الوثائق)، وهو الأمر الأساسي للحد من الفقر وتعزيز الأمن والاستقرار، ودعت الدول المانحة إلى التركيز على التدريب المهني والفني لهذا الغرض. وكان ثاني بنوده شحة المياه وزراعة القات، واقترحت إيجاد التشريعات والنّظم المناسبة لإدارة موارد المياه المحدودة بما في ذلك التعامل مع القات الذي تستنزف زراعته النصيب الأكبر من الموارد المائية، إضافة إلى امتصاصه جزءا كبيرا من دخل الأسرة، وكذا تأثيراته الصحية.
وكان آخر التحدِّيات: "تطوير الأطر المؤسسية"، وتركز عمل المجموعة في هذا التحدِّي في بندين، الأول: الفساد الذي قالت عنه إنه إلى جانب تأثيراته السلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإعاقته للاستثمار، فإنه كذلك يضعف من شرعية الدولة في عيون مواطنيها ويغذِّي عدم الاستقرار، واقترحت للتعامل مع الفساد الالتزام بالتقارير الرقابية واستكمال تقارير الذمة المالية وفحصها ورفع الحصانة عن المسؤولين المتهمين بقضايا فساد وتقديمهم للتحقيق والمُقاضاة. وكان البند الثاني يخص بيئة الاستثمار التي تتصف بالفساد وانعدام الشفافية وضعف سيطرة الحكومة وقصورالبنية التحتية وتواضع مهارات القوى البشرية ومشاكل الأراضي، واقترح التقرير تعزيز ودعم الاستثمار الخاص لتحفيز النمو وخفض معدلات الفقر وتعزيز سيادة القانون واستكشاف مجالات الاستثمار كثيفة العمالة.
اما تقرير العدالة وسيادة القانون الذي اضطلعت به بحرفية كبيرة المملكة الاردنية وهولندا إلى جانب اليمن فقد حدد التحدِّيات التي تواجه اليمن في أربع قضايا، وقدّمت كذلك مقترحاتها للتعامل مع هذه التحدّيات التي، كان أولها: "إتاحة العدالة للجميع" من خلال اتاحة وتسهيل التقاضي خصوصا في المناطق النائية وتعزيز دور وزارة العدل في الحد من خلافات الأراضي والمياه والعقارات وتفعيل دور الشرطة بالتدريب والربط بعلاقة تعاون مع المجتمع. وثاني التحدِّيات كان "التطرف" الذي اقترح التقرير التعامل معه بإنشاء برامج مواجهة التطرف بالتعاون مع المجتمعات المحلية بما في ذلك برامج التوعية وتدريب الأئمة واشراك المؤسسات العامة ومكوّنات المجتمع المدني. وثالثها: "أمن الحدود" البحرية والبرية من خلال إعداد خُطة متكاملة لإعداد وتدريب وتجهيز خفر السواحل وحرس الحدود. ورابعها: "الفساد في أجهزة العدالة والأمن" وأوصى التقرير ببناء قُدرات القضاء مع التأكيد على المهنية والنزاهة وتعزيز قُدرات جهاز التفتيش القضائي والمجلس الأعلى للقضاء في مجالات التفتيش والتحقيق وتعزيز فعالية جهاز الرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد ونيابة الأموال العامة ومحاكمها في التحقيق والتقاضي والمحاكمة وتطبيق الأحكام في قضايا الفساد.
يبدو هذا برنامجا محكما وسليما في ضوء توافق اليمن وأصدقائها عليه، ولكن الحقيقة أن بعض الشياطين الكامنة في ثنايا التفاصيل تحتاج إلى الاستبعاد بدعم ومساندة أبناء اليمن للبرنامج بل وتبنّيهم له لإنجاح مقاصده. وإذا كان الشيخ محمد الصباح وزير خارجية الكويت قد صرح بعد اجتماع نيويورك أن الاجتماع القادم في الرياض سيكون اجتماع محاسبة، فإن ذلك يشير إلى ما يتوقّعه أصدقاء اليمن من انجاز في سياق البرنامج خلال المُدة القصيرة القادمة. وإذا كان الإجماع الاقليمي والدّولي على أهمية أمن واستقرار ووحدة اليمن قد شكّل اللبنة الرئيسية في هذا البرنامج، فإن اللبنة الأساسية في تنفيذه هي استعادة الحكومة اليمنية للثقة المهزوزة خارجيا وداخليا، والتي رأينا مؤشراتها صريحة في طيات التقارير من تشكيك في جدية الحكومة اليمنية في محاربة الفساد إلى الحديث عن تقويض شرعية الدولة في عيون مواطنيها إلى إحجام المانحين عن سداد التزاماتهم السابقة لشكواهم ممّا سموه الفساد الرسمي.
ولعلّ الطريقة الأمثل لاستعادة المصداقية والثقة خارجيا هي المُضي في تنفيذ البرنامج بما فيه من إجراءات واستحقاقات تضمن أمن ومصالح دول الإقليم والعالم، كما تحقق الأمن والاستقرار لليمن وتفتح أمامه فرصة ثمينة لفتح صفحة جديدة مع دول مجلس التعاون وبقية دول مجموعة أصدقاء اليمن. أما استعادة الثقة والمصداقية داخليا فهي الأكثر صعوبة، ومع الإقرار بأن ما من نظام أو حكومة في العالم إلا وتحرص على ثقة شعبها وتسعى إلى استعادتها إن هي فقدتها، إلا أن الصعوبة تكمن في الثمن المستحق لاستعادة الثقة أو تعزيزها ومدى إدراك ورغبة وقُدرة أبناء اليمن والنّظام على دفعه.
وإذا كُنّا قد قلنا إن برنامج أصدقاء اليمن مبني على خطط واستراتيجيات يمنية رسمية قائمة، ومعتمد في تنفيذه كذلك على آليات ومؤسسات حكومية قائمة، فالسؤال البديهي الذي يبرز هنا هو: لماذا لم تطبّق هذه الخُطط؟ ولماذا لم تقم هذه المؤسسات بواجباتها من قبل؟ بل إن الجدل سيطرح تساؤلات مشروعة حول فاعلية وواقعية هذا الطرح، فإذا كان مجلس النواب لم يتمكّن، ولعدة سنوات، من الاطلاع على الحسابات الختامية لعدد من المؤسسات العامة، فكيف سيكون قادرا على تصويب التشريعات والخُطط والاستراتيجيات والموازنات التي تقدم إليه كما هو مفترض في البرنامج؟ وهل يكون جهاز الرقابة الذي يعجز عن الزام أجهزة الدولة بتوصياته قادرا على إحداث أي تغيير في سلوك وأداء هذه الأجهزة؟
وها هو خطاب الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة إلى مجلس النواب بشأن تقرير تنفيذ موازنة 2009 يقرر أن الإنفاق في البنود غير الأساسية التي وجّهت الحكومة بخفضه قد ارتفع بنسبة كبيرة تصل إلى 60 بالمائة عن المستهدف، بينما انخفض الإنفاق الاستثماري الذي كان يجب أن يرتفع! أما هيئة مكافحة الفساد التي ما فتئت تبشِّر المواطنين بتلقيها آلاف إقرارات الذِّمة المالية، فإننا لم نسمع منها أنها فحصت إقرارا واحدا للتأكد من صدقية وشرعية ما تضمّنه من مُمتلكات مع أن الفحص إحدى أهم الآليات المُتاحة لها لتنفيذ مهامها.
وليس الغرض من هذا الطرح التشكيك في جدّية رغبة الحكومة في تنفيذ برنامج أصدقاء اليمن، ولا التفتيش في النوايا التي لا يعلم مكنوناتها الا الله سبحانه وتعالى، ولكن الغرض التنبيه إلى صعوبة تنفيذ هذا البرنامج أو أي برنامج إصلاحي دون فهم أسباب صد وإحباط جهود الإصلاح ومُعالجة هذه الأسباب، أو دون إشراك أفراد المجتمع اليمني وجماعاته ومؤسساته في هذه الجهود؛ كونهم المستفيد المباشر لعائدات الإصلاح.
ولعلّ البداية الصحيحة هي أولا في التوقّف عن ممارسة سياسات الهروب من الاستحقاقات والالتفاف عليها، وعقد العزم على مُواجهة الحقائق والتعامل معها للخروج من المأزق الذي تعيشه اليمن إلى واقع جديد ويمن جديد حقا. والخُطوة الثانية هي التصدّي لمن يعيقون ويحبطون جهود الإصلاح خوفا على نفوذهم ومصالحهم وامتيازاتهم، ولن يتم ذلك إلا ببرامج مدعومة من قوى المجتمع الفاعلة ذات أهداف وأنشطة محددة تبدأ بتوعية المجتمع (مسؤوليه ومواطنيه) ببرامج وإجراءات وخطوات الإصلاح وبالعوائق والصعوبات المرتقبة وبالفوائد والعوائد المتوقّعة بشفافية كاملة وطلب الدعم والعون والمساندة لهذه البرامج بصورة رصينة وفاعلة وليس بشعارات رنانة خاوية المحتوى، ويتبع ذلك مشاركة المجتمع بمكوناته المختلفة في المتابعة والمراقبة والمساءلة والتصويب.
هذا هو واجب أبناء اليمن نحو بلادهم وإصلاح شأنها، بل هو حقهم الطبيعي في رسم مستقبل أولادهم على الطريق الصحيح للإصلاح والتنمية، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال:
ما حكّ جلدك مثل ظفرك .. فتول أنت جميع أمرك




