
هل يعد إصرار كل طرف من أطراف المعادلة السياسية على موقفه تشويهاً للتجربة الديمقراطية أو انتقاصاً منها؟
على الرغم من نضوج بعض جوانب التجربة في اليمن خلال عشرين عاماً من عمر الجمهورية الواحدة، إلا أنها جانبت النضج في جوانب ثانية. وينبغي النظر إلى "مجانبة النضج" ب"عين الرضا" لا ب"عين السخط". فما تحفل به هذي التجربة من حالات طارئة سياسية، بفعل ذهنية ساسة خاضوا السياسة خلال ماضٍ فرض السرية والمساومة حتى شب وشاب منهم من استمروا واستمرأوا على هذا النهج الماضوي، لا شك في أن هذه الأساليب أيضاً تغني التجربة الديمقراطية ولا تنتقص منها إذ تثري العاملين القدامى والجدد على حد سواء، خبرة ومعرفة بما يعتري سلوكيات أهل "ساس ويسوس" من نقص وقصور، ينبغي تجاوزه، بعد تلافيه، مستقبلاً.
وإحدى مظاهر تلكم السلوكيات بنقصها وقصورها: الإصرار على ذات الموقف.. ثم الاشتراط أياً كان اتجاه "المشترِط" وموقعه، لا يعني بالضرورة سلامة موقفه أو صواب رؤيته أو قوة حجته التي توكدها أو توحي بصوابها محاولات التقليل والرفض وكيل الفرضيات والتهم والمكائد لها بفعل القناعات المسبقة.
الانتخابات القادمة.. قضية الساعة ومحور الجدل الدائر بين السلطة والمعارضة (المؤتمر والمشترك)، هي من الأهمية بمكان بحيث يحرص الطرفان على خوضها، وإن بشروط تقارب التعجيز من الناحية الزمنية، ولا يخفى على متابعي هذا الشأن الانتخابي الحساس، لقرب موعده، أهمية خوض الطرفين غمار الانتخابات، لكن "التعجيز الاشتراطي"، أو "الواقع المُعجِز" لا يمنح أيهما فرصة الشراكة بروح إيجابية تسير بالتجربة نحو إحدى نتائجها المرجوة: تحقيق التوازن السياسي وإحياء فاعلية البرلمان.
لذا يكون الاتجاه المنفرد نحو العملية الانتخابية، مشاركةً أو مقاطعة، خياراً سهل الإجراء لا يصعب معه قبول أي نتيجة سيفضى إليها طالما ضُمِنت للطرف المنفرد في المشاركة أو حرمت الطرف المنفرد في المقاطعة!! لكن الأحزاب أو بعض قيادات أحزاب المعارضة من الذكاء بحيث لا تكرس الانفراد (وهي إحدى خاصيات اليمننة) جراء مقاطعة للعملية الانتخابية، إنما ستذهب إلى المشاركة أو الدفع بمشاركة مستقلين منها لتضمن الحضور داخل البرلمان، حرصاً على استمرار وجودها كقوة حية متفاعلة وفاعلة بحق مع وفي قضايا المجتمع إلى جانب الانتصار للتجربة بتوطيد الديمقراطية. فتتسق هذه الحالة مع "الذكاء اليمني الفطري" الذي اهتدى مبكراً إلى توأمة "الوحدة والديمقراطية" كونهما طوق نجاة من التشرذم والانفصال والشمولية، وفي سبيل تحقيقهما دفع اليمنيون ثمناً كبيراً، نضالاً وتاريخاً وحاضراً يتطلع إلى "مستقبل أفضل".
أما إذا لم تُسعِف اللحظة الأحزاب وبعض قياداتها بفرصة اتخاذ قرار كهذا، ولم يُلق إليهم –في اللحظة الأخيرة- طوق إنقاذ أو مبادرة أو وساطة تنجيهم من التشدد السلبي، أو تزودهم بزاد الإصرار وطاقة التشبث بموقفهم، وإفراز حالة المقاطعة الجزئية والمشاركة المستقلة من أعضاء "أحزاب المقاطعة"، فلن تمنع تلك الحالة من ولوج حلبة الانتخابات بحزب واحد، سيظل يواجَه بحزمة أحزاب تختص بالمعارضة (والمقاطعة!) طالما لم تمثل كليةً في البرلمان، كما أن التجربة لن تنتكس لهذا الغياب وهذه المقاطعة، بل ستثرى بهذا النقص أيضاً!
الالتزام بموعد الانتخابات المقبلة بوصفه خلقاً حضارياً أمر ضروري.. وتنقية أجواء الانتخابات كذلك أمر ضروري.. لكن ما فرضه التاريخ الطويل لا تمحوه ممحاة، ولا تشطبه جرة قلم، ولا يصححه زمن قصير من طرف واحد عظمت أو صغرت مسئوليته عن هذا الاختلال أو ذلك التصحيح.
والمشاركة الحقيقية من قبل كافة الأطراف فعلاً وقولاً –لا قولاً فقط- ضمان لجدية محاولة الإصلاح خلال الزمن الكافي الذي يتبع الانتخابات وليس يسبقها، فتنقية أجواء الحياة على المدى الطويل أجدى وأهم من أجواء الانتخابات في مداها القصير، وهكذا تتاح فرصة الإصلاح لكل قوة سياسية تدّعي تمثيل المجتمع وتبني قضاياه، ولا تتشدق بها. وإرادة الإصلاح والتصحيح يعبر عنها حقاً المشاركة في العملية الانتخابية والمبادرة إليها لا الرفض والتباطؤ عنها.
وما لم يطرأ تغيير في المناخ السياسي والانتخابي "بين غمضة عين وانتباهتها" خلافاً للمعلن من البيانات، تظل احتمالات انفراد المقاطعة أو المشاركة، "سولو (عزف منفرد) أو كورال (أداء جماعي)"، درساً يغني التجربة الديمقراطية المراد منها أساساً ومن منطلق المسئولية الجماعية: تنقية أجواء الحياة.





