اهتمامات

الاشتراكية والرأسمالية قبل وبعد كورونا

الكاتب والسياسي العراقي صلاح المختار يكتب: الاشتراكية والرأسمالية قبل وبعد كورونا


يقينا ان عالم ما بعد كورونا لن يكون مثل عالم ما قبله ، فقد اسقط كورونا اصنام عبدت من دون الله وفضح موتها منذ عقود مثلما كشف النمل الابيض موت سليمان بعد ان اكل عصاه فسقط، فتشرذم الجن الذي كان يخدمه وانزاحت اغطية التضليل الرأسمالية التي اثرت عبر ذبح الملايين!
كورونا كشفت القاع الحقيقي للبشر في معسكر احتفل ب(انتصاره الحاسم وانتهاء التاريخ بسيادة الليبرالية الأمريكية) كما اكد فوكوياما المنظر الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واعقب ذلك بدأ اكبر حملات غسل ادمغة مليارات الناس في التاريخ واعادة تركيب ثقافاتهم لتكون مستنسخة من تلك الدعايات، فهيمنت اوهام وصارت اصناما تعبدها الملايين وفي مقدمتها صنم افضلية الرأسمالية على الاشتراكية أو افضلية الفردية على الجماعية وتفوق قيم الغرب التحررية الفردية على قيم الشرق الغيرية التي وصفت ب (المتخلفة )!

ان حقائق مابعد انهيار الاتحاد السوفيتي قدمت الكثير من الادلة على ان الشرق الحضاري القديم بقيمه الاخلاقية وتقاليده متمثلة في تقاليد الصين واليابان والعرب والروس، هو الافضل للانسان لان القدرة التكنولوجية التي انتجت الانترنيت حولت العالم ليس إلى (قرية الكترونية)، كما وصف عالم مابعد الحرب الباردة، بل إلى غرفة الكترونية صغيرة يلتقي فيها عشرة اشخاص يعيش كل منهم في قارة بعيدة عن قارة الاخرين ومع ذلك يتفاهمون وينسجمون وينتجون ويتزاوجون!
فنجحت الرأسمالية بما لديها من تكنولوجيا في السيطرة على وعي الناس واعادة تكوينه لدرجة ان الانترنيت صار اقوى تأثيرا من العائلة والمدرسة والمجتمع على الاجيال الجديدة، فظهر الانسان الروبوت الذي يمتلك جسما لبشر لكنه يتحرك بوعي معد له سلفا وبقوالب جاهزة مما ادى إلى ظهور اجيال المتعة والعزلة والفردية في مفارقة عجيبة لان العالم سقطت حدوده وتعولمت كياناته ومع ذلك ازدهرت العزلة الشعور بالوحدة والقلق والتوحد والضياع وفقدان الارادة !

في عالم ما قبل كورونا اخذ الانسان الروبوت يعيش جاهلا أو متجاهلا النتائج الميدانية لمرحلة ما بعد انهيار الشرق وغلبة الغرب وابرزها المظالم غير المسبوقة التي نشأت كنتيجة حتمية لما اسمي من قبل كتاب وخبراء الغرب انفسهم ب( الرأسمالية المتوحشة) !
ونحن في العراق وسوريا و اليمن وليبيا وغيرها ابرز الضحايا ،الانسان صار مسيرا من قبل كيان افتراضي حل غالبا محل العائلة والمدرسة والتقاليد والقيم العليا وهو الانترنيت ووسائل الاتصال الموبايل والتواصل اللاب توب وغيره، وتمزقت الروابط بين البشر لدرجة ان الانسان لم يعد يهتم لاهله واصدقاءه حتى وهو جالس بينهم لانه منشغل بتدقيق ما لديه في الموبايل من رسائل جعلته يحظى بعشرات الاصدقاء من كل القارات فيتكلم معهم كل لحظة كأنهم امامه ولكنه بنفس الوقت اهمل من هو معه في نفس المكان والاقرب له في كل شيء!
هنا نرى الاستلاب العالمي، والذي كان ظاهرة غربية حصرا حتى انتهاء الحرب الباردة، في اشد مظاهره خطورة على الانسان وسلوكه وقيمه ومستقبلة، وهو تحطيم الصلة الحميمية للانسان بالانسان التي حلت محلها صلة افتراضية سرعان ما كانت تكشف زيفها وسطحيتها !ولكن الاعلام نجح في طمس كل تلك الحقائق وتضليل ضحاياه.

ان الانجاز الخطير لكورونا ليس الموت المجاني لالاف الناس فقط بل انه هدم جبال التضليل وغسل الادمغة لمليارات البشر بلحظات عبر كوارث داهمت الانسان بموت مجاني لم يكن يخطر ببال الغرب حتى في الكوابيس الاشد رعبا ،وكانت الصدمة الاكبر للانسان الغربي الذي تصور انه صار سيد زمانه المتحكم بمسارات العالم بل الكون كله ان من ارعبه لحد الموت خوفا مخلوقات لايراها، وكانت خطيئته الاولى هي انه تجاهلها لانه لم يراها كما يرى العاب الفيديو في عالمه الافتراضي قبل ان تفتك به،
انه مركب بوعيه على فردية جامحة واوهام انه حر ومحصن بقوة مجتمع يحترم حريته وحقوقه بقوانين وانظمة ثابتة تسيرها مؤسسات مقتدرة وصلت للقمر والمريخ واخترعت تكنولوجيا النانو! لكن مليارات البشر فجعها الموت المجاني وفرض الحصار على ميلانو ثم ايطاليا كلها ومقاطعات الصين واسبانيا وأمريكا وبقية العالم !
كورونا الذي لانراه احكم قبضته موته المجاني على عالم كنا نظنه قادرا على مقاومة غزو مخلوقات فضائية اكثر تطورا منا بمراحل أو هكذا اقنعتنا أمريكا، فكان طبيعيا ان يعود الغربي إلى مكامن وعيه الغريزي والذي غطته قوانين وانظمة مؤسساتيه لكنها لم تجتثه وابرزها الاندفاعات الانانية غير المقيدة بقيم ولا يتقاليد متوارثة لالفيات كما كان الحال مع الشرق الذي يختزن في ذاكرة جيناته وعي اجيال ماتت قبل الاف السنين بما في ذلك تربية وتقاليد ترسخت وسادت وقرأنا عنها بصفتها اساطير .

هكذا رأينا حقائق الواقع تفرض نفسها وتزيح اطنان التضليل ويرى الناس ما هو صالح وما هو طالح من انظمة سياسية وفكرية ومن علاقات وممارسات اجتماعية،فالايطالي المحجور اخذ يتساءل كالفرنسي والاسباني والالماني :لم نجحت الصين وروسيا وكوبا مثلا في السيطرة على كورونا بينما فشل الغرب؟

ولم بادرت الصين وروسيا لمساعدة إيطاليا فورا بينما تخلى الاتحاد الأوروبي عنها رغم انها عضو فيه؟ هذه الاسئلة ادخلتنا رغما عنا في مرحلة جديدة من تاريخ العالم ،ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبله قيما ودوافعا وافكارا ، دعونا نتناول بعض الملاحظات المثيرة للافكار الانقلابية:

1-من ابرز الحقائق ان الليبرالية الغربية ساهمت في انتشار كورونا بقوة واضحة لانها تسمح بفردية تقاوم الضبط الاجتماعي بقوة الدولة والمثال هو رفض الناس في ايطاليا وفرنسا واسبانيا وأمريكا تنبيهات كثيرة بضرورة التقيد بخطوات حماية النفس وذلك كان المقتل، بينما الدولة القوية في الشرق حققت نجاحا كبيرا في محاصرة كورونا تمهيدا للقضاء عليه كما فعلت الصين وروسيا وكوبا لان الناس انصتوا للدولة .

2- الليبرالية الغربية اثبتت بعكس ما هو سائد عدم احترامها لقيمة الانسان الا اذا كان نشطا انتاجيا لذلك فانها عمليا ضحت بالشيوخ لانهم لم يعودوا منتجين، بينما الشرق اظهر حرصا شديدا على الانسان بلا تمييز في العمر واهتمت بالشيوخ اولا لانهم مواطنيها وثانيا لانهم ذخيرتها ومخازن خبراتها ومحركي معاملها ومبدعي اختراعاتها .

3-اضعاف الدولة المركزية، كما هو حال الغرب،اثبت بان المجتمع لا يمكنه مواجهة التحديات الخطيرة بينما اثبتت الدولة القوية في الصين وروسيا وكوبا بانها قادرة على معالجة اي طارئ خطير.

4-رغم كل شعارات حقوق الانسان والفردية فأن الليبرالية الغربية اثبتت انها لا توفر روحا تضامنية حقيقية في المجتمع وكانت ايطاليا مثالا حيا حيث كانت قواعد عمل الاتحاد الاوروبي هشة ومن مظاهرها ان الاتحاد ترك ايطاليا وحدها بدون مساعده أو دعم حقيقيين رغم انها عضو في الاتحاد وهو يفرض دعمها والا لم قام الاتحاد اصلا؟ بينما الدولة القويه في الصين وروسيا لم تكتفي بحماية شعبها بل ساعدت ايطاليا واسبانيا وفرنسا وإيران بصورة فعالة ودون طلب المساعدة منهما رغم انهما ابتلتا ببلاء كورونا.

5-الليبرالية واقتصاد السوق فشلا في توفير حاجات احتياطية ضخمة لمواجهة الطوارئ كالادوات الطبية والطعام الكافي وهذا ما ثبت في أمريكا وفرنسا وايطاليا واسبانيا وغيرها والسبب الرئيس هو ان الراسمالية تنتج للاستهلاك والتصدير ولا تخزن للطوارئ الا كميات صغيرة لضمان اقصى ربح بينما وفرت الصين وروسيا تلك الاحتياجات بالتعبئة الفورية واللحمة الاجتماعية والتحسب الشمولي الغائب أو الضعيف في حسابات الغرب رغم انه وبالذات أمريكا يعتبر اكثر تطورا تكنولوجيا من روسيا والصين.

اقرأ أيضاً: تفاصيل أول قرارات تتخذها الحكومة في اليمن لمواجهة كورونا

6-كورونا اسقط بالضربة القاضية الدعايات الغربية الداعمة للخصخصة واضعاف الدولة المركزية وعزز الاهمية الحاسمه لدعم القطاع العام أو النظام الاشتراكي المسيطر على الدولة والمجتمع.

7-كورونا قدم المزيد من الادلة العملية والحاسمة على ان قاع الرأسمالية جائف ومعاد للانسان فما ان تتجاوز الرأسمالية مرحلة الشباب وتدخل طور الشيخوخة حتى تنتهي مرحلة ابداعها وتتحول إلى نظام استعباد للبشر لانها تريد انقاذ نفسها بكافة الطرق المتاحة لها بما في ذلك ابادة الملايين ، فاسقطت دعاياتها التي تبرقعت بنزعات اخلاقية زائفة في مقدمتها حقوق الانسان والتي سادت خلال العقود الماضية لان تجربة كورونا اثبتت ان الراسمالية ليست سوى الة نهب واذلال للانسان من خلال التعامل معه بصفته مجرد برغي في الة انتاجية ترمى في المزابل كما ترمى الادوات الاحتياطية التالفة للسيارة.

8-ومن ايجابيات انتشار كورونا في دول الغرب مثل اسبانيا وايطاليا وفرنسا والولايات المتحدة ظهور اغلبية من الناس تحمل الدولة الليبرالية مسؤوليه منع الانتشار الهائل للفيروس لانها عقدت مقارنات عملية بعيدا عن اي معايير ايديولوجيه بين كفاءة الصين وروسيا وكفاءة أمريكا والاتحاد الاوربي في مواجهة كورونا فاقتنعت بافضلية الدولة القوية المركزية والمجتمع القائم على التربية الغيرية وليس التربية الانانية الانعزالية. جاء كورونا ليوجه الضربة القاضية للراسمالية والليبرالية ويدعم الاتجاهات الاشتراكية أو تلك القائمه على قوة الدولة المركزية وسيطرتها على المجتمع.

9-رغم ان اليابان بلد راسمالي الا انه تميز بانه يستبطن في ذاكرة شعبه تقاليد قوية لنظام اقطاعي عريق ساد وزال لكنه ترك اثاره الايجابية ومنها تقاليد البوشيدو وهي تقاليد الفرسان والتي تربي الياباني على الشعور العالي بالمسؤولية عن واجباته تجاه المجتمع فينتحر اذا فشل كما كان يفعل فرسان الزمن الاقطاعي لانه يعتبر النجاح والفشل مسألة شرف وكرامة، وهذه التقاليد تقوم على التضامن الاجتماعي القوي الذي مازال قويا رغم تغلغل الرأسمالية واثارها السلبية وهذا احد اهم اسباب نجاح اليابان في مواجهة كورونا مقارنة بما حصل في الغرب من فشل ذريع في منع انتشاره رغم انها دول متقدمة.

10-وكذلك العرب فلو حللنا قوة الوشيجة القبلية لاكتشفنا انها من بقايا تربية اجتماعية عريقة سابقة للعصر الحديث بقرون والفيات فتوارثها الابناء بصورة لحمة اجتماعية قوية نراها الان لدى العراقي الذي يقدم الطعام والمساعدة لغيره رغم انه مدمر ويتعرض للموت والتجويع المنظم ،وكذلك تتميز روسيا بقوة الروح القومية الروسية والتي اختلفت عن القوميات الأوروبية الغربية بانها تجمع بين قيم الشرق التراحمية والتعاونية والتقدم التكنولوجي الغربي ، لذلك فان روسيا تتمتع بروابط اجتماعية اقوى من اوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وهو ما ظهر عبر تاريخها واخره موقفها من كورونا.

11- الغرب الرأسمالي يفتقر للقيم العليا السابقة للراسمالية لان الاقطاع الأورأبي كان اقطاعا متوحشا ولاتقيده روابط رحمية أو صلات قرابة أو شد اجتماعي وهي سمات ميزت النظام الاقطاعي وسط وشمال العراق، بل كانت النفرة الاجتماعية هي من ابرز سماته،ولهذا فان الرأسمالية حينما حلت محل الاقطاع في اوربا تركت سلطة تربية الافراد وتكوين انماط سلوكهم لحاجات نظام انتاجي لادوات انتاج فقط فانعدمت قيم اللحمة الاجتماعية وفرضت نزعات فردية انانية عمقت عزلة الفرد عن جيرانه واهله ، وهنا نرى الفرق الجوهري في التركيبة النفسية بين الغربي والشرقي والتي ظهرت في مواجهة كورونا .

ان المأثرة الكبيرة لكورونا هي انه كشف الطبيعة الفاشية والانانية للراسمالية وانها معادية للانسان وحقوقه الاساسية. وهذه فرصة تاريخية حاسمة لكل الاشتراكيين والتقدميين لاستثمار هذا التطور التاريخي من اجل التأكيد على ان الاشتراكية هي النظام الاجتماعي الوحيد الضامن لحقوق الانسان الاساسية والثانوية معا.

ان عالما لاتحكمه اشتراكية بوجه انساني بكافة الوانها القومية لايمكن فيه للانسان ان يكون حرا ومتفتح الطاقات الانسانية ومتراحم مع الانسان الاخر في اي مكان،طفل مات بسبب الكورونا وشيخ يشهق محتضرا بحثا عن نسمة هواء ولايجدها في مستشفيات اغنى بلاد العالم هي التي دحرت الرأسمالية .

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى