لعنة الألوان: قراءة في رواية ميلانين للكاتبة فتحية دبش
الشاعر اليمني هشام باشا يكتب عن لعنة الألوان: قراءة في رواية ميلانين للكاتبة فتحية دبش
بعد قراءتي لرواية "ميلانين" للكاتبة العربية التونسية، أ. فتحية دبش، تأكدت أنه ليس بمقدور مثلي أن يتحدث عن أبعادها الفنية والفلسفية، والفكرية التي تنقد وتُفَنّد التأريخ الذي كتبه الشعور، ولم تكتبه الرؤية.
وكنتُ معها حين قالتْ في الصفحة 71 "نحن نبحث عن رواية منصفة"
ولستُ معها حين قالتْ" وكلنا في النّهاية نزوّر التأيخ، حسب الحاجة" وذلك لأنّ المستقوي فقط هو من يزوّر التأريخ، أما من اسْتُضْعِفَ فأقصى ما يريده هو الانصاف، لا أكثر.
توقفتُ طويلًا في الصفحة 12، وهي تقول: "بعد الربيع العربي بدأت أفريقيا تتقيأ أطفالها بلا مواربة، ولا خجل، تستفيد في ذلك من شماعة الفقر، ومن صمت التأريخ على جرائمها، في بيع أطفالها قديمًا، للقوافل العربية، وللبواخر الغربية، واليوم على ظهور قوارب الموت"
توقفت هنا وقلتُ في نفسي كم هي المأساة طويلة جدًا وكبيرة جدًا،و عميقة جدا حين تعبر الزمن والبحر.
وعاودتُ الوقوف في الصفحة 29و30 وأنا أرى ذلك الإنسان الذي افترشتْه الفاقة على عراء المعاناة يحاول تلطيف وهج الشموس،
تلك الصور العربية والأفريقية التي ارتبط تأمّلها بالشعور بالغضب وبالحزن منها وعليها، والعجز عن تغيرها.
وتوقفتُ أطول في نظرة الكاتبة الفلسفيّة وهي تقول :في الصفحة 73، بعد مغادرة "لوراس" وقد حدثتْها عن ماضيها الذي لا تبالي به،
"نهضتُ والقيتُ نظرة على الشارع عساني أراها ملوحة بيديها لتقول إلى اللقاء، ولكنها مضت، وحده ظهرها يرقبني، ويندس في سيارتها المركونة في حافة الرصيف، عجبًا لهم! إنهم لا يلتفتون أبدًا إلى الوراء، وكأنّ شيئًا لا يربطهم بالماضي، ولا بالآخر.. فقط يمضون صامتين ملتفين فقط لما سيأتي"
وهنا غصتُ في العمق الفلسفي، ولم تكن لديّ القدرة الكافية لأصل إلى القرار، ولكني أكتفيت بالمحاولة.
إن مثلي لا يستطيع الحديث عن الكاتبة وهي تقول: "المدن في الأوطان الجائعة كالنّساء تمامًا، مستباحة أو أسيرة تُفَرّخُ للفقر والتهميش".
وتقول أيضًا "الخطايا تثمر في كل أرض وتأريخ" و"الأوطان والنساء لا يمكن استرجاعها متى اغتصبت أو خنّاها، والارض حين تضاجع سكة الغرباء تنجب أطْفالًا مشوهين"
وعنها وهي تتحدث بلسان سهيل :
"لم يقتلني إلا وطن سكنته فخان، وأمل طاردته فنجا،
واسم حملته ولم يكن لي،
كان كالبحر الطاعن في الهدوء، أعبره كالباخرة، يتيمان نحن يا وطني، أنت الباحث عن ولد بار، وانا الباحث عن أب يمنحني اسمه" والكثير الكثير.
أما فتحية الشاعرة فقد عرفتها في جمال تصويرها وفي كاف التشبيه الذي كان لا يجرُّ إلا صورة حيةً ترتعش لحظة وتقف أخرى متيحة للقارئ التأمل في أدق تفاصيلها، فمثلًا :
و"أنظر بعيدًا في المدينة أمامي كعروس يثقلها الحليّ"
و "الطريق تمتد كثعبان تحت نافذتي"
و "يشحنني التفاعل بطاقة عالية تشبه رعشة عشّاق في ليلة مقمرة، على رمال شاطئ مهجور لم يدنسه خطو قبلنا"
و"هذه باريس جنية تسكن من وطأ شوارعها"
و "تكنس رموشك الحزن الغابر في الضلوع"
والكثير الكثير.
شخوص ميلانين والحياة التي خلقتها الكاتبة وعاشتها معهم، تأخذ بالقارئ إلى روايتين يقرأهما في آن واحد، وهذا بحد ذاته فن لا يجيده إلا الكبار الكبار.
ميلانين بأحداثها المتعددة التي يرتبط بعضها ببعض، لا تترك في نفس القارئ مكانًا إلا ووضعت فيه دمعة أو دهشة أو سؤالًا حزينًا.
أبكتني "رقية" وأوجعني "سهيل" وأسعدتني "شيماء" و"انطون" وكم كانت دهشتي أكبر من حجم الاستيعاب بزواجهما الذي كانت الكاتبة بارعة ومدهشة في صناعته،ميلانين أثبتت أننا هالكون إلّمْ ينقذنا الحب.
ميلانين ب"لوراس" وحبيبها السجين و"شيماء" و"انطون" و"رقية" و"سهيل" أثبتت أن الحب فوق الدين وفوق الذنب والبؤس والعرق، وفوق كل شيء.
ميلانين صفعتْ الربيع العربي بيمناها الشريفة، أكثر من مرة، لأنها مدركة أنه ليس إلا لعنة أضيفت إلى الرصيد العربي، ومن ذلك قولها:
"يُدّمرونَ كل شيء بقذيفة أو بفتوى أو بشعار وخذلان فنستحيل جميعنا، رذاذًا أحمر، لا أحد كان ينتظر أن يكون رذاذ ربيع الياسمين حممًا"
ميلانين قالت الحقيقة التي لم يقلها أحد وهي: "يبدعون في تطريز علاقات ودٍّ مع اليهود، وحشو رؤوسنا بواجب الثأر".
وأخيرًا ميلانين دخلتها وأنا أريد أن أعرف من هي فتحية دبش، وخرجت منها وأنا أريد أن أعرف من هو هشام باشا،
ملاحظة أخيرة ميلانين من خلالها عرفت فرنسا وتونس. والمدى الفاصل بينهما أرضًا وإنسانًا.