آراء

شهادة للتاريخ قبل 12 عاما: طائرة بلا وقود

عادل الأحمدي يكتب: شهادة للتاريخ قبل ١٢ عاما: طائرة بلا وقود


منذ قيام الثورة اليمنية وحتى العام 1990، كان اليمنيون يحركهم هدف وجداني كبير وهو الوحدة. وكان من شأن هدف كهذا أن يمنح النضال زخماً عالياً وقدسية كبيرة.. لكن اليمنيين بعد تحقيق وحدتهم 22 مايو 1990م وقعوا في مأزق انعدام الهدف الكبير.. مع ضرورة الاعتراف أن ترسيخ الديمقراطية يعد هدفاً كبيراً.. لكن اليمنيين كما أسلفنا أقدموا على ممارسة الديمقراطية بشكل أفقدهم التواد والتحاب.. الديمقراطية وحدها لا تكفي وهذا يستدعي في هذه اللحظة اليمنية أن يراجعوا طريقة تجسيدهم للديمقراطية.. مع ضرورة أن لا ينسيهم مثل هذا الأمر تحديات أخرى لا تقل خطورة، فشلوا فيها منذ العام 90 إلى الآن وتتمثل في تثبيت المنجزات الوطنية في أذهان التاريخ وعقول النشء وذاكرة الأجيال، حتى لا يتسلل على غفلة منهم لصوص التاريخ من جديد.. ولذا يتوجب على اليمني أن يمسك بكل الخيوط المنسية التي سببت انحساره وأخرت إسهامه في ركب الحضارة وفي تقدم الإنسانية.

* * *
أحيانا تلتبس الرؤية على الشعوب، ويصعب عليها تحديد ماهية اللحظة التي وصلت إليها.. والحاصل الآن هو أن اليمن رغم تجاوزه الكثير من الصعوبات والمحن إلا أنه في ذات الوقت قد تلقى بالفعل ضربات موجعة في مضمار العمل الوطني، وعلى صعيد التنمية والتآلف. لكن بالإمكان تدارك أضرارها، فما زال الجميع، وفقاً لهذه الرؤية، يلعبون في الوقت الأصلي، وإن كانوا في الدقائق الأخيرة منه. وبالتالي، بمستطاع اليمنيين أن يجعلوا من كل الضربات التي تلقاها الجسد اليمني، ضربات "تقوي الظهر لكنها لا تكسره"، بحيث يبدو وكأن المستقبل لم يزل تحت السيطرة، ويتوقف نوع هذا المستقبل على نوعية وكفاءة الفعل الوطني العام الذي يمكن اتخاذه خلال قادم الأشهر والسنوات.
تسير اليمن الآن إلى حيث يقودها اليمنيون.. فقط؛ ينبغي عليهم أن يوقنوا أن هذا الأمر هو في مستطاعهم، بل وأن يتيقنوا من أن مراحل أكثر صعوبة قد تم اجتيازها من قبل، وبالتالي يتبقى على الجميع –باعتقادي- التوصل إلى تشخيص دقيق لماهية اللحظة المعاشة، بأفراحها وأتراحها، تشخيصاً دقيقاً؛ يساعدهم على معرفة أين يقفون الآن بالضبط، وما الخطوة التالية التي عليهم اتخاذها.

* * *
منذ ما يزيد على عقد من الزمان كان الشعب على هامش الصراع يرقب عن كثب أسعاره في سوق المزايدات، التي تعتسف الحديث أحياناً عن همومه بطريقة جافة، خالية من الهم الوطني وخالية من النبل والإحساس بالمسئولية، كل هذا، جعل من المشروع الثقافي للوحدة الوطنية أمراً في "غيابة الجب"، تماماً كما هو حال فكر الثورة الذي تدهور قبل ذلك بكثير، فكان من الطبيعي حينما تجتمع المعاناة والانتهازية السياسية والتطرف في الطرح، مع غياب المشروع الوجداني الناظم لأشواق الشعب، من الطبيعي في ظل ذلك أن تبرز المشاريع الصغيرة القروية والعنصرية والمذهبية، التي أطلت برأسها من بين الرماد، وراحت تهتاج مقتاتة من برميل قمامة التاريخ.
وفي حال كهذه، فإن الرهان على حكمة الشعب فيه قدر كبير من المجازفة؛ إذ ما الذي تنتظره من شعب يجوع لكنه لا ينتج، يحتاج لكنه لا يبتكر، يريد لكنه لا يسعى، يحار لكنه لا يتحرى.
لقد تعود اليمنيون على معايشة الهدر، وفي ظل الحراك الحزبي الموسوم بالانتهازية؛ غابت فكرة دراسة الظاهرة الشعبية والمزاج العام، ولأن الجميع (الحاكم والمعارض) لا يشعر بحاجته إلى الشعب فقد راحوا يسوقون له توصيفات من قبيل الاستخفاف، وأصبح الشعب، وفقا لنظرية قوى الحشد في الحزب الحاكم، عبارة عن أصوات في موسم الانتخاب وفي نظر المعارضة شارع تزور إرادته في الانتخابات لكنه سوف يزلزل عروش الظلم ويعلن العصيان والإضراب!! إلى ما هنالك من تعبيرات لا تأخذ في حسبانها مصلحة الشعب ولا تفكر في عواقب ما تدعو إليه.
وفقاً لما سبق؛ لم تعد الديمقراطية آلية للبناء والتنافس الشريف وتجنيب الجميع بوادر الصراع بين المتنافسين؛ بل غدت بهذه الصورة مادة للصراع إلى جانب صيرورتها في نفس الوقت صورة من أرقى صور التبعية المعاصرة!! وفي زحمة المبالغات المبشرة بالخطر الوشيك والانهيار الكبير تفقد الألفاظ قدرتها على الإثارة، وبالتالي قد يأتي الخطر الحقيقي فلا يصدَّق، تماماً كما هو حال الخطاب في الجهة المقابلة التي تتحدث عن المنجزات والمعجزات بطريقة تفقد الألفاظ معها الدلالة، وتستفز البعض لتفنيد مضامينها ليقعوا إذ ذاك في مأزق انعدام الإحساس بالحد الأدنى من إيجابيات الحاضر، التي هي ليست بالقليل، لكن انعدام تثمينها يجعلها تتسرب من بين الأصابع.

* * *
"خُلق الإنسان عجولا"، وفي تقديري، فإن هرمونات العجلة في الإنسان اليمني قد تكون أكثر بكثير من غيره من البشر. وقياساً بحجم المدة الزمنية التي انقضت من عمر الوحدة بكل ما حفلت به من انجازات وإخفاقات فإن أمام النخب اليمنية مهاماً كبيرة في الخمسين سنة القادمة في سبيل وضع مداميك الدولة الحديثة مما يؤهل اليمن لأن يكون رقماً صحيحاً في حلبة الأمم وبما يتيح له دورة حضارية جديدة هو في مسيس الحاجة إليها بعد قرون طويلة من الغياب.
مع ذلك فإنه ليس من الانتقاص التأكيد على أن اليمنيين فوتوا على أنفسهم، مراراً، فرصة الاحتفاء بشيء كان ينبغي عليهم أن يحتفوا به، لهذا لا تتعزز النقلات الكبرى في الوعي العام الجمعي لدينا في اليمن، ولا تأخذ حقها من التثمين؛ ولقد نبه المولى عز وجل في كتابه الحكيم، إلى أن هذه ليست سمة مستحدثة في اليمنيين؛ بل هي عريقة جداً. وكانت سبباً في ذهاب ريحهم وانكسار شوكتهم، إذ هم في أوج قوتهم كفروا بأنعم الله.. "فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا". [سبأ : 19]. "وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ" [سبأ : 16].
لا يمكن لأحد الادعاء بأننا نعيش في حال لا يعيبه شيء؛ بل المؤكد أن اليمنيين الآن يعيشون مرحلة المحاولة، وطالما هم كذلك، فلا شيء إذن يدعو إلى الجزع؛ فقط عليهم أن يدرسوا تاريخهم بعناية، وأن يتعمقوا في الإنسان اليمني، مداخل قوته ومكامن ضعفه، وذلك حتى يصوغوا لأنفسهم استراتيجية شاملة للنهوض بالإنسان اليمني، تتع إلى على كوابح اللحظة المعاشة وحساباتها الضيقة، وتنبذ جانباً المصالح الجزئية للأشخاص والجماعات، واضعة نصب عينيها أن ما يصلح لشعب لا يصلح لغيره، وأن استيراد النظريات، سواء في الحكم أو في الاقتصاد أو الثقافة، هو أمر عبثي لا طائل منه، ولا موجب له. ألم يؤمن اليمنيون، بعد، أنهم وحدهم مفتاح خلاصهم؟! وأن الخطوة التالية التي عليهم إنجازها لن يقدمها لهم خبراء أجانب كما أن تشخيص اللحظة الحالية، لا يجب أبداً أن يتم بنفس المعايير المستخدمة.

* * *
بالرغم من كل الأخطاء والسلبيات التي رافقت التزاحم الحزبي والعمل السياسي إلا أن بالإمكان التأكيد أنه لا خوف على البلاد من الناحية السياسية؛ في المقابل فإن التهديد الحقيقي يكمن في الأزمات غير المحسوسة والمتعلقة بالجوانب التعليمية والركود الثقافي وتلوث منظومة القيم التي تتحكم في أداءات المجتمع وتصبغ وسائله في الترقي وتحقيق الذات.. ولذا ينبغي أن يأخذ جانب البحث العلمي والدراسات دوره في تنسيق الصورة القادمة؛ كما إن على الفنون والآداب أن تأخذ موقعها من جديد في تغذية الوجدان اليمني بالأشواق العظيمة؛ ويتوجب على الرئيس الاهتمام بهذا الجانب الذي لم يعط حقه منذ أن استهلكتنا مشاكل السياسة.

* * *
طائرة اليمنيين جاهزة للانطلاق. لكنها بلا وقود.. لقد غاب المفكرون والأدباء والعلماء والمؤرخون والتربويون والشعراء عن معركة البناء، وكانوا هم وحدهم من سيعصر روحه وقوداً لهذه الطائرة. ويحرك وجدان المجتمع في خضم مشروع كبير. ذلك أن اليمن حينما يتوحد لا يستطيع العيش في المنطقة الرمادية؛ فهو إما أن يصير قوياً.. ويمارس دوراً حيوياً في مجاله فيظل موحداً، وإما أن ينشغل بنفسه فيصيبه الضعف وتنتابه من جديد لوثة التمزق.
الشعب طيلة هذه السنوات الماضية صامد بفعل القوة الذاتية فيه، ماض بفعل رغبته الكامنة في المضي. رغم أن المصابيح التي كان يراد لها أن تضيء دربه ليواصل الصعود، سُلطت للأسف على عينيه وكأنها تريد به التعثر والسقوط إلى ما هو أقسى وأخزى.
ثمة طاقة هائلة في اليمن؛ لن يستغرقها إلا مشروع كبير، ولن يقود دفتها إلا جميع النخب من جميع الانتماءات السياسية والثقافية، بشكل أو بآخر..
يقول الرئيس علي عبدالله صالح في مقدمته للميثاق الوطني 1982م "منذ أن ألقت الأقدار على كاهلي حمل أمانة قيادة الأمة وجدت نفسي مشغولاً بجملة من الهموم التي كان في مقدمتها خطورة ترك الساحة خالية من فكر وطني"؛ فوا عجبي. هذا بالضبط هو ما أريد قوله (له ولكم) طيلة هذه الصفحات.

* * *
لقد ازداد سكان اليمن منذ تولي علي عبدالله صالح الحكم بنسبة تفوق الضعف بقليل، وبالتالي فإن الشريحة الأوسع الآن هي شريحة الشباب.. الشباب الشريحة التي تصنع المعجزات، ويستولي عليها الحنين لأن تشاهد شيئاً من التحولات. الشباب الذين يجدون أن عليهم القيام بشيء ما؛ لكن أحداً لم يقل لهم ما هو.. سوى بعض الدعوات المتنافرة التي تدعوهم للتصفيق الحار أو العصيان الأخرق. يقع اليمن الآن، بسبب هؤلاء الشباب، على أعتاب تحول جديد؛ لم يرسم خطوطه أحد. يريدون أن يندرجوا ضمن مشروع عظيم، يريدون أن يبذلوا أكثر مما بذل الأولون. يريدون أن يحققوا ذواتهم وأن يثبتوا للعالم أنهم موجودون. يريدون معاني عظيمة يعتنقونها، ونماذج رائعة يحذون حذوها ونفيراً وطنياً هادراً يحتشدون في مجاله. يريدون مضماراً يثبتون فيه أقدريتهم على السبق. ويريدون غايات نبيلة تمكنهم من إظهار ظمأهم إلى التضحية.
هؤلاء الآن هم الحاضر الذي لم يستطع أن يمسك بتلابيبه أحد. وهم الطاقة التي هدها الصبر وعذّبها الغياب. بإمكانهم أن يكونوا قوافل رفعة كما بإمكانهم أن يصبحوا طوفان خراب. لقد أمكن لعلي عبدالله صالح أن يهيئ الوطن لانتقالة جديدة ومفصلية، لكن معاونيه لم يساعدوه في وضع ملامح هذه الانتقالة.
لعل أسوأ ما يعانيه اليمنيون اليوم هو تعودهم على مشاهدة الهدر.. الهدر في الطاقات، والهدر في الأوقات، والهدر في الثروات، وكذا تعوُّد التحديات على غياب الكوادر الوطنية الحقة. وأضيف إن أسوأ ما يحتشد به الواقع المعاش الذي نجم عن العناد والأنانية وانعدام المشروع الوطني، أن لا مساحة للإسهام، أن ثمة حرباً ضروساً ضد دائرة المتاحات. أن ثمة انسداداً غير عفوي لكثير من منافذ التخلق والإبداع.. أقولها كمواطن يقرأ القلق العاجز في العيون، ويشهد بكل جوارحه، أن الناس قد تعبوا من القعود بلا تعب. أن البلاد تسير ولكن بلا روح. أن قيماً كالصدق والإيثار وحب اليمن؛ أصبحت مدعاة للتهكم..
الساحة الآن تحتاج إلى برنامج جديد تمتلئ به قلوب القادمين الجدد الذين لا يخافون سوى الله ولا يكرهون سوى الجمود، تفتقر الساحة اليمنية إلى مشروع وطني جامع؛ ينتظم أشواق اليمنيين ليحققوا نقلة ملموسة تقوي لديهم الشعور بالاعتزاز، وتضاعف لديهم الإحساس بالفاعلية والكينونة، وتنقيهم مما علق من شوائب التزاحم الحزبي وعوادم المشروعات المضنية.
يحتاج الأداء اليمني إلى محرك وجداني كبير؛ يذلل أمامهم سبل التقدم، ويقوي في قلوبهم رغبة الإقدام ولمعة المبادرة.. يزيّن الصبر في أعينهم ويجعل المعاناة بطعم الشهد. ذلك أن الوازع أقوى من القانون، والدافع أقوى من الراتب؛ إذ الفساد الحاصل الآن ليس سوى عاهة أخلاقية مصدرها فساد النفوس وبالتالي لن تنفع معه أقوى وأذكى آليات المكافحة، لأنه سيبتكر بدوره آليات أدهى في التحايل.. أقول: لن يقلع الفاسدون عن ممارسة الفساد ما لم يكونوا ممتلئين بأشواق كبيرة تصرفهم عما يضرهم. وما لم يصلوا إلى قناعة أن الفساد ضار بهم أفراداً وشعباً.. وأن البطولة والمكانة يتمثلان في التضحية والإيثار والبذل وليس في الاستحواذ والهلع.. ذلك "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
تتشظى الآن اهتمامات الإنسان اليمني الذي أفقدته المعاناة بعضاً من حرارة الولاء وشيئاً من عزة الانتماء.. يحتاج اليمنيون في هذه المرحلة أن يسيروا موحدي الخُطى.. مجموعي الشمل.. ذلك أن أمامهم تحديات كبيرة كما أن الواقع مليء بالتصورات الشائهة والأداءات العقيمة والتراكن الأعمى والسلبية القاتلة ومليء بالمشاريع غير البريئة التي تريد جر الناس إلى ساحة الجزع ومربع التعاسة ودائرة الانفعال الأهوج.. يحتاجون إلى استراتيجية واضحة ونبيلة يشترك جميعهم في صياغتها وتنفيذها يقودهم في ذلك رغبة صادقة لإصلاح الأوضاع ويضبط إيقاعهم محرك وجداني كبير.
ولا شك أن المحرك الوجداني الكبير هو حب اليمن؛ فعندما تمتلئ القلوب بحب اليمن تصبح المناطقية صفراً، والمذهبية كفراً والتعصب الحزبي نوعاً راقياً من البلادة.
عندما يتمكّن في قلوب الناس حب اليمن، تمتلئ أيامهم بالمجيء، وتغمَر أرواحهم بالوضوء، وتمتلئ قلوبهم بالسكينة والحب والمثابرة والنظر البعيد.

_______
الباب الأخير من كتاب "الخيوط المنسية: اليمن و30 عاما من حكم علي عبدالله صالح".
صادر عن مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام (طبعة أولى 2008، طبعة ثانية 2009).

زر الذهاب إلى الأعلى