اهتمامات

الحرب الحوثية على المساجد: رفات قبة وأنقاض مئذنة

عبدالرزاق الحطامي يكتب حول أبعاد الحرب الحوثية على المساجد: رفات قبة وأنقاض مئذنة


الله أكبر.. تصدح المآذن والمنائر بنداء التوحيد، فتهرع القلوب إلى بيوت الله ضيوفاً عليه، وتحت سقف بيته مثابة للناس وأمناً، وتجسيداً فعلياً لروح المواطنة المتساوية، والإنسانية الواحدة في منظومة الحياة والتعايش، والانسجام المنتظم، والالتحام التام.
بيوت أذِنٙ الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فرفع خليله إبراهيم القواعد وسمقت المآذن في عصور الإسلام شاهداً على حضارته وهويته، وتطور فنونه المعمارية وسمو رسالته، حتى جاءت المليشيات الحوثية فارتفعت الصرخة الخمينية على رفات القباب، وأشلاء المساجد التي فجرتها، وأنقاض المآذن التي هوت على ألغامها وعبواتها الناسفة ومقذوفاتها القاصفة.

الحرب الحوثية اللامحدودة على بيوت الله
مبكرًا، كان المسجد الهدف الأول على فوهة المشروع الحوثي الإيراني في بنادق ميليشياته الإرهابية التي اعتمدت مبالغ بالدولار الأمريكي تتراوح ما بين 50-100دولار مكافأة لأي شخص يرفع صرختها الخمينية في مساجد صنعاء والمحافظات اليمنية، وكان ذلك في مرحلة التنظير الفكري للحركة الحوثية في حدود معقلها الرئيسي في محافظة صعدة لتدشين تمردها المسلح على الدولة.
دشنت المليشيات الحوثية حربها على المساجد على مرحلتين، شملت الأولى السعي في خراب المساجد عبر جرائم ظلم مطلق، متعدد الأنماط في المنع والقمع والاعتداء على حرمة المساجد، بإثارة الشغب والاعتداء على الخطباء، وترديد شعارات مضللة ذات صبغة إيديولوجية سياسية، وفرض بروباجندا طائفية، وخطاب أحادي، وكانت صلاة الجمعة المسرح المفتوح الذي مارس عليه قرابة أربعمائة حوثي مجندين لهذه المهمة ملهاتهم العبثية على خشبته في كثير من مساجد اليمن، وبشكل خاص ومكثف في أمانة العاصمة صنعاء.
أما المرحلة الثانية فهي (الخراب) نفسه بمفهومه التدميري الكلي، ونزعته الإفسادية الهادمة ضداً على العمران الحضاري الذي ترتبط به عملية بناء المساجد وفاعلية وظائفها، والتي تؤرخ بمعالمها المعمارية لفترات وحقب عتيدة من التاريخ الإسلامي، فكل مسجد هو شاهد تاريخي على مرحلة.
وشملت جرائم الخراب الحوثية لمساجد الله أنماطاً متعددة من الظلم المطلق اللانهائي الذي تركه النص القرآني مفتوحاً على الاستفهام الاستنكاري في قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا…) البقرة آية 114 مع أن هذا التساؤل الاستنكاري اقتصر على جرائم قمع الحريات الدينية والسعي في الخراب، في إشارة ضمنية تستبعد جرائم تفجير المساجد وتدميرها كليا كون حدوثها في حكم النادر والشاذ، حتى على مستوى الصراع بين الديانات، أما على مستوى الجرائم الحوثية بحق مساجد الله فقد استغرقت المليشيات كل أنماط الاعتداءات والانتهاكات التي هي في حكم الجرم النادر والظلم المتعدي لكل الخطوط الحمراء في حدود الله وبيوته المعمورة على أرضه.

أنماط الحرب الحوثية

تقوم المليشيات الحوثية بتفجير المساجد ودور القران ومراكز تدريس العلوم الشرعية في عمليات إجرامية معلنة في رابعة النهار وعلى عيون الأشهاد، وتتم هذه الجرائم على أعلى درجات التخطيط والإعداد والتنسيق والتوثيق، كما يقوم فريق احترافي من المصورين الإيرانيين بينهم لبنانيون من حزب الله بتوثيق الجريمة من قلب الحدث، وعادة ما تحف هذه الجرائم طقوس احتفالية كرفع الأيادي عالياً وهي تمسك بالبنادق على وقع ترديد الصرخة الخمينية.
كما تطلق المليشيات ضمن هذه الطقوس تفسيرات صريحة ومباشرة لحيثيات الجريمة ومقصدها، بعيدا عن أمريكا وإسرائيل، وسفسطة الصرخة الخمينية، وتعويمات شعارها، فتفجير المساجد عملية عمدية تعبدية تقربهم إلى الله زلفى ونصر مؤزر على المؤمنين الذين كانوا يرتادون هذه المساجد، وتطلق عليهم المليشيات مسميات تكفيرية ( الدواعش/ أعداء الله) والكٙفٙرة بصريح اللفظ.
انكسرت المآذن، وتهاوت القباب، وتمزقت المنابر، وجثا المحراب على أشلائه المبعثرة، وأنّت المساجد.

ما يقرب من ألف مسجد ألقى عليها الحوثيون حقدهم؛ مساجد فجروها في سواء النهار، وعز الظهيرة، بألغام أو عبوات ناسفة، أو بالقصف بمقذوفات الكاتيوشا والهاون والأسلحة الثقيلة، ومساجد تم نهب محتوياتها، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، ومرائب للسيارات، ومستودعات غاز وسلاح، ومقائل قات، وصالات رقص شعبي، ومراكز اعتقالات، وتعذيب، وتجنيد، ومعامل لصناعة العنف والإرهاب والتطرف الطائفي التكفيري، وساحات للصراع والإقصاء، وفرض أجندات الدين السياسي والفكر الإيراني الأساطيري، ولوكندات شعبية للمليشيات.

على طريق جائحتها الطائفية ووبائها الاثني عشري، وعلى خط ما يدعى بالمسيرة القرآنية، انطلاقاً من صعدة إلى صنعاء ثم عبوراً على أغلب المحافظات اليمنية؛ شنت المليشيات الحوثية حرباً بلا هوادة، وبلا حدود ضد مساجد الله ودور القرآن والعلوم الشرعية؛ بدءاً من منطقة دماج التي تعرضت لعملية محو عنيف وجذري لكل مكونات مركزها العلمي.
بعد تسليمها العاصمة صنعاء، وسيطرتها على مقاليد الأمور في المحافظات الواقعة جغرافيا في نطاق سيطرتها، عملت المليشيات الحوثية على فرض ترديد الصرخة على المصلين، كمأثور ديني أصولي؛ يكْفر من لا يؤديه وتبْطُل صلاته، وفرضت خطباء الجمعة وأئمة المساجد من أتباعها عديمي الخبرة والأخلاق، لتتناثر من على المنابر الطاهرة أكبر موسوعة في المفردات المنحطة، والخطاب المشبع بالكراهية، والخطاب السوقي المبتذل القائم على تضليل العقول والتلاعب بها بمفاهيم الحرب، وسب الصحابة، ودعاوى الجهاد المقدس ضد أمريكا وإسرائيل، وتحرير القدس والبيت الأبيض.
غادر المصلون أغلب المساجد أمام هذا الهراء، وعرفت اليمن أكبر عملية حجر وتباعد اجتماعي في زمن الحوثيين بعد أن غدا المسجد وسيلة تفرقة ونفخ كير الصراعات المذهبية والطائفية، بعيداً عن وظيفته الأساسية في تمتين خيوط النسيج الاجتماعي، وتوطيد وحدته الواحدة المتحدة.
الأبعاد المرئية والخفية
من أبرز أبعاد هذه الحرب الحوثية الشعواء على مساجد الله الآتي:
* إفراغ المسجد من هويته ومكانته وفحوى حرمته وقداسته، وتحويله إلى مجرد مكان مجرد من أية قيمة تمنحه خصوصية.
*استدعاء الحرب الطائفية داخل اليمن عبر الاعتداء على أكثر الأماكن مركزية وحساسية في الوجدان الإسلامي، في عملية تمهيد لعبور المشروع الإيراني الطائفي الدموي على جثث اليمنيين وأنقاض المساجد إلى بيت الله الأكبر في أرض الحرمين الشريفين.
*القضاء على الهوية الإسلامية التي يمثل المسجد رمزها الأبرز والفتك بكل ملامح الحضارة الإسلامية من فنون معمارية ومنمنمات فنية ومخطوطات أثرية ومكتبات ثمينة.
*منح المليشيات الحوثية بأضاليل الفتاوى الدينية المُسّيسة من مرجعياتها العليا جرأة أكبر للاعتداء على حرمات الممتلكات العامة وحقوق المواطنين؛ فمن يفجر بيوت الله لن يفكر كثيراً أو يردعه وازع أخلاقي عن تفجير بيت مواطن على رؤوس أهله.

* مجلة المنبر اليمني

زر الذهاب إلى الأعلى