عن الصديق المبدع زيد مطيع دماج
أنور العنسي يكتب عن الصديق المبدع زيد مطيع دماج
يأتي إلى الحياة الكثير من الصاخبين ومشعلي الحروب لكنهم ينصرفون ببعض الخزي أحياناً غير أن سواهم يجيء إلى الحياة بصمت، ويمضي بصمت، لكنه يترك وراءه ضجيجاً هائلاً من كتب ودراسات وحتى إبداعات قليلة خلاقة لا يمكن أن يطمرها النسيان.
يستحيل البتة أن يأخذني الهوى، أو تغلب علي العاطفة للمبالغة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن أحد هؤلاء، عن روائي صديق من طراز الراحل "زيد مطيع دماج".
هناك الكثير مما يمكن قوله عن فن زيد القصصي والروائي لكني سأقتصر هنا على ملمح شخصي وإنساني لفت انتباهي مبكرا ً إلى تجربته.
أكثر ما كان يعجبني في زيد أنه كان زيداً فقط لا ينقص منه أي شيء، ولا يزيد على ذلك أي شيء من حسبٍ أو نسب أو مكانة في وظيفته أو مجتمعه وقبيلته وقد كان من كان.
زيد المبدع الجميل كان على الورق هو ذاته زيد الذي تراه على الواقع، إنساناً ينتمي لكل الناس مثلما ينتمون إليه. أكاد الجزم أنني وَعَيت صراعات اليمن في قصص زيد قبل وأكثر من أن أعرف اليمن في الواقع، وعندما تعرفت إلى زيد نفسِهِ عرفت "الإنسان" الذي تكتمل إنسانيته بجهدٍ دؤوب على تطوير معارفه وتقنيات الإبداع الإنساني لديه.
عندما عرفت زيداً للمرة الأولى كان ذلك على أفطار متواضع دعاني إليه في مطعم "الرعيني" للكباب عند زقاقٍ صغير في حي "القاع" أمام المقر السابق لوزارة الخارجية حيث كان يعمل بصنعاء. كان الأهم من ذلك "الصبوح" في ذلك الصباح أنني عرفت كيف ينغمس زيد في التفاصيل الدقيقة لحياة الناس وهو يدخن سيجارته بعد الفطور على كأس صغيرٍ من الشاي الأحمر، ويلتقط ما يريده من الصور، قبل أن يشتغل في بقية يومه على إبداع أدوار شخوصه وأبطال قصصه.
أكاد أزعم أنني في أوقات تالية عشت معه ليس مضمون تلك القصص فحسب ولكن أيضاً مهارته اللغوية في صياغتها. لطالما احتفظت لنفسي ببعض مسودات قصصه أو قصصه نفسها التي كان يعهد إلي بنشرها في الملحق الثقافي لصحيفة "الثورة" اليمنية الذي أشرفت على تحريره لبعض الوقت في ثمانينيات القرن الماضي.
لم يكن خط يد زيد هو الأجمل لكنه كان الأكثر قدرة على الإيحاء بأنه كان يفكر حين يعمل. لقد كان في خط اليد الذي يسطره زيد على الورق ما يحمل على التأمل أيضاً من حيث كونه يجسد أمثلة على تاريخ الكتابة على الورق، ففيما كنت أعرفه أن من يتقنون فن تشكيل الخط على الورق لا يعتنون كثيراً بجوهر الفكرة التي يخطونها، يصرفهم تفكيرهم في إتقان جماليات الخط عن الإمعان في مضمون الخط، أما في حالة زيد فقد جمع بين الاثنين لدرجة كادت معها قصصه القصيرة حتى مع بعض"التشطيبات" التي يدخلها عليها تبدو أشبه بلوحات فنية تبعث على أكثر من انطباع.
كان زيدٌ يرسم بدم القلب وبأحرفٍ من السحر وقائع رواياته وقصصه لدرجة تكاد معها أن تراه بين كلماته وتشعر بدفء أنفاسه بين سطوره.
لا أكتب هنا عن زيد بوصفه صديقاً ولكن باعتباره واحداً ممن مروا بصمتٍ في الحياة لكنه ترك وراءه ضجيجاً من أعمال إبداعية يجب أن تتحول إلى إنتاج تسجيلي لعصره ينبغي أن يرى النور.
قصارى القول في حكاية الرجل أن السنوات مرت خفافاً وعجافا، وجاء زيدٌ بعد زيد، ولكن "زيد مطيع دماج" ظل أزيد الكل حضوراً في القلب ووهجاً في الذاكرة.
عناوين ذات صلة: