[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

الإيقاع الداخلي في قصيدة (مزاد سرّي لجداريةٍ لم تكتمل) للشاعر: يحيى الحمادي

معاذ الجحافي يكتب: الإيقاع الداخلي في قصيدة (مزاد سرّي لجداريةٍ لم تكتمل) للشاعر: يحيى الحمادي


الإيقاع الداخلي هو الإيقاع الذي تَحكمُه قِيمٌ صوتيةٌ تَحدث مِن خلال تكرار الحروف والمفردات والتجمعات الصوتية والطباق والجناس، وتوازن الجمل وتوازيها وغيرها، وهو ينتج عن حسن اختيار المنشئ لألفاظه وجودة ترتيبه لها داخل العبارات، بما يتلاءم والمعاني لرفع قيمتها التعبيرية والتأثيرية في آن واحد، ولك أن تقول إن: الإيقاع الداخلي: هو الموسيقى الخفيّة التي تنبع من اختيار الشاعر لكلماته وما بينها من تلاؤم في الحروف والحركات، وكأن للشاعر أذناً داخليةً وراء أذنه الظاهرية تسمع كل شكلة وكل حرف وحركة بوضوح تام، وبهذه الموسيقى الخفية يتمايز الشعراء.

وبهذا فالإيقاع الداخلي ينتج عن تفاعلِ حالةِ الشاعر النفسية وحالته الفيزلوجية، فالأصوات عبارة عن ذبذبات فيزيائية تثير حاسة السمع، والشاعر يتأثر فينتج أصواتاً منتظمة بإيقاع ما يحمل معانيَ تثير المتلقي أو القارئ.
وللنُّظُم الإيقاعية الداخلية سمات دلالية في سياق النص الشعري، وأبرز هذه النُّظُم: التكرار، والتجمعات الصوتية.

- التكرار: يُعدّ من الظواهر المهمة في تعميق الإيقاع الصوتي، فترديد الوحدة الصوتية المتمثلة في التكرار سواءً كانت لفظاً أم عبارة أم معنى، يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة واهتمام المتكلم بها، ويفصح عن نفسيته، ويلفت إليه السامع، وبهذا يحقق التكرار وظيفتين: دلالية، وإيقاعية. وقد تنوعت ظاهرة التكرار في قصيدة الحمادي ما بين الحرفي والاسمي، والفعلي، بما يدل على التشظي الذي يأخذ الأمة- وليس اليمن وحده- إلى مزيدٍ من الضياع.

- التكرار الحرفي: وهو على نوعين: الأول: هو الحرف الذي يتكون من صوت واحد. والثاني: هو الحرف الذي يتكون من أكثر من صوت ( ونقصد به حروف المعاني) فعلى مستوى الصوت الواحد: يتجلى التكرار في صوتَي (الواو- الياء), المتمثل في حضورهما الطاغي على مستوى القصيدة, فصوت (الواو) كان حاضراً على مستوى القصيدة سواءً كان من أصل الكلمة أو بمعنى العطف, الذي يدل على المشاركة في العمل، ويعزز الترابط بين أجزاء القصيدة، على المستوى الفني والموضوعي، ويعمل على الاستمرارية بين الأبيات، وتوضيح معانيها، وبما أنه صوت، فإنه يمتد كجسرٍ موسيقي على مستوى القصيدة، وبهذا يُحدث نقلةً دلاليةً ترافق الامتداد الإيقاعي, أما صوت (الياء) سواءً كان من أصل الكلمة أو (ضمير المتكلم)؛ فإنه لم يكن إلّا عن بيت واحد. وهذا الحرف من حيث كونه ضميراً للمتكلم؛ فإنه من خلال التصاقه بما قبله يعطي دلالة تفصح عن مدى العلاقة بين المبدع وما يتحدث عنه, وهو من حيث كونه صوتاً, فإنه من خلال إشباعه للقافية المكسورة, ينساب كنهرٍ من الإيقاعات المتناغمة.

استهلّ الحمادي قصيدته بالحديث عن الشعر فهو (صومعة, دكان, سكن, سكان)؛ والشعر كما هو معروف ديوان العرب, وعند الحمادي, فالشعر هو الوطن والمواطن, أي أن الشعر وطنه, وهو وطن الشعر, وهذا التوحد بين الشعر والشاعر يؤكده التميز والتفرد الذي يمتلكه الشاعر, إذ أصبح صوتاً مميزاً على مستوى الوطن العربي.
وفي حديثه عن الشعر, هناك العديد من المفردات ( بحور, عبرات, سهر, أخيلة, دفاتر...) التي تحمل في تشاكلها عدة إشارات, تتعلق بالإبداع, والمبدعين, على أن الإبداع عملية احتراق, والمبدع صاحب الروح الشفافة يرى ما لا يرى غيره, ويتألم ويحترق من أجل القضية التي يحملها, وها هو الحمادي يتألم ويحترق من أجل الوطن الذي يحمله بين جوانحه, وهو يعيش فيه غريباً, كما يقول:( هو غربتي....وأنا المقيمُ به.....). والغربة هنا نوعان:( حسي, معنوي) أو (مكاني, نفسي)؛ فالأول: يتمثل في الابتعاد عن الأهل والوطن, والثاني: هو أن تعيش غربياً في وطنك وبين أهلك, وهذا ما يعيشه المبدع العربي في كل قطر. فما أقسى أن تعيش يتيماً وأنت في أحضان والديك وبين إخوتك.
والوطن- أيضاً- نوعان: وطن معنوي: يتمثل في الشعر, والثاني: مكاني يتمثل في مكان العيش والسكن.

وكما أن الغربة تعني: الابتعاد والفراق والألم والحزن والضياع, فثمة مفردات تعزز هذا المعنى, ف(الحدود) تشير إلى تلك الأسلاك التي صنعها الاحتلال الغربي على خارطة الوطن العربي, و( الجراح, والأحزان, والقتل, والبطالة..) تشير إلى المعاناة التي تعيشها الأقطار العربية, و(الخيمة) وإن كانت تحمل عدة دلالات رمزية, إلّا أن الأفضل جعلها سبباً لما سبق, كونها ترمز إلى البداوة وحياة الصحراء, وتشير إلى أن أولئك الأغبياء المستبدين الجهلة .. سبب كل هذا العناء الذي حلّ بالأمة.

يلاحِظ المتأمل أن الحمادي كان يمضي تدريجياً في رسم جداريته, وكذلك يمضي بالقارئ نحو الفكرة, فهو في البيت الثالث يقول: (هو غربتي...), والغربة تدل على الضياع..., وقد عزز ذلك بالمفردات التي تحمل دلالات الضياع, ثم جاء بقوله:( وأضعت.. حين عشقت غربته) جاعلاً الغربة سبباً للضياع....., وفي قوله, مرتين: ( أنا والضياع...), والثالثة (أنا بالضياع...) تصريح بفكرة الضياع.....
وقد كان لتكرار صوتَي (الواو- الياء) وحضورهما الطاغي على مستوى القصيدة أثراً في تعزيز الترابط بين أبياتها من جهة, وبينها والشاعر من جهة أُخرى, وإيقاعياً: فقد امتد الأول كالجسر, وانساب الثاني كالنهر..
والنوع الثاني من التكرار الحرفي: نقصد به ( حروف المعاني التي تحمل أكثر من صوت): وهذا يتجلى في حرف الجر (عن)؛ حيث تكرر في(5) أبيات متتالية (8) مرات-رأسياً وأفقياً- بشكل متعاقب متوالٍ يعمل على خلق وحدة بنائية تناسب الموضوع الشعري؛ فهذا التكرار يحدث في المتلقي تأثيراً يمتد ويسير من خلال حركة الكسر الطاغية على القصيدة, التي تنتج إيقاعات موسيقية متناغمة منسجمة مع إيقاع القافية المكسورة المشبعة بالياء, فضلاً عن دخول حرف العطف(و) على الجر (عن), الذي يعزّز الإيقاع بما يعطيه من إحساس بالتناسق, علاوة على التعزيز الدلالي, الذي يحدثه في الربط بين الأجزاء الصغرى والكبرى.

-التكرار الاسمي: لتكرار الاسم دور فاعل في قصيدة الحمادي, وقد وظفه الشاعر تعبيراً عن مشاعره وانفعالاته, حيث أثرى المستوى الشعوري للقصيدة, وفي دائرة هذا التكرار نراه يوظف الضمير المتصل والمنفصل. ومن التكرار الاسمي ( وطن, الضياع), فقد تكرر الأول أربع مرات- ثلاث بشكل تعاقبي رأسي, والرابعة بعد خمسة أبيات- بثلاثة صيغ مختلفة ( نكرة, معرف بالضمير, مثنى) (وطن, وطني, وطن, وطنان), وكأن الشاعر قد جاء بصيغة المثنى ليؤكد-كما ذكرنا سابقاً- على نوعين من الوطن ( معنوي, حسي), وإنْ كان الحضور الغالب في ما سبق للأول, وهاهنا للثاني؛ فإن هذا لا يعني أن أحدهما أقل أهمية من الآخر, فكلاهما حاضر في وجدان الشاعر, وحاضر على مستوى القصيدة. وفي قراءة أخرى لهذا التكرار يتجلى الواقع المتشظى للوطن المعرف بالضمير (وطني), الذي جاء بين نكرتين: (نكرة سابقة, ونكرة لاحقة) (نكرة في الشمال, وأخرى في الجنوب), وبفعل هاتين النكرتين تمزق الوطن الوحد (وطني), بل وصل الأمر إلى التشظي, الذي صار يقودنا إلى مزيدٍ من الضياع, كما يؤكده تكرار اسم (الضياع) لمرات ثلاث. وكما كان لاسم (وطن) بما فيه من أصوات إيقاع مفعم بالحنين, فقد جاء (الضياع) على مسافات متباعدة, كجرس تنبيه من الحال الذي يعيشه الوطن, بين اللا حرب, اللا سلم, الذي أدخله فيه, وفرضه عليه المتآمروين عليه من الداخل والخارج. والنوع الآخر من التكرار الاسمي يتمثل في تكرار ضميرَي (الفاعل, الغائب) (التاء, الهاء), وفي هذا التكرار يتجلى حضور الشاعر, وغياب الوطن, وطن الحرية والعدالة والمساواة, وطن الحب والكرامة....., ومما يعزز حضور الشاعر تكرر الضمير المنفصل(أنا), الذي يدل على حضور الذات في هذا الضياع المسمى وطن ( يذل عاشقه.., ويعز قاتله, ويرفع الجاني...).

-التكرار الفعلي: وهذا التكرار يتجلى في الأفعال( رأى, أسمع, قال..), حيث جاء الأول ثلاث مرات, بشكل رأسي متعاقب, متصلاً بضمير الفاعل( رأيتُ), وبعد بيت واحد, تكرر مع الثاني مرتين(أرى, أسمع), وهنا جمع الشاعر بين حاستيّ البصر والسمع, لكنه استخدمهما بطريقة توحي بامتلاكه لموهبتيّ (الرسم بالحروف, الرسم بالألوان). ومن خلال التكرار الفعلي يتدفق الإيقاع الصوتي, بما فيه من المشاعر والانفعالات, بين أجزاء النص, مولداً ما يقابل تلك المشاعر والانفعالات في ذهن المتلقي....

-التكرار التركيبي: ونقصد به التركيب الذي تكرر بالأصوات نفسها, أو أغلبها, ولدينا من ذلك ثلاثة أنواع: الأول: جملة فعلية ( ورأيتُ كيف..), وقد تكررت هذا الجملة ثلاث مرات. الثاني: جملة اسمية ( أنا والضياع...)؛ غير أن صوت (الباء) جاء في مكان (الواو) في المرة الثالثة (أنا بالضياع...). الثالث: شبه الجملة (وعن استِراحةِ..., وعَن استِباحةِ..., وعَن استِفاقَةٍ..). وفي هذا التكرار تتكون الأصوات في ثلاث مجموعات, كل مجموعة تشكل نوعاً من الإيقاع المتباين مع غيره من جهة, والمتشاكل معه من جهة أخرى, وبهذا التكرار تتآلف الأصوات مكونةً تناغماً متناسقاً, منسجماً من جهة, متمايزاً من أخرى, يعمل على إثارة المشاعر, ويعزز من دلالة المعنى.....

-التجمعات الصوتية: يُعنى بها التكرار لبعض الأصوات, التي تتوزع في الكلمات على مستوى البيت الواحد, أي بشكل أفقي؛ غير أن هذه القراءة التي بين أيدينا اعتمدت على تناول الصوت الأكثر حضوراً على مستوى القصيدة, وهذا ما تم تناوله سابقاً في صوتَي (الواو, الياء). وبما أن جميع الأصوات على نوعين: (مهموسة, مجهورة) أو (صامتة, صائتة) ؛ فإن كل نوع يشكل مجموعة من الأصوات, ذات إيقاع ودلالة. وتظهر التجمعات الصوتية في قصيدة الحمادي بصورة لافتة, حيث لاءم بين الأصوات وعمل على تجميعها مكررة في أبياته, فكانت على نوعين: تجمع الأصوات المهموسة, وتجمع الأصوات المجهورة.

-الأصوات المجهورة:
شكَّل تكرار الحروف المجهورة حضوراً مميزاً في القصيدة, وقد وظفها الشاعر للتعبير عن قوة الألم الذي في داخله, مما أثرى المستوى الشعوري للقصيدة؛ ذلك أن الجهر يكون فيه الصوت أقوى, وفي هذا دلالة على قوة المعاناة التي يعيشها الشاعر, أي الأصوات المجهورة أقوى من المهموسة, ذلك أنها تمنع النّفَسَ أن يجري معها عند النطق بها لقوّتها وقوّة الاعتماد على مخارجها, ولهذا فإنها تمثل القوة والوضوح. وكما برع الشاعر في اختيار صوت القافية المتمثل ب(النون) المكسور, المسمى ب(حرف النواح)؛ فإنه قد عمد إلى تكرار صوتَي (الواو, الياء) بما فيهما من معنى (الترابط, والالتصاق). وبما أن النواح يدل على (الفقد), الذي إما أن يكون فقداً حسياً حقيقياً, أي ( الموت), أو معنوياً ويعني (الضياع), فما الذي أضاعه الشاعر, ليربط كل آلام الضياع ويلصقها بنفسه؟!

لاشك أن ضياع الأحباب والأصحاب.. يكون قاسياً, وأقسى من ذلك ضياع الأوطان! فكيف ضاع الوطن..., ومتى ضاع..., ومن الذي أضاعه؟؟ كل هذه الأسئلة يجيب عنها الحمادي, بعبارات مكثفة, تحمل في طيّاتها إشارات عدّة: ثقافية, سياسية, اجتماعية.., بما ينم عن مدى اطلاعه, وثقافته الواسعة.., وإدراكه لما يجري, بمعرفته لما جرى, كاشفةً عن سر هذا الضياع القادم، كما أنها تنم عن ريشة مبدع واعٍ, يمتلك مهارة متفردة, ومقدرة عظيمة على تطويع اللغة لخدمة الفكرة....

-الأصوات المهموسة:
الصوت المهموس هو الصوت الذي لا تهتزّ معه الأوتار الصوتية حال النطق به, إذ ينطلق الهواء حراً ولا يصطدم بأيّ حاجز أو عائق؛ وهي اثنا عشر صوتاً (ت, ث, ح, خ, س, ش, ص, ط, ف, ق, ك, ه). وقد اعتنى الشاعر إلى جانب الأصوات المجهورة بتكرار الأصوات المهموسة, بما يعزز المعاناة, التي سببها ضياع الوطن, نتيجة الصراع الممتد منذ مائة عام إلى اليوم بين (التسلط× الرفض), أي رفض التسلط. ومن الأصوات المهموسة التي وظفها الشاعر, صوت (التاء), الذي يجمع صفة قوّة إلى صفة ضعف (انفجار, همس), وهو بهذا يدلّ على صراع محتدم بين ما تكنه ذات الشاعر من أشجان وحسرات ودموع (العين), فضلاً عن تكرار صوت (السين), الذي يتميّز بطول مدة الاستغراق الزمني ليوحي للمتلقي بطول زمن المعاناة, التي يعيشها أبناء هذا الوطن لا سيما المبدعون منهم....

- نتائج القراءة:
من خلال هذه القراءة السريعة لقصيدة (مَزاد سِري، لجداريّةٍ لم تكتمل) تتجلى عدة نتائج منها:
-أن الحمادي يمتلك مقدرة عالية في استثمار الإيقاع الداخلي لخدمة فكرة النص, حيث تمكن من أن يطوّع الأصوات في بنية الكلمة بين الجهر والهمس لتتواءم وطبيعة الموضوع. ولذلك استثمر الأصوات المجهورة لإظهار قوة المعاناة, وما فيها من توتر وصراع, كما استخدم الأصوات المهموسة التي تعزز مشاعر الألم والقلق..

-استغلّ الطاقة الكامنة في الألفاظ ليجعلها تنقل إلى ذهن المتلقي صورةً صوتية تكشف عن معانٍ مكبوتةٍ في وجدانه.

-تمكن من خلال الإيقاع الداخلي أن يستثير في ذهن المتلقي القارئ مسيرة الصراع الداخلي الطويل الذي يعيشه الوطن.

-لا شك أن هذه القراءة كانت سريعة, كما أنها لم تحصِ كل ما يتعلق بالإيقاع الداخلي للقصيدة. وأخيراً لا بد من القول إن القصيدة فيها ما يؤهلها لأن تُؤخَذ كموضوعِ بحثٍ في الدراسات العليا.

القصيدة: (مَزاد سِري، لجداريّةٍ لم تكتمل..)

الشِّعرُ صَومَعَتِي ودُكَّانِي
ودُرُوبُهُ سَكَنِي وسُكَّانِي

وبُحُورُهُ عَبَرَاتُ مَن سَكِرُوا
بِدَمِي، وما اغتَسَلُوا بأَجفانِي

وجِهَاتُهُ: سَهَرِي، وأَخيِلَتِي
ودَفاتِري، وهَشِيمُ أَلواني

هُوَ غُربَتِي.. وأَنا المُقِيمُ بهِ
مُتَرَامِيًا كَحُدُودِ أَحزانِي

رَمَتِ البطالةُ بي إِليهِ كَمَا
يَرمِي القَتِيلُ بعُمرِهِ الفانِي

فَضَرَبتُ في كَبِدِي لَهُ وَتَدًا
وخَصَفتُ خَيمَتَهُ بِشِريانِ

وحَمَلتُهُ بَصَرًا لِأَجنِحَتِي
وبَصِيرَةً لِجرَاحِ إِخوَانِي

وأَضَعتُ -حِينَ عَشِقتُ غُربَتَهُ-
طُرُقِي، ومِنسَأَتِي، وعُنوانِي

ولَقد هَمَمْتُ بهِ، وهِمْتُ.. إِلى
أَنْ صِرتُ أَهجُرُهُ فَأَلقانِي

أَنا ما مَدَدتُ يَدًا إِلَيهِ ولِي
وَطَنٌ سِوَاهُ، يَخَافُ فُقدَانِي

وَطَنِي -الذي بيَدَيَّ- ليس سِوَى
حَطَبٍ، أَبِيعُ عَلَيهِ قُمصَانِي

وَطَنٌ ضَحِكتُ لَهُ.. فَأَخرَسَنِي
ومَسَحتُ دَمعَتَهُ.. فَأَعمانِي

وحَمَلتُ صَخرَتَهُ الكَبيرَةَ مُح
تَمِيًا بها.. فَكَسَرتُ إِنسانِي

هُوَ حَلَّ في شَجَنِي، وفي بَدَنِي
وأَنا انتَعَلْتُ دَمِي وحِرمانِي!

ورَأَيتُ كيف يُعِزُّ قاتِلَهُ
وعلى الجِنايَةِ يَرفَعُ الجانِي

ورَأَيتُ كَيفَ يُذِلُّ عاشِقَهُ
ويَذُوبُ مِن وَلَهٍ بِأَوثانِ

ورَأَيتُ كَيفَ إِذا رَفَعتُ يَدِي
رَفَعُوهُ لِي كَ(قَمِيصِ عُثمانِ)

***

وَطَنَانِ لِي.. وأَنا المُقِيمُ على
رَهَقٍ.. أُطارِدُ شُؤمَ غِربانِ

بيَدَيَّ صِرتُ أَرَى وأَسمَعُ ما
جَمَعَ الظَّلامُ عَلَيَّ مِن رَانِ

وأَرَى وأَسمَعُ كُلَّ مَن عَبَرُوا
عَبَثًا، على عثراتِ أَلحاني

أَنا والضَّياعُ حَدِيقَتانِ.. ومَا
ئِدَتَانِ.. لِلقَاصِي ولِلدَّانِي

وبلادُنا سَفَرٌ يَحِينُ بلا
طُرُقٍ.. ووَاحِدُنا به اثنانِ

وجِرَاحُنا مُقَلٌ تَجِفُّ وما
قُرِئَت مَوَاجِعُها بإِمعانِ

مُتَلازِمَانِ.. بلا مُعاهَدَةٍ
لِلوَصلِ نَحنُ، ودُونَ هجرانِ

مُتَنَافِرَانِ.. ولَيسَ يَفصِلُنا
جَسَدٌ, ولا خطواتُ شَيطانِ

يَدُهُ على كَتِفِي.. وخِنجَرُهُ
بدَمِي؛ يُمَزِّقُنِي، ويَخشانِي!

ويَقُولُ لِي: (دَعنِي)، أَقُولُ لَهُ:
(دَعنِي).. فَيَضحَكُ بُعدُنا الآنِي

ويَقُولُ: (لِي رَأيٌ..) أَقُولُ: (ولِي
رَأيٌ).. ونَصمُتُ صَمتَ غِيلانِ

**

أَنا والضَّياعُ قَصيدةٌ كُتِبَت
في الحَربِ، عَن صُوَرٍ، وجُدرانِ

وعن استِراحةِ رَاحِلِينَ، وعن
خَجَلِ المَعَاوِلِ مِن دَمِ البَانِي

وعَن استِباحةِ خائِنِينَ لِما
عَبَدُوا، وعَن صَرخاتِ نِسوانِ

وعَن استِفاقَةٍ بَلدَةٍ بُهِتَت
فَجرَ الخَميسِ بِلَونِها القَانِي

وعَن المَجاعةِ، والجَرَادِ، وعَن
زَمِنِ الغُبَارِ، غُبَارِ أَزمانِ

أَنا بِالضَّيَاعِ بَنَيتُ مِن وَرَقٍ
أَمَلًا.. فَلَوَّحَ دُونَ إِمكانِ

تَقِفُ الحَيَاةُ معي وُقُوفَ دَمٍ
قَلِقٍ، يُحَاذِرُ مَوتَهُ الثَّانِي

ولِكَي أَمُرَّ بها فَأَوَّلُ مَن
سَيَمُرُّ: خَيطُ دَمِي، وجُثمانِي

وإِذا حَيَاتُكَ زِيْجَةٌ فَشِلَت
فالمَوتُ تَسرِيحٌ بإِحسَانِ

يحيى الحمادي

عناوين قد تهمك:

 

الوسوم
زر الذهاب إلى الأعلى