[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

كيف فكر الرئيس صالح في دواعي الميثاق والمؤتمر؟ (4+5+6)

فيصل الصوفي يكتب: كيف فكر الرئيس صالح في دواعي الميثاق والمؤتمر؟ (4+5+6)


نعم، كانت لجنة الواحد والخمسين نخبة، تمثل أحزابا وتيارات فكرية واجتماعية وعسكرية وعددا من المستقلين كما بينا في المقال السابق، لكن مضامين الميثاق الوطني في صيغته النهائية ليست كلها من بنات رؤوس تلك النخبة، كما سنرى بعد قليل.

لقد كانت مهمة هذه اللجنة ليس فقط تطوير مسودة مشروع الميثاق الوطني استنادا إلى خبرة رجالها، بل أن تشرع في تقصي آراء ووجهات نظر الجمهور أو المواطنين حول مجمل القضايا الأساسية التي تهم الوطن والتعرف على تطلعاتهم وتصوراتهم حول الحكم والإدارة والسياسة العامة، من خلال طرح مشروع الميثاق الوطني المعروض عليها، حيث تم توزيع نسخ من المشروع على المواطنين باعتباره ورقة عمل قابلة للتعديل والتغيير وفق المنطلق الأساسي للمشروع من خلال تقصيها لآراء، ووجهات نظر المواطنين ولقاءاتها مع مختلف القوى والفئات والعناصر الوطنية.

أوجب القرار الذي أصدره الرئيس علي عبد الله صالح، على هذه اللجنة إعداد استمارات تتضمن أسئلة ومساحات لإبداء الآراء ووجهات النظر حول مجمل القضايا والأسس الفكرية التي يجب أن يتضمنها الميثاق، وان تشكل اللجنة الرئيسية أية لجان فرعية، سواءً من بين أعضائها أو من غيرهم، ترى ضرورة تشكيلها بهدف مساعدتها في عملها، وفي التعرف على آراء المواطنين ومقترحاتهم حول مشروع الميثاق، على أن تتولى مسئولية توجيه تلك اللجان وتحديد صلاحياتها، وكان يتعين أن يترأس كل لجنة من اللجان الفرعية التي تقوم بتشكيلها، عضو من أعضاء لجنة الحوار الوطني والتهيئة لعقد المؤتمر الشعبي..

ثم بعد هذه العملية تولت اللجنة فرز وتلخيص نتائج الحوار الشعبي من خلال حصر ردود المواطنين على الأسئلة والاستفسارات المقدمة إليهم في الاستمارات الموزعة عليهم، وجمع حصيلة الحوار الذي قامت بإجرائه مع مختلف القوى والعناصر الوطنية بهدف الاستهداء بذلك كله في وضع الصيغة قبل النهائية لمشروع الميثاق الذي سيتم عرضه على مؤتمر شعبي عام لمناقشته وإقراره..

وقد تعين على اللجنة بكامل أعضائها أن تتحول إلى لجنة صياغة لكل ما توفر بين يديها، وترفع ما توصلت إليه بعد انتهائها من مهمتها قبل الأخيرة- وضع الصيغة قبل النهائية لمشروع الميثاق الوطني، إلى رئيس الجمهورية ليقوم بدوره بتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر شعبي عام، كما كان على اللجنة رفع التوصيات التي تتوصل إليها حول المؤتمر.

لقد عقدت لجنة الحوار الوطني أول اجتماع لها في 21 يونيو 1980، وترأس الاجتماع رئيس الجمهورية نفسه، ولمزيد من التوضيحات حول مهامها، وضرورة مأسسة عملها، ليكون أدائها منظما ومنضبطا، وأن تعمل من خلال عمل الفريق، سواء هي أو ما سيتفرع عنها من لجان، ونبه اللجنة أن الاجتهادات الشخصية خارج الضوابط المحددة غير مطلوبة، ومن المهم معرفة أراء وأفكار القطاعات الشعبية ليأتي الميثاق الوطني معبرا عن الواقع..

ثم انتخبت اللجنة من بين أعضائها المقرر وأعضاء أمانة السر، وبدأت النقاش حول مسودة المشروع السابق بهدف الوصول إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك للأسس الفكرية والقضايا الأساسية التي تضمنها، كما قررت اللجنة تشكيل خمس لجان متفرعة منها، واختارت رؤساءها وأعضاءها بالتصويت وهي: لجنة تنظيم الحوار - اللجنة الاقتصادية والسياسية - اللجنة الثقافية والاجتماعية والتاريخية - لجنة فرز وتبويب الآراء- لجنة الصياغة..

ونشير هنا إلى أنه كان في البداية قد برز داخل لجنة الحوار الوطني اتجاهان: الأول يرى تنظيم مؤتمر عام يتولى إقرار مشروع هذا الميثاق، والاتجاه الآخر كان يرى عرض مشروع الميثاق على المواطنين في استفتاء عام.. وفي النهاية تم الاتفاق على الأخذ بالخيارين معاً، حيث عرض المشروع للاستفتاء الشعبي من خلال مؤتمرات شعبية مصغرة، واستمارات استبيان لاستطلاع رأي الجمهور، وبعد أخذ رأي الجمهور واستيعاب آرائه ومقترحاته، يتم إقراره من قبل مؤتمر شعبي عام سيشارك فيه 1000 عضو من مختلف مناطق الجمهورية، كما سنبين لاحقا..

وبعد هذا التوضيح نستأنف ما بدأنا به، ونقول إنه عقب تلك العمليات الإجرائية التي قامت بها لجنة الحوار الوطني، وبعد الأخذ بالخيارين المذكورين، وضعت هذه اللجنة خطة عمل ذات أربع مراحل: المرحلة الأولى وضع اللائحة الداخلية المنظمة لأعمالها، الثانية خطة تنظيم الحوار العام المباشر مع المواطنين، الثالثة إعداد استمارة استطلاع الرأي حول مشروع الميثاق، وكانت تلك الاستمارة مكونة من 16 صفحة تحتوي 32 سؤالاً موجهه للمواطنين حول كل باب من أبواب مشروع الميثاق، ووزع منها أكثر من 200 ألف استمارة إلى جانب أكثر من 100 ألف نسخة من مشروع الميثاق، وشكلت لهذا الغرض 26 لجنة فرعية للحوار المباشر يرأس كل لجنة عضو في لجنة الحوار الوطني أنيط بها الإشراف على عقد مؤتمرات مصغرة للحوار في مناطق مختلفة من البلاد خلال المدة الزمنية 19 ديسمبر1980 – 4 يناير 1981، وبلغ عدد هذه المؤتمرات 250 مؤتمرا شعبيا، ومن بين هذه اللجان كانت هناك لجنة واحدة تولت استطلاع رأي المغتربين في الخارج.. أما المرحلة التالية وهي الأطول زمنيا، فتمت خلال الفترة 17 فبراير 1981 - يناير 1982.

وبدأت باجتماع عقد بالعاصمة بحضور جميع اللجان الفرعية التي تولت بعد ذلك عقد وتنظيم المؤتمرات الشعبية المصغرة في النواحي لاستطلاع آراء المواطنين حول مشروع الميثاق، وعقد منها 250 مؤتمرا كما ذكرنا قبل قليل، جرى فيها حوار مباشر، وتم تدوين الآراء على الاستمارات التي عادت بها اللجان إلى العاصمة، لتبدأ بعد ذلك عملية تفريغ المعلومات المدونة في الاستمارات، وتوزيعها حسب الأبواب التي تكون منها الميثاق، وفي نهاية هذه المرحلة كتبت الصيغة قبل النهائية لمشروع الميثاق، ويوم 23 مارس 1982 رفعت لجنة الحوار الوطني الرئيسية رسالة إلى رئيس الجمهورية، مصحوبة بمشروع الميثاق، وتقرير مطول فصلت فيه ما قامت به بحيادية، وفي جو ديمقراطي خال من كل مظاهر الضغط والتأثير والإملاء، لأي موقف أو رأي، منذ بداية تشكيلها، وتفاصيل حول المراحل والمهام التي سبقت الإشارة إليها قبل..

وبعد اطلاعه على مشروع الميثاق وذلك التقرير، أثنى الرئيس على اللجنة، ووجهها باتخاذ التدابير اللازمة للتهيئة لعقد مؤتمر شعبي عام ينظر في مشروع الميثاق ويقره، وقال في الرسالة التي وجهها يوم 31 مارس لرئيس وأعضاء اللجنة: وفي هذا الصدد لا ننسى أن نقف وقفة تقدير لدقة وديمقراطية العمل الذي قامت به لجنتكم واللجان الفرعية في استقراء واستبيان رأي الشعب، عبر التحرك الواسع بين صفوف جماهير شعبنا اليمني، والتي كانت المؤتمرات الشعبية المصغرة في كل مناطق الجمهورية صورة مشرفة للعمل الديمقراطي الذي أملاه شعبنا، وجاء وفقاً لخياراته دون فرض من أحد أو ضغط من أية جهة، فهو بشهادة شعبنا، وشهادتنا مع الشعب، ثمرة حية ناضجة لمناخ الحرية الذي يتمتع به وطننا وشعبنا..

وانه - مواصلة منا لنفس المسيرة الثورية التي اختارها الشعب وارتضاها، ولمزيد من تأكيد الديمقراطية، وتعزيز قوة الوحدة الوطنية- قررنا تكليفكم بمهمة الإعداد والتحضير للمؤتمر الشعبي العام لٌإقرار الميثاق الوطني، على أن يتم في أقرب وقت ممكن خلال هذه السنة التي سوف يحتفل فيها شعبنا بالعيد العشرين لثورته السبتمبرية، وإني لواثق ثقة كاملة بأنكم سوف تعطون هذه المهمة كل الجهد والطاقة والحيوية التي أعطيتموها في تنفيذ المهمة السابقة، باعتبار أن المهمتين متلازمتان، وتخدمان هدفاً ديمقراطياً ووطنياً واحداً، يعتبر من أهم أهداف ثورتنا العظيمة وأغلى غايات شعبنا اليمني المكافح، مؤكداً لكل شعبنا اليمني بأننا سنكون على الدوام حريصين كل الحرص على مواصلة تجسيد أهداف الثورة وتحقيق غايات الشعب والتفاعل مع خصوصياته، وسوف نعمل على توفير كل أسباب النجاح لمهمتكم".. في المقال التالي سنرى كيف تم إقرار الميثاق الوطني.

******
الحلقة الخامسة
لقد قلنا قبل أن لجنة الحوار المكلفة بإجراء حوار وطني عام لوضع مشروع الميثاق الوطني، كانت مهمتها بعد ذلك التهيئة أو التحضير لعقد مؤتمر شعبي عام، مهمته مناقشة المشروع وإقراره لكي يغدو وثيقة وطنية تمتع بشرعية شعبية، وقوة إلزامية تجاه القوى السياسية، فضلا عن كونها ملزمة معنويا أو أدبيا.

وبناء على صلاحياتها- ووفقا لمضمون الرسالة التي تلقتها من رئيس الجمهورية- قدمت لجنة الحوار الوطني مقترحا في 31 أغسطس 1981، إلى الرئيس بأن يحدد عدد أعضاء المؤتمر الشعبي العام بألف عضو، فأصدر الرئيس القرار رقم 18 لسنة 1981 بتاريخ 19 أكتوبر 1981 تحدد بموجبه عدد أعضاء المؤتمر الشعبي العام، حيث نص بأن المؤتمر الشعبي العام لإقرار مشروع الميثاق الوطني يتكون من ألف مندوب، يتم انتخاب سبعمائة منهم (نسبة 70 في المائة) من قبل المواطنين، عن طريق الاقتراع الحر المباشر، ويحدد عدد ممثلي كل منطقة حسب العدد السكاني، ووفقا لنتائج الإحصاء السكاني لعام 1981، أما الثلاثمائة عضو المتبقين(نسبة 30 في المائة) فيعينون بقرار من رئيس الجمهورية.. أما آلية انتخاب السبعمائة، فقد تم تحديدها بالقرار الجمهوري رقم 128 لسنة 1981، الذي قضى بتكليف اللجنة العليا للانتخابات واللجان الفرعية لانتخابات هيئات التعاون للموسم الانتخابي التعاوني الثالث بالإشراف على انتخاب ممثلي المواطنين في المؤتمر الشعبي العام.. بدأت هذه الانتخابات في ديسمبر1981 على مرحلتين، الأولى على مستوى العزلة، والثانية على مستوى الناحية (المديرية).. وبعد انتخاب السبعمائة، أصدر رئيس الجمهورية يوم 12 أغسطس 1982 قرارين (القرارات رقما 3 و4)، قضى الأول منهما بتعيين 309 أعضاء في المؤتمر الشعبي، وقضى الثاني بدعوة جميع الأعضاء المنتخبين والمعيين للمشاركة في المؤتمر الشعبي العام الذي ستبدأ أعماله يوم 24 أغسطس.

وفي هذا المؤتمر الذي التأم في الموعد المذكور، عرض على المشاركين مشروع الميثاق الوطني، واستمارة التعديل النهائي لمشروع الميثاق الوطني، وكانت هذه الاستمارة تتضمن سؤالا وخيارين، وتمت صياغته على النحو التالي: هل توافق على صيغة مشروع الميثاق الوطني المسلم إليك نسخة منه مع هذه الاستمارة، وهي الصيغة التي توصلت إليها لجنة الحوار الوطني من خلال الاستبيان العام والمؤتمرات الشعبية؟.. إذا كان الجواب بالموافقة أجب بنعم.. وفي حالة وجود أي ملاحظات تفضل بكتابتها فيما يلي موضحاً الأسباب".. وتركت في الاستمارة مساحة فارغة ليسجل فيها المندوب أو العضو الملاحظات أو الآراء التي يراها.. ومذيلة باسمه وتوقيعه.. ثم تمت إعادة صياغة الميثاق الوطني صياغة أخيرة ونهائية، على ضوء تلك الملاحظات، ووضع للتصويت، فصوت المؤتمرون لصالحه، وبذلك أصبح ميثاقا وطنيا.

ولعله من المفيد هنا، تقديم صورة عامة عن الميثاق الوطني.. فبين جلدتيه هناك مقدمة عامة طويلة، وخاتمة قصيرة للغاية، وبين المقدمة والخاتمة كتبت خمسة أبواب الأول عنوانه: الإسلام عقيدة وشريعة.. والباب الثاني: الإنسان والوطن.. والباب الثالث: الإدارة، العدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، التربية والثقافة.. والباب الرابع: الدفاع والأمن.. والباب الخامس: السياسة الخارجية.. والمضمون العام يمكن إيجازه في العبارات التالية: شرح بعض مظاهر الحضارة اليمنية في التاريخ القديم والتأكيد على أن ما أنجزه اليمنيون في الماضي كان يتم في ظلال حكم محلي مع وجود دولة مركزية في الغالب، وأن منجزات تلك الحضارة التي لا تزال بعض آثارها باقية إلى اليوم، تمت من خلال العمل الجماعي، وأن اليمنيين اضطلعوا بدور كبير في التاريخ الإسلامي، وأن الأوضاع في اليمن كانت تتأثر بما يحدث في محيطها سلبا أو إيجابا، فحيثما كانت الخلافة الإسلامية عادلة انعكس ذلك على اليمن والعكس صحيح،

وفي القرن العشرين كان نضال الشعب اليمني وتضحياته - منذ حركات الثلاثينيات وصولا إلى ثورة 26 سبتمبر 192- تستهدف الاستبداد والظلم، ومن أجل الحرية والعدالة، وأن هناك حقائق خمس مستخلصة من تجارب اليمنيين عبر العصور وهي أن العقيدة الإسلامية مصدر مركباتهم الروحية، ومصدر تشريعاتهم، وان كل ما أنجزوه في الماضي تم في ظل دولة عادلة تدعم المبادرات الجماعية، وتم في ظل استقرار اجتماعي وحريات عامة..
وأن شريعة الإسلام نهائية وصحيحة ويجب أن تستمد منها جميع التشريعات فيما يتعلق بالحقوق والواجبات، وأن الولاء الوطني ملزم للفرد تجاه وطنه، ويتحقق هذا الولاء من خلال المحافظة على السيادة والاستقلال الوطنيين، والالتزام بثورة 26 سبتمبر، والثقة بأن الوحدة الوطنية أساس الوحدة اليمنية، والوحدة اليمنية أساس الوحدة العربية، ويقتضي هذا الولاء الوطني وجود مساواة وشورى واختيار الحكام ومساءلتهم وفقا للشريعة الإسلامية، وأن تربية الفرد مقدمة لتربية الأسرة، وتربية الأسرة ضرورة لوجود المجتمع الصالح بكل مؤسساته، والتنمية الاقتصادية لابد أن تحقق عدالة اجتماعية بموجب الشريعة وشروطها، ولكي يتحقق الاستقرار الأمني ويحمى الوطن، لا بد من جيش وطني وقوات أمنية، ولكي تكون العلاقات مع الخارج جيدة ومفيدة لا بد من إتباع سياسة خارجية متوازنة، وفي الوقت نفسه ثابتة! وننبه أن هذا موجز المكونات الثقافية للميثاق، وقد يكون هذا الإيجاز مخلا، ولمن أراد التفاصيل قراءة نص الميثاق الوطني.

على أن للكاتب مأخذ كثيرة على هذا الميثاق وسنفصلها في مكان آخر، وعند مناسبة أخرى، ومن هذه المأخذ ما يتعلق برداءة الصياغة وتركيب الجمل، وعبارات فيها مجازفة، ومعلومات تاريخية مغلوطة، كما أن الذين صاغوا الميثاق سموا أشياء بغير مسمياتها، وضمنوه تلفيقات حول بعض القضايا، وتحريضا ضد الفرد لحساب الجماعة، وتقييد الحريات العامة وحقوق الإنسان بقيود الشريعة الإسلامية وغير ذلك من العيوب، الأمر الذي يظهر تأثيرا قويا لثقافة الإخوان المسلمين في هذا الميثاق، كما أن هذا الميثاق لم يتغير منذ اقراره قبل نحو 38 سنة، وهي فترة طويلة جرت في أنهارها مياه جديدة، وحان الوقت لتعديله أو تطويره.

حسنا.. بعد ثلاث سنوات من الحوار والتفكير والمهام الاجرائية تم التوصل إلى الميثاق الوطني، لكن من سينزله إلى الفضاء الاجتماعي العام؟ أو قل من هي الجهة التي سيتعين عليها وضعه موضع التطبيق؟ هذا ما سوف نناقشه في المقال التالي، والذي سيكون الأخير.

 

 

***
الحلقة السادسة

انتهينا في المقال السابق إلى القول إن عملية الوصول الميثاق الوطني استغرقت جهودا مستمرة طوال، والغرض منه أن يصبح دليل عمل، وتساءلنا: من سينزله إلى الفضاء الاجتماعي العام؟ أو من هي الجهة التي سيتعين عليها وضعه موضع التطبيق؟

في الحقيقة أن الرئيس علي عبد الله صالح كان يسعى من خلال المؤتمر الشعبي العام، إلى منح الميثاق الوطني شرعية وطنية، وفي الوقت نفسه ملئ الفراغ السياسي أو تكوين تحالف سياسي له هيكلية تنظيمية واضحة، وتعبر الأحزاب من خلاله عن آرائها وتشارك في السلطة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان أيجاد مثل هذا التنظيم في الشمال، ضرورة بالنسبة لصنعاء لتتوافر على تنظيم سياسي مواز لما هو موجود في عدن، وليشارك في الحوار وللتفاوض في كل ما يتصل بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية.

إذ أنه بموجب نص المادة التاسعة من بيان طرابلس الي وقع عليه رئيسا وزراء حكومتي الشمال والجنوب بتاريخ 26 نوفمبر 1972، يتعين إنشاء تنظيم سياسي موحد يضم جميع فئات الشعب اليمني(15)، وتشكيل لجنة مشتركة لوضع النظام الأساسي لهذا التنظيم الذي سيتولى السلطة بعد إعادة تحقيق الوحدة.. ففي عدن كان هناك تنظيم سياسي يتولى السلطة منذ الاستقلال عن بريطانيا، وذلك التنظيم هو الجبهة القومية، ثم "التنظيم السياسي الموحد- الجبهة القومية"، وأخيرا الحزب الاشتراكي اليمني،

بينما في صنعاء لم يكن هناك أي تنظيم سياسي، حيث أن الدستور الذي وضع عام 1970 كان يحظر تكوين الأحزاب والنشاط الحزبي، وكان الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني قد حاول- بعد صدور بيان طرابلس 1972- إيجاد مثل هذا التنظيم فأعلن بداية عام 1973 تكوين تنظيم سياسي باسم الاتحاد اليمني، ورغم أن التنظيم شكل رسميا إلا انه كان عديم الفعالية نظرا لعدم قدرته على القيام بوظيفته في ظل هيمنة القوى التقليدية على السلطة، ولم تكن له هوية محددة أو برنامج عمل سياسي أو مرجعية فكرية، وقد الغي هذا التنظيم بعد تولي الرئيس إبراهيم الحمدي السلطة في 13 يونيو1974.

وطوال تلك الفترة كان الشطر الشمالي من اليمن يفتقر إلى نهج سياسي محدد المعالم وإلى تنظيم سياسي تشارك من خلاله مختلف التيارات السياسية والفكرية في إدارة شئون الدولة، والتعبير عن نفسها، وقد عمل الرئيس علي عبد الله صالح على سد هذه الثغرة.

لذلك لم ينفض المؤتمر الشعبي العام، بعد استنفاد مهمة مناقشة وتعديل مشروع الميثاق الوطني وصياغته النهائية، والموافقة عليه أو إقراره.. فقد طرح الرئيس علي عبد الله صالح السؤال الكبير: ماذا بعد إقرار هذه الوثيقة الوطنية؟ ما هي الهيئة أو الأداة أو الآلية التي سيتم بها وضع الميثاق الوطني موضع التطبيق في الواقع العملي؟ هذه القضية تفسر استمرار فترة المؤتمر العام للمؤتمر الشعبي العام من 24 إلى 29 أغسطس 1982.

لقد جرى بين المشاركين نقاش طويل حول أسلوب العمل السياسي أو الأداة التي ستطبق الميثاق في الواقع العملي، وفي النهاية استقر المشاركون على الفكرة التي قدمها الرئيس، وهي أن المؤتمر الشعبي العام الذي هو عبارة عن تجمع مؤقت لإقرار الميثاق الوطني، ومقدر له أن ينفض بمجرد هذا الإقرار، ينبغي أن يستمر بنفس المسمى: المؤتمر الشعبي العام.. ليصبح التنظيم السياسي الحاكم في شمال اليمن، ويكون الميثاق الوطني دليله النظري..

ومن هنا بدأت عملية تحويل هذا المؤتمر من تجمع مهمته إقرار مشروع الميثاق وينتهي دوره عند هذه المرحلة إلى تكتل سياسي، أو تنظيم سياسي محكوم بنظام أساسي ولوائح تنظيمية، وبرنامج عمل، سيتم إعداده على ضوء نصوص الميثاق الوطني، وحسب المتطلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعسكرية للبلاد.

منذ ذلك التاريخ(تاريخ تأسيس المؤتمر الشعبي يوم24 أغسطس 1982) ارتبط اسم المؤتمر الشعبي العام بكل تقدم تحقق للمواطنين في شمال اليمن قبل الوحدة، في شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والتعليم والصحة والحريات العامة، وغيرها من المكتسبات الوطنية، وكان له ولقيادته العليا الدور الأكبر في تحقيق الوحدة اليمنية يوم22 مايو 1990، من خلال شراكته التاريخية إلى جانب الحزب الاشتراكي اليمني.. وبعد تحقيق الوحدة حتى العام 2011 كاد يكون الحزب الوحيد الذي وضعت على عاتقه قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية التجربة الديمقراطية في حين تحولت الأحزاب الأخرى إلى مظاهر للإعاقة والهدم، وهذا ما يفسر جاذبيته الجماهيرية، حيث ظل حزب الأغلبية الذي كرر الشعب تجديد ثقته به في كل المحطات الانتخابية الرئاسية والنيابية والمحلية، ومن الغرابة أن تكون جاذبيته هذه غير مفهومة أو موضوعا للمكابرة.

لقد كان المؤتمر الشعبي العام – في بداية لأمر- تنظيما سياسيا حاكما في شمال اليمن، أو قل إطارا سياسيا انتظمت داخله كل الأحزاب التي كان الدستور يحظرها في ذلك الوقت وإلى حين قيام دولة الوحدة اليمنية عام 1990، وقد نجح في تجاوز أبرز التحديات المتعلقة بقضية استمراريته عقب الوحدة خصوصا بعد أن خرجت منه القوى السياسية التي كانت تحت مظلته، وأعلنت عن نفسها كأحزاب مستقلة بفضل التعددية السياسية التي ضمنتها الوثائق السياسية للدولة الجديدة..

وخلال الفترة الممتدة من أغسطس1982 إلى ما قبل أزمة 2011 التي أفضت إلى الحرب الدائرة اليوم، حافظ المؤتمر الشعبي العام على عقد مؤتمراته العامة بانتظام باستثناء حالتين لهما أسبابهما القهرية.. وفي الجملة يعد المؤتمر الشعبي أكثر الأحزاب السياسية في اليمن انتظاماً في عقد مؤتمراته العامة، وهو الانتظام الذي يعد في مفاهيم الأعراف السياسية أحد أهم وأبرز عوامل قوة وصلابة أي تنظيم سياسي في أي بلد.

على أن هناك بعض الأساطير التي يرددها كثيرون حول المؤتمر الشعبي العام، ينبغي أن نقف عندها قليلا، ففيما كانت التوقعات تذهب إلى أن النظام الديمقراطي التعددي بعد الوحدة سيؤدي إلى انهيار المؤتمر وبروز القوى السياسية الأخرى، نجح في أن يتحول إلى أكبر وأقوى الأحزاب السياسية في البلاد وهو ما ظهر مع أول تجربة انتخابية شاهدها اليمن الموحد وهي الانتخابات النيابية في العام 1993..

وظل خصوم المؤتمر يلوكون الأسطورة الأخرى القائلة إن المؤتمر الشعبي حزب سلطة، يستمد قوته من المال العام والوظيفة العامة والإعلام الحكومي، وأيضا من السمعة الحسنة لرئيس الجمهورية علي عبد الله صالح الذي كان يتراس المؤتمر في الوقت نفسه، وأن المؤتمر سوف يتضعضع بمجرد فقده مكامن القوة هذه، لكن هذه الأسطورة سقطت أيضا، فقد ترك الرئيس صالح الرئاسة أواخر العام2011، وأقصيت قياداته من حكومة باسندوة وحتى اليوم، ومع ذلك ظل المؤتمر قائما وقويا، حتى بعد أن هجرته بعض قياداته في العامين 2011 و2015، وحتى بعد تعرضه للانقسام بفعل الحرب، وحتى بعد أن اغتالت الجماعة الحوثية الخؤونة رئيسه ومؤسسه الخالد علي عبد الله صالح.

عناوين ذات صلة:

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى