إمامة تتفنن في السحت وصناعة المجاعات
بلال الطيب يكتب حول: إمامة تتفنن في السحت وصناعة المجاعات
اشتهر الطاغية يحيى ببخله الشديد، وتحدث مُقربون منه عن مخازن كبيرة في قصر غمدان كانت ملأى بالحبوب، وغرف أخرى في قصري السعادة، والشكر كانت ملأى بالعملات النقدية؛ بل بملايين الريالات الفرنصية «ماري تريزا»، وأنَّه كان يقوم عند امتلائها بسدها بالأحجار، وأنَّها - أي تلك الغُرف - ظلت على ذلك الحال حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، ولم يرتشد إليها الثوار إلا بعد أنْ وجدوا في قصر ولده الإمام أحمد وثائق تحدد مكانها، وقد استفادوا منها في الإنفاق على النظام الجمهوري الوليد سلمًا وحربًا.
وذكر آخرون أنَّه - أي الطاغية البخيل - كان يحمل في جيبه دفترًا صغيرًا يدون فيه ما يحتويه هذا المخزن أو ذاك من أموال، وتحدثوا أيضًا عن قيام أحد أولاده بسرقته، وذلك بعد أنْ حفر نفقًا صغيرًا لإحدى تلك الغرف، ولم يكتشف أمره - أي الأمير اللص - إلا بعد أنْ بدت عليه علامات الثراء!
كتب حينها أحمد عبدالوهاب الوريث قصيدة ناقدة للإمام يحيى ونظامه، وفيها عرَّج على بخله، وانشغاله بجمع الأموال، وتساءل مُحفزًا أقرانه على الثورة:
أفي الملك الميمون وهو مُقدس
نرى الملك مشغولًا بجمع الدراهمِ؟
أفيه يسود الظلمُ والسلب والرُّشا
وفيه نرى الدينار أحكم حاكمِ
قبيح بنا أنّا نراه مؤخرًا
ونتركه يمشي بصورة عادمِ
ويرسف في قيد الجهالة شعبه
ويحرم من أنوار فكره عالمِ
كما قدم العلامة محمد بن محمد زبارة نصيحته الصادقة للطاغية يحيى بترك ذلك السلوك المشين، وإنفاق الأموال التي اكتنزها بما يخدم رعاياه المنهكين، وكتب قصيدة طويلة أسماها «الذكرى تنفع المؤمنين»، ومنها نقتطف:
أنفقوا مما جمعتم في بني
دينكم ترضون رب العالمين
في الأباة الصابرين الصادقين
العفاة القانعين البائسين
إن جمع المال لا ينجي ولا
يدفع التسليط عن مستوجبين
إنَّ كنز المال قد يوقع في ال
خزي والخسران في دنيا ودين
لم يستمع يحيى لتلك النصيحة، ولم يفتح مخازن الحبوب لإنقاذ الناس من المجاعات المُتلاحقة التي حدثت في عهده، وفتكت بالكثير منهم، ولجأ من نجا لأكل الكلاب والقطط، وحين ذهب إليه بعض المسؤولين أثناء مجاعة عام 1942م، والعام الذي يليه، وقدموا له مُقترحًا بزيادة إنتاج فرن الكُدم، صعَّر لهم خده، ورد على ظهر ذات الورقة: «أحسنتم بالرأي، ما يكفي الخلق إلا الخالق، دعوهم من مات فهو شهيد، ومن عاش فهو عتيق»، فعلق القاضي العيزري - حينها - ساخرًا: «إذا كان الإمام مُصدق بيوم القيامة فاقطعوا رقبتي بحذاء».
في شهادته على تلك المرحلة قال أحمد جابر عفيف: «وكانت سنوات الجدب تُحدث مجاعات كثيرة، فتأتي إلى صنعاء أعداد كبيرة من الجائعين.. وكثيرٌ منهم كانوا يموتون في الطرقات، وكانت صنعاء تشهد كل يوم أعدادًا من هؤلاء، والإمام يعرف كل ذلك ويطلع عليه.. ومع ذلك فإنه لا يفتح مخازن الحبوب الكثيرة المُمتلئة، والموجودة في كل المحافظات، ولم يحدث أنْ لانت نفسه فصرف شيئًا لهؤلاء المساكين»، وأضاف متحدثًا عن ذات الإمام: «كان فقيهًا وعالمًا، ويعرف جيدًا كيف تُصرف الزكاة، وما يجب على الحاكم إزاء شعبه، ولكنه لم يفعل ذلك نهائيًا»!
كما لجأ الطاغية يحيى إلى مُصادرة أموال اليمنيين الذين بدت عليهم علامات الثراء، وقام بضمها إلى بيت المال الذي هو في الأصل بيته؛ وذلك خوفًا من أنْ ينازعوه الحكم، وهي حقيقة أكدها هلفرتز بقوله: «ولا يستطيع أي يماني أنْ يجني ثروة كبيرة تجنب أن يُصبح مشبوهًا من الناحية السياسية في يوم ما، إذ أنَّ المال يأتي بالسلطان، ولا يريد الإمام أنْ ينازعه بالسلطان أي من رعاياه».