أبي وأعياد سبتمبر
عبدالله النهيدي يكتب حول: أبي وأعياد سبتمبر
أمست وأصبحت مواقع التواصل، سبتمبرية الهوى، سبتمبرية الطابع، سبتمبرية اللون، بل سبتمبرية الظاهر والباطن.
لا أنسى ليالي سبتمبر في الثمانينات، عندما كنا نجمع الإطارات، ونتجهز لوقت إيقاد شعلة سبتمبر رأس (المعلَّقة) أعلى جبل في القرية. كنا صغارا ولكن لم نكن وحدنا في احتفاليتنا، يشاركنا بعض الرجال، ويشجعوننا، نصعد الجبل محملين الإطارات على ظهورنا، حتى إذا وصلنا قمته أوقدناها، فاتقدت معها نفوسنا فخراً واعتزازاً، لا نوقدها مرح أطفال فقط، بل نوقدها فكرة واحتفالا بشيء أدركناه من الكبار في مجالسهم وحكاياتهم، عن نضالهم في أيام الستينات، عن مآسيهم في العهد الإمامي، وقصص الظلم والجهل والحاجة والعوز والفاقة، وكل لسان تردد مع كل حكاية "الله لا يردها من أيام".
كان أبي ينتظرنا إذا رجعنا ويسألنا عن شعلتنا، وقت رجوعنا هو وقت أخبار التاسعة فنجده يستمع بإنصات للخطاب الرئاسي، وللحفل الخطابي، ولبرقيات التهنئة، وكان يردد وكأنه الفطر أو الأضحى، غداً العيد، اليوم العيد، هذا العيد،. ألخ.
عندما نوقد شعلة سبتمبر المضيئة، (في بلادي محافظة البيضاء)، ونهدأ لنارها الدافئة، نراقب كل الجبال من حولنا، وأي من القرى والقبائل شعلتهم أكبر أو أظهر، شعلة آل فلان، وشعلة آل فلان، وشعلة آل فلان، وتلك تتقد وتلك تتوهج والليلة السبتمبرية لا تشبهها الليالي، في صباح السادس والعشرين من سبتمبر، في القرية النائية البعيدة، الرابضة في زاوية من الزوايا التي لم يعثر عليها التاريخ بعد، ولم يتعرف عليها الزمان، بكل بعدها واستحيائها إلا أن سبتمبر لا يخطئها،
فأذكر أن والدي يحضر بطارية السيارة من أجل مشاهدة العرض العسكري، الذي كان يقام سنوياً احتفالاً بيوم اليمن الخالد، صوت أحمد الذهباني وأنور العنسي وعلي صلاح وعقبات وغيرهم في سجعياتهم غير المتكلفة، وديباجاتهم السبتمبرية الهادرة، وهم يعددون المآثر السبتمبرية المشرقة، ويندبون الأيام الإمامية المظلمة.
وفي أثناء مشاهدة العرض يذكرنا أبي بقصة الرهينة فلان، والسجين فلان، وما حصل لفلان، وكيف تغير الحال، كيف كان التعليم وكيف صار، وكيف كان التطبيب وكيف هو الآن، أيام السفر على الأقدام والحمير، أيام الحملات والنفير، أيام السخرة والتسخير، وإذا التفت إلينا قال الحمد لله الآن أولادنا يتعلمون وسيكونون في المستقبل من أبناء سبتمبر.
كان مبتهجاً به حد الانتشاء إذا ذكر سبتمبر والسبتمبريون، وأذكر يوما أن شخصاً لا نعرفه قابلناه في المستشفى في المدينة، فسأله الدكتور عن عمره، فقال عمري خمسة وعشرون عاماً، وكان وقتها العيد الفضي في سبتمبر 1987 م فصاح أبي أنت سبتمبري، أنت من مواليد الثورة.
كان سبتمبر بالنسبة لهم حياة بعد موت، ونور بعد ظلام، وغنى بعد فقر، وأهم من كل هذا كان سبتمبر لهم حرية بعد عبودية.
لا يدرك سبتمبر إلا اثنان، من عاش زمن الإمامة ورأى ما قبل وما بعد، ومن عاش زمن الميليشيات فرأى ما بعد وما قبل، وكلاهما يقول: والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء.
- الصورة لوالد الكاتب وكان أحد جنود سبتمبر