المثقف الوطني والدور المنشود - عصف ذهني
عادل الأحمدي يكتب عن: المثقف الوطني والدور المنشود - عصف ذهني
المثقف الذي نعنيه ليس الذي قرأ بعض الكتب التي حصل عليها من ملحقيات السفارات ولا مثقفي الكازينوهات أو مثقفي العدوى أصدقاء نشطاء وناشطات المنظمات الدولية. المثقف الحقيقي ليس من قال له أكاديمي كهنوتي محنط ذات يوم "أنت مثقف"، أو من كتب سطرين وصدق نفسه.
المثقف الحقيقي هو من يعرف تاريخ اليمن ويعرف من هو أسعد الكامل ومن هو أبو محمد الحسن الهمداني ومن هو نشوان الحميري ويعرف البردوني والمقالح والزبيري والسلال ويعرف قيمة محمد اسماعيل العمراني ويعرف قيمة جار الله عمر وزيد مطيع دماج وماركس وعبدالناصر والرافعي وحسن الدعيس وباذيب والشنواح والشحاري وبعكر...
المثقف هو صاحب الفكرة والفكرة هي الدافع، والمثقف عندما تهاون مع السياسي، تهاون السياسي في ثوابت البلد، لأنه منح للأخير مبرراً نفسياً ووطنياً، كذلك المثقف هو الذي لا يتزحزح عن أرضية المبادئ، أياً كانت رياح السياسة.
ومن سمات المثقف المتمكن أنه لا تغريه الأموال، ولا يهمه أن يمتلك الأصول المادية، بقدر أن كل همه هو أن الثقافة الصحيحة هي المنتشرة، ولا تنطلي الشائعات ولا ينجر إلى الخلافات والمعارك الجانبية.
(انا لا اوزع هنا صكوك وأنزعها من آخرين، هذي معايير لا يُختلف عليها في عرف مثقفي اليمن وليس في توصيفات الكتب المترجمة أو مثقفي الطفرة).
المثقف السبتمبري الاصيل هو الذي يعرف البعد العربي الحقيقي للإنسان اليمني والعكس.
يذهب إلى المستقبل ثم يعود ليحذّر قومه، ويذهب إلى الماضي ثم يعود ليبصّر أبناء جيله.
إنه جوّاب العصور، وصياد البروق، بتعبير عبدالله البردوني، هو الذي عمره منذ آدم إلى اليوم، لأنه يعرف التاريخ، وهو الذي امتداده إلى اليابان وحتى كالفورنيا، لأنه يفكر ببلده في سياق عالم وخارطة.
لا ينحاز لحزبه وإن كان ذا جدور حزبية، ناصرية أو إسلامية أو بعثية أو يسارية.
هو الوحيد هو الذي يعلق في حلق الكهنوت. لا يستطيع الكهنوت أن يستهدفه لادراكه أن العالم سوف يتضامن معه. فلا مآخذ ضده من أي نوع.
أعتقد أن الشرارة القادمة سيقودها المثقفون لا رجال الدين ولا الساسة ولا أحد. المثقفون هنا واردون بالمعنى الشامل: كتابا مهندسين مدرسين خطباء.. وليس فقط ممتهني الكتابة والادب والدراسات.
إنهم منكوشو الشَعر الذين يحترقون ليستضيء غيرهم. وإن ما نعيشه اليوم هو الضريبة التي ندفعها جراء تغييب المثقف الحق. حصل نوع من التغييب المتعمد لكل رموز الثقافة الحقة، وأدى ذلك إلى رد فعل تقبلي سلبي من قبل هؤلاء المثقفين الذين كان عليهم ألا يرضخوا لمثل ذلك التغييب.
لم يعد المثقف وحده اليوم من يعاني.. كان المثقف أكثر فئات الشعب فقراً، لكن الشعب أصبح اليوم كله فقيرا. وليس أمام المثقف إلا أن يكون قائداً ورائداً لهذه المرحلة.
ومن واجبه أن ينتقد بشكل واضح الأشياء الخاطئة. عليه أن يحذر بأعلى صوته، ويقف بكل درجات الحكمة والشجاعة ضد كل المحاولات التي تؤدي إلى تزييف هوية المجتمع ومحاولة تزوير التاريخ.
إن المنشود منه اليوم، أن ينحاز لكل كلمة وطنية صادقة تقال، عليه أن يكتب القصيدة ويرسم اللوحة وعليه أن يفكر وأن ينظر وأن يؤلف وعليه أن يكتب.
عليه اليوم أن يكون داعية أمل لهذا الشعب المقيد باليأس والإحباط نتيجة ما حل به.
على المثقف السبتمبري أن يشجع الناس، لأن الناس خائفون، وعليه أن يهوّن من الصورة المرعبة التي رُسمت للعدو، لأن العدو في حقيقة الأمر جبان ولص أكثر من كونه بطاشا جبارا.
مطلوب من المثقف اليوم أن يتدخل بين الأحزاب، وأن يعلو عليها جميعاً ويستنكر هذا السعار التعصبي الذي يؤخرنا.
عليه أولاً وقبل كل ذلك، إدارك قيمة نفسه، وإذا أدرك قيمة نفسه عرف أنه لا يمكن أن يحتويه حزب أو يسكته ظالم أو يكون في إبط شيخ أو جنرال أو سفارة أو منظمة أو رجل أعمال.
عليه أن يكون قدوة ومثالا، وأن ينصف الوطنيين أمثاله، أن يتحدث عنهم ويتناقل مقولاتهم وأن يكون رمزاً للتواضع والإيثار والحب.
على المثقف الوطني الحق، أن يزيل الحواجز التي صنعتها العقود السابقة بيننا وبين عثمان أبوماهر وبيننا وبين علي صبرة وبيننا وبين محمد عبدالقادر بامطرف، بيننا وبين محمد صالح العنتري وإدريس حنبلة وغيرهم.
عليه أن يطيل التأمل، ويخرج للناس حصيلة تأمله..
الناس تائهون، وليسوا متفرغين، بل هو المتفرغ.
الناس ضائعون وليس ثمة من يتأمل.
خائفون وليس ثمة من يشجع.
وحيدون وليس ثمة من يؤنس.
المثقف الحق، هو الذي يعيد للمرأة اعتبارها، ويعيد للفتاة اليمنية ثقتها بأقدريتها على الوصول إلى كل منصة تقدير.
معوّل عليه أن يغوص في بطون الكتب ويستخرج منها الكنوز اللازمة لهذه المرحلة، لتكون شارات يُسترشد بها للوصول إلى الطريق السليم.
إنه الناقد الموثوق الذي لا يتأثر بدعاية الشاشات المؤثرة العملاقة أو القنوات الممولة، هو الذي لديه أذن ناقذة يفحص فيها الغث من السمين ويميز التدليس من التأسيس.
وهو الذي يستطيع بقوة الحب أن
عادل الأحمدي, [30.09.20 22:42]
يصنع المفاجأت.
لديهثقة بأنه قادر، وأن الكلمة لها مفعولها الحتمي. ففي البدء كانت الكلمة.
لديه ثقة بقدرته على التأثير، حتى لو كان لوحده والناس كلهم على رأي آخر غير صائب، واثق أنه بقوة الحب يستطيع أن يوصل الناس إلى وضح الحقيقة.
المثقف الأصيل هو الذي يتأمل دورات الزمن ويعرف في أي دورة يقع الحاضر وما النقلة للازمة لتسريع دورة الزمن. وبالتالي يعرف أنه لن يستمر الضلال ولن يستمر الطغيان، فيضع كل حقبة موضعها الطبيعي وبالتالي لا يجزع إن جزع الناس ولا ييأس إن يئس الناس.
حساس: يحترق قلبه على الجوعى، الأمهات، الاطفال، الآباء المقهورين والمعدمين، والكفاءات المخذولة، والجاهزيات المتروكة، والارواح المعذبة. لأنه أكثر شعوراً بالآخرين وأكثر قرباً من الناس، وبالتالي فهو لا يستطيع النوم كغيره من الناس، ثمة ما يقض مضجعه، فيقوم ببذل كل ما يستطيع لكي يخرج هؤلاء من محنتهم التي يعانونها.
المثقف الحق هو الذي ينحاز إلى القيم إذا انحاز الناس للمال، وهو الذي يهذب جزع المحرومين ويوزن غلواء الواعظين ويفرمل جشع الساسة. معه تسكن الفرائض ويعاود القلب قدرته على الابتهاج.
لذلك فإن المثقفين الحقيقيين هم الأسماء الذين تخلدهم بلدانهم.. كم تعرف الشعوب خطباء ودعاة ملأوا الدنيا ضجيجا ومات صيتهم حين ماتوا، والعكس. ولكن لا يعلق في وجدان الشعوب إلا الإنسان الملتحم مع أشواقها وأحزانها وأحلامها.
هو الذي يعرف أن الوطنية ليست شعارات، والدين ليس مظاهر، والقراءة ليست نظارة وتغريدات متعالية تنهر الناس وتتهمهم بسوء الفهم.
أيها المثقف الحق لقد خذلك الجميع، لكن الجميع الآن يحتاج لك.
المثقف هو الذي يأسره الإبداع ويعترف بالجمال من أي نبع أتى. يعرف مكامن قوة الخصم ولا يستخدم التكتيكات الفائضة، أو تأخذه الثارات الشخصية.
البلاد مليئة بمثقفين لم يكتبوا طيلة حياتهم، مقالة، وإنما كانوا سبباً في صناعة كتابٍ كثيرين. وممتلئة بمثقفين لم يؤلفوا كتاباً لكنهم كانوا سبباً في ظهور كتبٍ ومؤلفين.
لا يمكن تخيل أن ثمة مثقفا في الإنسانية جمعاء وليس فقط على مستوى اليمن أو العروبة والإسلام، يمكن أن يقرّ بأن هناك إنساناً عرقه أفضل من إنسان، وإن هناك أناساً من طين وإناساً من در مكنون. لذا كان ابن الأمير الصنعاني مثقفا حقا.
هناك مثقفون حقيقيون، وهناك ظواهر، وهناك أدعياء. للأسف الأدعياء يملأون خواءهم بكثرة الحضور، بينما المثقف الحقيقي ممتلئ ولهذا يكون زاهداً في الحضور. وهذا أحد المآزق التي ينبغي على مثقف اللحظة اليمنية الحرجة، أن يخرج منها.
المثقف الوطني متواتر: من خلال ملاحظتي، وجدت أن المثقفين عبارة عن سلالة ممتدة، ليست نسباً طينيا أو جينيا، بل فكري، إذ تجد: مرة ينشأ مثقف في وصاب ومرة أخرى في تعز أو حضرموت أو الحديدة أو لحج. وكأنهم تربوا على يد نفس الأب ونفس الأم ودخلوا نفس المدرسة وقرأوا نفس الكتب وأحبوا نفس الفتيات والمناظر.
المثقف الحق، ذكراً أو أنثى، هو الذي لا يهمه بكل رئيسي أن تتحرر صنعاء غداً أو بعد، ولكن الأهم لديه أن تكون هذه هي آخر نثرة شيطانية للإمامة. أو بالأصح، هو الذي مثلما أنه يهتم باختصار المسافة إلى يوم الخلاص، فإنه أيضاً مهتم بأن تكون هذه آخر نثرة للكهنوت.
هو الذي يستشعر المسؤولية ليس تجاه الواقع الذي يعيشه أو تجاه الوطن الذي يحبه، بل تجاه الأجيال القادمة التي سوف لن تغمطه حقه.
هو شرارة كل تحول عظيم، وملهم كل نهضة فارقة.. بدأت الثورة الفرنسية بكتابات مثقفين وكان لها دور في تغيير العالم، كما بدأ عصر النهضة بكتابات مثقفين.
التاجر يتأثر بالمثقف، ومنه يستقي قناعاته، والعسكري يتأثر بالمثقف ومنه يستمد قضيته. المثقف هو المفكر الذي يغوص ثم يلملم ثم يبلور قناعات الجميع، لأن ذلك وظيفته وصنعته، بينما الآخرون معنيون بأشياء أخرى.
نحن نعاني من أزمة قائد، أزمة قيادة، ذلك أن المثقفين في الفترة الأخيرة تكاسلوا عن مهمتهم الرئيسية المتمثلة في صنع القادة.
قام المثقف أحمد الحورش بنسخ 17 من كتاب طبائع الاستبداد ووزعها سراً في صنعاء بعد أن اطلع عليها في بغداد. كانت 17 نسخة يكتبها بخط يده، هذا ما ذكره الدكتور عبدالعزيز المقالح في كتابه أحمد الحورش.
ولولا ما تركه لنا المثقفون اليمنيون من الهمداني إلى اليوم، من إشارات وأمارات، لما استطاع الجيل العثور مجددا على هويته، لأن المناهج لم تقل لنا أي شيء، المدارس والجامعات والإعلام، لم تفصح كلها عن معضلتنا الأساسية، إلا عندما عدنا لما تبقى مما تركه لنا الأحرار المثقفون الأوائل، ولهذا نجد أن خوف الغازي الإمامي من ذكر رمز معرفي يمني لا يدانيه خوف، ولهذا أخفوا أجزاء من كتاب الإكليل وغيرها من المؤلفات. وطيلة عقود سابقة قاموا بتشويه المثقفين والتأليب ضدهم وإفقارهم ومحاولة تكريه أبنائهم وأحفادهم بهم.
ناقد نبيه: لا تلتبس عليه المصطلحات ولا يخلط بين الثوابت وبين المتغيرات، ولا يداخل بين السياسة والسيادة.
يفرق جيداً بين الإنسانية والتعاطف وبين السذاجة والغباء.
يعسوب: المثقف الحقيقي ليس الشخص المحصّن فقط، بل الذي يمنح الحصانة للاخرين، ليس الشخص الفاهم فقط، ولكن من يفّهم الآخرين. يلقِّح باستمرار ويقيس ثمار جهده بدقة.
إنه يعسوب العقول يلقحها بالضوء، وهو إكسير الأرواح يمدها بالجسارة، وهو الطبيب الحنون لكل جسد سقيم.
يلتقط ويربط ويحلل ويستنتج، فالناس كما أسلفنا، مشغولون وهذي مهمته.
راسخ: لا يُستلب، ولا تبهره أضواء النيون، يظل يؤمن بشعبه حتى وهو حُطام، ويؤمن بأمته حتى وهي في أضعف حالات الهوان.
عالمي الروح، وشعبي المزاح، يطرب لموسيقى موزات، ولشبّابة الراعية في وادي حريب أو سفح صعفان، بنفس الدرجة من الترنم.
لا تنسحق شخصيته أمام مقولة مستوردة لكاتب ذي هالة. لانه قرأ أقوى منها وفي نفس الموضوع للهمداني، أو الجاحظ، أو ابن حزم،..
مع ذلك، مثلما يحب شعبه ويعتز بحضارته، يحب الآخرين.. يحمل ودا صادقا لبقية الشعوب.. ويحترم كل أداء انساني نبيل يهدف إلى خدمة البشر وتخفيف الآلام وصنع المسرات.
ولا يعني ذلك أنه عائم الانتماء أو غائم الولاء، بل لديه تناسق مبرَّر بين الانتماء للوطن، وللبشرية، كيفية لا تكيف، حسب تعبير البردوني.
يعرف جيدا كيف تراكمت الظواهر، وكيف تخلقت المشاكل، ومن أين يبدأ الحل.
يحلل كل شيء إلى عناصره الاولية.. يكترث بالعواقب، ولا يستصغر المقدمات، ثم يأتي تماما في الوقت المناسب، كفارس هبط من أسطورة الحلم.
يتلمس الضوء الكامن في كل نفس، لديه عيون زرقاء اليمامة، يرى قبل غيره زفة الليل وقطعان الذئاب، تماما مثلما يلمح قبل غيره، الضوء الكامن في آخر النفق.
وحين ترى الناس ذاهلين بشيء مهم، تراه منتبهاً دوماً لما هو أهم.
رؤوف بشعبه لا يجلده، ولا يتبرأ منه. يصنع المعروف وينقذ شعبا ثم يواصل مسيرة العناء اليومي بحثا عن الخبز والدواء وملابس الأبناء، وقيمة القات.
لا ينتظر جائزة من منظمة خارجية، ولا وساما من رئيس، ولا راتبا من وزير. التكريم الحقيقي بنظره هو انه نجح في مهمته، لقد زحزح جاثوم الظلام فاستعادت عيون الغطفال بريقها، واستعاد جاره بسمته، وابنته جاءت تناقشه حول أمر ما بانطلاق وشغف. مجسداً قول الزبيري وهو يخاطب البلبل:
وفنُّكَ للطبع لم تكترث
أضاعوا فنونكَ أم سجلوا
ولم تتصنّع أمام الجموع
إذا صفقوا لك أو هللوا
(ملخص ورقة عمل في ندوة الملتقى الثقافي اليمني بماليزيا - 1 سبتمبر 2020)