آراء

العسكرية في اليمن بين العصبية والسياسة

د. محمد شداد يكتب: العسكرية في اليمن بين العصبية والسياسة 


درج الكثيرون من خارج المؤسسات العسكرية على النداء بعزل الجيوش عن ممارسة السياسة أو التعاطي معها والخوض في غمارها. تأتى ذلك إما عن وحشةٍ وتوجسٍ من السطوة والقوة التي يمتلكها "العسكري السياسي" أو لتجارب سابقة وصدام قاسٍ بين الجيوش والمؤسسات المدنية والتي كانت نتائجها على عكس ما توخته الجماهير – نتائج الثورات العربية انموذجاً.
وحقيقةً فإن نداءات كتلك ليس سوى مطالب طوباوية، إذ لا يمكن عزل المؤسسة العسكرية والأمنية عن الاشتغال في السياسة والتعاطي معها بشكلٍ أو بآخر، لأنهم في النهاية جزء من المجتمع يهمهم فهم ومعرفة كل ما يتعلق بأمن البلد وسيادته التي هم مسؤولون عنها بالدرجة الأولى. وقد أكدت الأحداث على استحالة حجب العسكر من المشاركة في الحياة السياسية خصوصاً في دول العالم الثالث.
والنماذج العسكرية الناجحة كثيرة في إدارة الدولة والسياسة وحتى التشجيع على ممارسة الديموقراطية والتبادل السلمي للسلطة. وللقارئ أن يعود للتاريخ، وحتماً سيجد ان بعض القيادات العربية والأجنبية كانت ناجحة جداً واقرب مثال يمكن الإستدلال به هو ان معظم من قاد الدولة الإسرائيلية حتى وقفت على أقدامها واقتحمت كل العلوم ومارست الديموقراطية بشكل مقبول هم من العسكريين الذين خاضوا حروب عنيفة وانتصروا فيها مع مخالفتنا لكل أراءهم السياسية والدينية والمعتقدات التي يحملونها ويؤمنون بها.
أولم يكن معظم من تولى الحكم في اليمن شمالاً وجنوباً قادةً خرجوا من رحم المؤسسة العسكرية، مع تفاوت ادائهم بين الوطني الناجح والشرير المتخلف؟! خذ مثلاً أرقى من تولى الحكم في اليمن من المدنيين والعسكريين الرئيس الحمدي شمالاً وسالم ربيع علي جنوباً، أولم يكونوا عسكريين ومحاربين حملوا السلاح ضد الإمامة والاستعمار؟ أولم يكونوا أقرب الناس إلى الفقراء والمساكين والأكثر وطنية وشعوراً بحاجة الموطن وآلامه واحتياجاته وطموحاته في تاريخ اليمن المعاصر، بعكس المدنيين الذين كان ضعف الشخصية والأداء سماتهم البارزة في تاريخ حياتهم وفترات حكمهم؟
يعزو الكثيرون قوة الطباع وقلة الوعي والفهم والثقافة والقسوة والعنف إلى العسكريين، وهذا وارد وصحيح ولكن ليست الظاهرة نهائية وعلى اطلاقها دون ظواهر ومخرجات ونماذج إيجابية مغايرة لتلك النظرة. لنأخذ الحالة اليمنية نموذجاً ألم يقاتل العسكريون في كل الجبهات في كل الحروب اليمنية البينية على مدى عقود؟
ألم يكن العسكري وليد مجتمعه الذي رباه إما على القسوة أو الجهل وكان وليده ومخرج ثقافته ومعتقده؟ ألم يكن هناك نماذج لعسكريين عكسوا رقي المجتمع والأسرة والبيت الذي نشأوا فيه واستقوا منه مفاهيم حياتهم الأولية؟ ألم يكن للقبيلة والعصبة ومفهوم الغلبة والقوة الدور الأكبر في نتشئة الفرد مدنياً كان أم عسكرياً على القسوة والعنف والاستهانة بالدولة ومحاربة القانون و سلب حقوق الآخرين؟ ألم يعتبروا ذلك من مقومات الرجولة والشجاعة واكتمال الصفات الشخصية؟
نعم، للحالة اليمنية خصوصيتها وفرادتها بين باقي الشعوب، فاليمني بطبيعته مدني، وعندما يجد الدولة المدنية والحاضنة المرضعة لأسباب العز والنزاهة والكرامة والشرف يكون ونزيهاً شهماً غيوراً عفيفاً. وعندما يجد النموذج السياسي والعلمي والمجتمعي ماثلاً أمامه يربيه على تلك القيم ويرشده إلى مسالك الصواب، يتبنى تلك القيم والمعاني. كما يكون مقاتلاً شجاعاً للدفاع عن حياض الأمة والوطن ومكتسباته عندما تكون قيادته تحمل نفس الخصائص والطباع.
إذن ما الذي جرى؟ ومن غرس مفهوم أن العسكري شرير رباه الشيطان ومسخ طباعه وجعله شراً محضاً وأداةً للعنف؟ فيما هو ضحية لأن العسكري آخر من يأكل وأول من يموت. وفي كل الشدائد والعواصف والمحن، هو من يتقدم والنواعم عازفين ألم تكن السياسة الرسمية للدولة أو الثقافة المجتمعية الهزيلة وأهواء السلطة وخطاباتها اللاوطنية المضللة هي السبب؟ ألم تغرس السلطة ذاتها في ذلك العسكري المسكين عوامل الطائفية والتمايز والمناطقية والمذهبية قبل الثورة وبعدها وأحلت ذلك محل حب الوطن ومفهوم أن الجيش في خدمة الشعب وحامي حدوده وجمهوريته ومكتسباته، وليس في خدمة السلالة أو المذهب أو الشخص أو القبيلة؟ لماذا اعتمد الشهيد إبراهيم الحمدي في إعادة بناء الجيش وتوحيده على قيادات عسكرية من كل مناطق اليمن وأقصى كل القيادات التي كانت توالي القبيلة والسلالة ولا تؤمن بمبادئ العدل والمساواة بين كل أبناء اليمن؟ ألم يكن محقاً في ما فعل؟ عارضته فقط بعض القوى الدينية والقبلية المتخلفة لأنه استلب منها مصالحها لصالح الوطن.
كان ولا يزال ترقيم الشخص ومنحه الرتب والنياشين والدفع به مباشر إلى الكليات العسكري كي ينال منها الشهائد الكرتونية دون علم وفهم، ومن ثم توليته المناصب التي لا يفهم القصد من تعيينه فيها سوى المغانم وإفراغ المنصب من كل محتواه الجمهوري الأخلاقي والوطني واعتباره مصدراً للنهب ولا يتعدى ذلك إلى شيءٍ سواه، ألم يكن ذلك هو سبب الجهالة والعمى.
يقول شاهد عيان ولا زال حياً يرزق أنه ذهب وثلة من شباب محافظة غير مرغوب فيها مناطقياً للالتحاق بالكلية الحربية بعد أحداث أغسطس 1968م المشؤومة وتصفية الضباط الأحرار على أسس طائفية وحزبية ومذهبية. فتم رفضهم وعوملوا بكل قسوة، فذهبوا بعدها للتظلم أمام الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني فأجابهم بصريح العبارة: "لا أستطيع أن افعل لكم شيئاً بمقدوري فقط ارسالكم إلى الخدمة المدنية واستيعابكم هناك"!
إن جراحات اليمن في ذلك الشأن عميقة وواسعة، وما إن تتماثل للشفاء وتبدأ بالالتئام حتى تفتح وتعود إلى حالتها القديمة من جديد ويعود التطبيق الأحمق لمبدأ التمييز والنداء بعزل الجيش عن السياسة – دون علم ودراية كافية – بإدعاء زائف أنهم سبب الكوارث. ألم تك جيوش العالم هي الحامية للدولة المدنية وللمبادئ الديموقراطية والتبادل السلمي للسلطة؟ الحكم على عموم الحالة من خلال بعض النماذج العسكرية السيئة التي تولت السلطة على غفلةٍ من زمن كارثة كبير وتخزين ذلك في الذاكرة والبناء عليه مصيبه، وينبغي ان تُصوّب.

عناوين قد تهمك:

زر الذهاب إلى الأعلى