[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

سحلول شاعر الثورة - مقدمة الأعمال الكاملة (2-2)

خالد الرويشان يكتب: سحلول شاعر الثورة - مقدمة الأعمال الكاملة (2-2)


يبدو لي الشاعر سحلول في كثيرٍ من قصائده رساماً كاريكاتورياً نادراً! وفي قصائد أخرى تتجلى موهبة الحوار والرواية لديه أسلوباً بديعاً مؤثراً وخلاّقاً.
في القصيدة التالية تبدو مواهب شاعرنا الفريد – وفي إطار مشروع الوعي الذي مشى فيه – نموذجاً فذّاً في القصيدة الاجتماعية السياسية الثورية.
هنا تتجلى روح الشاعر الجامحة نحو التغيير، الجانحة صوب كل الجوانب والزوايا بإلقاء الضوء وقراءة النوايا. إنّ الأبيات التالية من هذه القصيدة خلاصة شاعر ومشروع تنوير وبأسلوبٍ قريبٍ للنفس يدخل إلى القلب والضمير مُحاوراً، ساخراً، عاتباً، ناصحاً، مُحذِّراً، ولا أكاد أجدُ لها نظيراً في شعرنا العامي في اليمن، بساطةً وجمالاً، وأهدافاً:
لابد يا مخدوع أن أنصحك
عساك أن تعقل لعلّك
فإن أفضل حل هي وحدتك
مع جميع أبناء شعبك
في ظل حكمٍ شورويٍ مشترك
جمهورية مِلْكي وملكك
أعداءنا متربصين بي وبك
وقصدهم قتلي وقتلك
فاترك ذهبهم قبل أن يِذْهبك
وقبل أن تفنى وتهلك
نبقى سمك يا ذاك ياكل سمك
وخلفنا الصيّاد يضحك
يا مرتزق لا بارك الله لك
ولا أطال الله عمرك
تفتح بلادك للغزاة اعدمك
وخيّب آمالك وسعيك
مش هو وريثه من قفا جدّتك
أو ملك لك .... فصلك
* * *
الشعب ساهم في البناء واشترك
وانت جالس لك تصعلك
تتحمل القرعه على قصمتك
والبندقيّة فوق جنبك
واربع قفوع أو خمس في حوزتك
في قرعتك أو في مسبّك
تقتل وتنهب في الطريق اخوتك
وتعتدي أبناء جنسك
وتقعد اشهر لا الحياة تعرفك
ولا أنت تعرفها نعيتك!
* * *
يا مرتزق إعمل لمستقبلك
مستقبل أبناءك وأهلك
يا مرتزق حُمّا على لحيتك
أخزيتنا اخزى الله دقنك!
ما يعجبك شيئاً سوى بندقك
ولا سوى الطيار حقك
تريد تحني للطغاة جبهتك
ما أسخفك ما قلّ عقلك
إن كان حِبّاب الركب مطلبك
حبّب ركب واقدام أمّك!
لا بارك الله للذي علمّك
حِبّاب رُكَب مَن لا يحبّك
مش هو نبي مرسل ولا هو مَلَكْ
بل هو بشر مثلي ومثلك
تقول يا مولاي مملوك لك
أيضاً وخادم ترب نعْلك
وكنت ماصطّاك وما قدّرك
ترفع جبينك أو تحرّك
تصيح لو ما تنتفخ كليتك
مش ممكن انه يستجيب لك
وكنت ما تملك سوى شملتك
أو جَرْم له من عصر جدّك
قد هو دِفاك والفرش في مرقدك
تعطّفه تحتك وفوقك
وسمسرة ورده قديه فندقك
دهليز يشبه لحد قبرك
والمستبدّين يذبحوا نعجتك
وياكلوا بِرّك وسمنك
فقامت الثورة لكي تِطْلقَك
من سجنك المظلم وقيدك
لا حول ما أشقاك وما أشقبك
يا للأسف من سوء حظك
تشتي يعود مولاك يستعبدك
حتى تشلّه فوق ظهرك
الله لا عادك ولا مهّلك
ما دام هذا القصد قصدك
يا بن اليمن بالله نستحلفك
إعرف صديقك من عدوك
كي لا تكرر يا أخي نكبتك
ولا تعود مأساة أرضك
* * *
إن مائدة هذا الشاعر الكبير عامرةٌ بما لذّ وطاب من فاكهة الشعر وغذاء الشعور، ولن تفي هذه النصوص المختارة في هذه الإشارات السريعة حقاً من فهم أو تأمل لتجربةٍ ثريّة وضخمة ومتنوعة لشاعرٍ لم يُدرس رغم شهرته الكبيرة التي نالها وسط هدير المدافع وصخب المواقف وأزيز الرصاص، وأدغال الكلام!
سبعون يوماً لقّنت أعداءنا درساً جديد
لا تحزني يا جنة الدنيا ويا دنيا الخلود
أبشّرش يا أرضنا بالنصر والفوز الأكيد
فها هو الشعب من حضرموت حتى زبيد
شعارنا الجمهورية والنصر أو الموت المبيد
إن الحياة ما لم تكن حرّة فإن الموت عيد
نقسم بخالقنا وعزة من سقط منا شهيد
لن ننحرف يوماً ولا عن مبدأ الثورة نحيد
يخاطب الشاعر بلاده.. لا تحزني يا جنة الدنيا، ويحيّي الشعب الواحد في حصار السبعين يوماً من حضرموت حتى زبيد ويعلن شعار الجمهورية أو الموت!
وتنتصر الجمهورية، ويندحر الحصار، ويدخل الشاعر مع أحدهم في حوارٍ أغضبَهُ، وأحنقَه، فإذا به يستشيط شعراً هو إلى حِمم النار أقرب!
تأكد أيها الطاغي تأكد
بأنكْ لست تضعف لي عقيده
عليّا عار عوّر جدّي أحمد
إذا أصبحت أفعل ما تريده
ولن يرهبني السجن المؤبد
سأتحداه واتحدّى قيوده
قصفتوا كل مستشفى ومعبد
ودمّرتوا مصالحنا المفيده
وخلّيتوا نقيل يسلح مبنّد
وقاسم في الطويل يحشد حشوده
وناجي ينسف الدرب المعبّد
ويقطع بين صنعا والحديده
. . . .
فإن المجد والفوز المؤكد
لنا والإنتصارات الأكيده
* * *
كان الشاعر في هذه المرحلة يعيش مأساة نكسة 5 يونيو 1967، وقد نتج عنها انسحاب الجيش المصري من اليمن، وكذلك الحصار الذي ضُرب حول صنعاء لمدة سبعين يوماً، من قِبل أعداء الثورة والجمهورية، ورغم فرحة إعلان استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الخامس من نوفمبر 1967؛ إلا أن الشاعر أوجس خيفةً من تطرّفٍ إستشعره مبكِّراً:
الثوريه هي عمل مثمر وإخلاص نيّه
ليست صراع أو خصام
لسنا بحاجة إلى الثورية الفوضويه
هذا هو آخر كلام
وكان قبل ذلك قد ودّع الاستعمار بقصيدةٍ ساخرة، أشار فيها إلى محاولات الدّس بين الإخوة وهي المحاولات التي كان الاستعمار البريطاني محترفاً في فنونها:
فاترك الدّس ياستعمار واخجل قليل
وارحل إلى غير رجعه حان وقت الرحيل
ما أنت بالمالك الشرعي ولا بالأصيل
ولا على هذه الدنيا وصي أو وكيل
قتلت كم من بطل ثائر وكم من نبيل
لكنك اليوم قد أصبحت أنت القتيل
هيا انصرف أيها الضيف اللئيم الثقيل!
* * *
وفي سياقٍ آخر قريب، كانت قضية فلسطين ملء روح الشاعر الثائر المتمرد، هو يتأمل حال الأمة المنكوبة، وتكالب أعدائها عليها في مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة:
يقول ابن سحلول بات طرفي مسهّدا
ولي قلب يقطر دم من باطل اليهود
فلسطين يا طعنة بقلبي لها صدى
ويا جرح دامي مزّق القلب والكبود
فما فادنا في مجلس الأمن مقعدا
ولا نفعت الدعوى ولا نجحت الوفود
فيا مجلس الأمن الموقّر تأكدا
بأن السلام والأمن في الأرض لن يسود
ولن تهدأ الثورة ولا النار تخمدا
لحتّى نرى أرض العرب للعرب تعود
* * *
وفي نصّ آخر، يطلب الشاعر بحزن أن تعذر فلسطينُ شعوبنا العربية! فالعيب كائنٌ في الحكومات العربية المتعاقبة المتقاعسة، وكأن الشاعر ومنذ ستينات القرن العشرين يرى بعين اليوم، ويتأمل بأحزان الشاعر العربي الذي لم يهدأ لحظةً واحدة، أو يشعر بهوانٍ أو تكاسل،.. ومرةً أخرى، يشير الشاعر إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة في نبوءةٍ لمستقبلِ علاقةٍ سلبية بهذا المجلس الذي لا يرى ولا يسمع، بل يُعطّل القرارات:
يا فلسطين أرض الجهاد اعذرينا
لا تلومي شعوبنا العربية
العيوب ليس في الشعوب ولكن
العيوب في دولهم المركزية
كارثة غاب مجلس الأمن عنها
والأمم والمحاكم الدولية
أيّ مجلس هذا وأيّ زمانٍ
أيّ إنسان وأي إنسانية؟
أيّ عربان تفرقوا وتخلّوا
عن فلسطين يا للأسف والأسيّة!
من المؤكد أن شاعراً مُرهف الحسّ، ذكيّ الفؤاد مثل شاعرنا الكبير لابد أنه شعر في لحظات وأوقات كثيرة بعَدَميّة المواقف، وأنه لا جدوى من السّير في طريق لا تبدو لها نهاية، وتحت قصفٍ راعد بلا غيمةٍ أو قطرة مطر.
نعم، ربما شعر الشاعر – وهو شديد الإحساس بما يراه ويسمعه ويعيشه – بلحظةِ إحباطٍ محزنة، لكنها وكما يبدو في سياق تأملات الشاعر، وحياته، لم تكن سوى تنهيدة ستصبح زفرةً بعد أيام أو أشهر! وسوف تغدو الزفرة صيحةً مجلجلة.. هكذا كان الشاعر الثائر منذ بداياته، وهكذا هو الآن..
قال ابن سحلول يا قلبي لما تغتم
تمسي حزيناً وتصبح دائماً مغموم
إيّاك أن تحترق يا قلبي الملهم
ما أنت إلا كمشعل يجهلوه القوم
كم قد نظمنا قصائدنا وكم يا كم
ولا فهم منطقي حاكم ولا محكوم
فاخرس إذاً ياللسان محجور تتكلم
ماذا يفيد الكلام إن لم يكن مفهوم
* * *
في مطلع السبعينات من القرن العشرين كانت اليمن بشطريها ساحةً لصراعٍ مريرٍ بين أبنائها، وكانت الحرب الباردة حاميةً في هذا الجزء من العالم، وخاصةً أن مجموعةً حالمةً في الشطر الجنوبي من الوطن بدأت في إجراءاتها الداخلية والخارجية صوب ذلك الحلم الذي كان بعيداً عن الواقع الاجتماعي، وكان ظنُّ هذه الفئة السياسية أنها ستختصر أزماناً في زمن قصير، وصولاً إلى التغيير السريع والآمال المعقودة، وكان العنف والتعجّل، وسيلتَيَ تلك الفترة المبكرة من سبعينيات القرن الماضي. وكان الشاعر يرقُب تلك التجربة بإشفاق، ويتأمل أحوال الشطر الشمالي في نفس الوقت غير راضٍ عن هذه الأحوال البائسة اليائسة:
فِقسْمْ منّا إلى ركب الشعوب ينضم
وهو بربّه وبالحبل القوي معصوم
يريد يبني ويتطور ويتقدم
خطوة فخطوة بتفكير مُتَّزِن محكوم
وقسم ثاني يريد أن يسابق العالم
يرى القَدَرْ طوع أمره بالخضوع ملزوم
يريد يقفز إلى المريخ في سلّم
وكيف ومن أين هذا السلّم المعدوم
وقسم ثالث عليه الجهل يتحكم
لا زال يرفس رفيس الماضيَ المشؤوم
لا زال يخبز عجينة جدّته مريم
بنفس أسلوب جدّة جدّه المرحوم
وفي هذا المعترك، واصل الشاعر ثورته الاجتماعية التنويرية، باتجاه قضايا المرأة، والتعليم، والزراعة، وكأنه أعلن في قرارة نفسه، أن هذا هو الطريق الحقيقي للتغيير القابل للبقاء والنماء. كأن الشاعر معنيٌّ عن كل نبضةِ ضوءٍ في البلاد، وعن كل خفقةِ بُرعُمٍ يفوح بالحياة، ويلوُح تحت هجير شمسٍ لافحةٍ لاهبة:
قالوا وزير الزراعة
وثروة الحوت مثبوت
أين السمك والزراعة
لا به زراعة ولا حوت
ما في المدن والبوادي
إلا صوالين وبيجوت
* * *
يقول أبو جبر صالح
ليت البنادق معاول
والشيخ ليته مزارع
أو صيدلي أو مقاول
* * *
كانت هيام تشتي تزوَّج عصام
وهو بها هايم هيامه
لكنّ ابوها جيم ألف هاء لام
وقف حجر عثرة أمامه
منع عصام منها وزوّج هشام
له سمّ يسكن في عظامه
هاهو الشاعر الشيخ يتمنّى في لحظة تأمّل وأمل أن تصبح البنادق معاولاً، والشيخ صيدلياً أو مزارعاً، هذه هي الثورية الحقيقية، وهذا هو الهدف من مشروع التنوير الاجتماعي الذي غاب عن مجتمعنا في فترات فارقة دقيقة. ولقد كان هذا الشاعر الريفي الذي ولد في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين أكثرَ عصرية من كثير من خريجي الجامعات الحديثة، أو من متحّزبي قاعات الحوار والمؤتمرات والملتقيات والمنتديات.
كان الشاعر ومايزال حاملاً لواء التغيير الذي حمله في الواقع على عاتقه منذ بداياته المتمردة الشاعرة.
وبرغم أن العمر تسعين عام كامل
لا زلت من أزجى الكهول
دلا دلا ياهل الأوالي والجرامل
عاد المراحل با تطول
أمامكم صحراء وراها سهل قاحل
فيه ألف عنقا والف غول
يمكن يبيعوا أسلحتهم كل خامل
بالبخس في سوق البقول
أو يرهن الآلي بَطَلْ بَكْر ابن وائل
في كيس قمح ابيض وفول
ما كنت أظن إني أعَمّر عُمر طايل
حتى أرى المنكر يصول
والجهل يتحدى الأساتذة الفطاحل
والنّوق يركبن الفحول
ألم تروا الياسمين والورد والفل
عاطش مهدّد بالذبول
والعوسج الشائك ينعّمْ بالمناهل
يشرب من امراد السيول
يا عصر صنع الكمبيوتر والمعامل
والحاسبات والكنترول
رفعت كل الناس إلى أعلى المنازل
والقيتنا ننزل نزول
والآن أبدلنا السنابل بالقنابل
والآليات أقذر حمول
وارى الحكومة غافلة والشعب غافل
عن أزمة الماء والحلول
شوقي يشق اسبيل والحيد المقابل
من زاد رقد بين السبول
* * *
وسط أحزان الشاعر وهمومه وفي نهاية السبعينيات من القرن العشرين كانت رحلته إلى مصر التي عشقها وأحبّها، وأحبّ زعيمها الراحل جمال عبدالناصر. وكانت الرحلة في الواقع تنفيساً وترويحاً عن الروح اللاغبة، والجسد المنهك،.. والشاهد، أن الروح المرحة الحلوة للشاعر تجلّت في نصٍّ خفيف الظل، لا بأس أن نورد بعض أبياته هُنا ترويحاً عن القارئ أيضاً!
يا مصر يا عيني
يا موطن الأحرار
يا جنّة الدنيا
يا قبلة الأنظار
يا مهبط السّوّاح
ومجمع الزوّار
ما مثلها بلده
في ساير الأقطار
لولا شطارة بعض
أبناءها الشطّار
إن رحت تتفسح
فكم يجوك انفار
هذا يبا بقشيش
وذا يبا الغِرّار
وذا يدندن لك
وينتثر أخبار
وذا يرحّب بك
في السوق ترحيب حار
ومقصده لطشك
ولا قد اقفى سار
وان سرت تستأجر
شقة أتى السمسار
يريد له أجره
عُشُر من الأعشار
وتاك طبّاخه
ندفع لها الإيجار
تجيب لنا الأغراض
بأرخص الأسعار
تجيب بدولارين
وتسرقك دولار
تأكل من الجنبين
كأنها منشار
وان قلت يا سوّاق
إمشي بنا مشوار
فكثّر اللفات
وزيّد العصوار
وبعد يحسب لك
بالكيلو الأمتار
الكل جزارين
يشمتروك شمتار
حرام ما تخرج
وعاد معاك دينار
* * *
يمتاز شعر صالح سحلول بالانسياب الفني البديع كأنه عين ماءٍ تفيض بسلاسةٍ وسهولة لكنها لا تكف عن الجريان والتفجر بثبات واستمرارية حتى فاضت بها السهول والوديان.
ولعلّي وأنا أوشك على الانتهاء من رسم هذه الإشارات أن أبوح بما شَغَفَني في صفحات هذا الديوان الذي يُلخّص نصف قرن من أحلام التغيير، وأهوال المعارك على كل الجبهات، الاجتماعية والسياسية.
ولا أجد مناصاً من أن أُورد نصّاً آخر راق لي، ولعلّه أن يروق للقارئ أيضاً. وهو نصٌ جامعٌ مانعٌ قاطع! في هذا النص، ومرةً أخرى تتجلى روحُ الشاعر الحكيمة الكبيرة وهو يتبرّأُ من أحوالٍ لا تسرّه، لكنه يعلن تمسّكه وإيمانه المطلق بثوابت الوطن المقدسة، الوحدة والجمهورية، والثورة أيضاً!
هذا نموذجٌ باهرٌ من الرجال جديرٌ بالأجيال الجديدة أن تتمعّن في تجربته، وأن تُمعِنَ في تأمل شاعرٍ أصبح قصيدةً أسطورية على شفاه شعب وقلب وطن.
يا حسّي المرهف لماذا أكحلت طرفي بالسهرْ
والفكر بالتفكير أرهقني ووفّى ما قصر
وانت يا شيطان شعري زدت نار القلب حر
فاتركني ارقد لي شبيه الناس ذي مثل البقر
لا تعتبرني شاعر الثورة ولا شاعر مُضر
فإن قيس ابن الملوّح كان شاعر معتبر
وكم تغنى قيس في ليلى وكم فيها شَعَر
حتى فقد عقله وأصبح قيس مجنون مشتهر
ولا لمس ليلى ولا هي لمسته حتى انقبر
حكايتي نفس الحكاية والخبر نفس الخبر
. . . . .
والتاثت السمرة وفرحتنا جغرها ذي جغر!
خلّى العصيد مليان براقط والعجين مليان شعر
لانا اشتراكي يا بني شعبي ولانا مؤتمر
ولا من الحزب الذي يمشوا يحجوا في صَفَرْ
ولا أنا بعثي ولا انا ناصري يا بو عمر
ولا من الحزب المريِّع للإمام المنتظر
ذي منويين ضرب الحجر بالفاس والفاس بالحجر
يمّا كسرها الفاس يمّا الفاس في الحيد انكسر
وقصدهم لا بد من صنعاء وإن طال السفر!
. . .
يا قاصدين صنعاء صنعا اليوم في سطح القمر
لا تحسبوها حيث كانت في عقيل أو في الزمر
وحكم صنعاء اليوم في أيدي مغاوير البشر
ما عاد يحكمها سوى صنديد راسه من حجر
. . . . .
ما ناش من الأحزاب ولا لي في مجالسهم مقر
أنا من الشعب الذي في فجر أيلول انتصر
وثار ضد الغاصب المحتل في الرابع عشر
* * *
في أحداث صعدة الأخيرة قام الشاعر بزيارتها على رأس وفدٍ شعريٍّ كبير من كل محافظات اليمن. وقد ألقى قصيدةً كانت خلاصة رأيه.. ومن أبياتها:
يا نُقُمْ قل لحيد مرّان مهلا
يا خبيري عاد المراحل طوالي
لم يكن قصدكم هو الدين كلاّ
إنما هي نغمة بأسلوب بالي
إنّ تخريب الكعبة أهون وأدلى
من دم إنسان يُسفك على أيّ حال
إن الشاعر الثائر وقد ناهز المائة سنة من عمره المديد، قد شهد وشارك في إنجاز الكثير من أحلام بلاده، ثورةً، وجمهورية، ووحدة، وتنمية، رغم شعوره بين آن وآخر بلحظة إحباطٍ تُداهمه، أو بجمرةِ حزنٍ تلامسه:
لابدّ لي أن أنصح ابن اليمن
من قبل ما يقحص بنانه
والله ما تمرّ الإحن والمحن
إلا الخسائر والإهانه
والعفو عن بدّاع عبر الزمن
من أجلكم عانى امتحانه
أخلص لكم واشفق عليكم وحن
من قلب يتفجّر حنانه
واليوم اذا ما زاغ عقله وجن
فإنكم اسباب جنانه!
* * *
هذا هو قَدَرُ الشاعر المقاتل، وهذه هي قصةُ أحلامه وأشجانه، عُمْرٌ من التّرحال عبر ذرى التغيير والتثوير في بلادٍ كانت في الأصل ثورةً بركانيةً، ما يزال دخان حِمَمها يتصاعد على كل الجهات.
ربما يشعر الشاعر الآن أنّ جسده بدأ يفتُرُ عن عزائم روحه الجامحة الطامحة، لكنه وهو يقترب من المائة عام أفضل حالاً، وأنعم بالاً من كثير لم يتجاوز الستين من عمره. ولعلّ السّر في هذه الحيوية الدائمة تلك الأحلام الكبيرة الرائعة الساكنة في شغاف قلبه الطفل، والقابعة بين ضلوعه العنيدة الواقفة!
قال ابن سحلول قرّين الركب
واصبحَتْ خطوة المردم عذاب
من بعد ما كنت أقفز قفز ضب
وأجري في أعلى جبل جري الذئاب
وكان طعم الجحين عندي أحب
وأحلى وأشهى من اللحم الكباب
واليوم طعم السبايا كالعُبَبْ
كرهت أكل السبايا والثِّراب
ما كنت أفتر ولا أشعر باللّغَبْ
ولا أهم الشدايد والصعاب
واليوم قرّت عروقي والعَصَبْ
واللّحي لزّج وشعر الرأس شاب
يِنِعْت كالزرع والمغرب غرب
وليس بعد اليناع إلا الصّراب
* * *
قال ابن سحلول ولّى
ربيع عمري وقيضه
أراه كالبرق أومض
وغاب عني وميضه
صرفت نصف الحياة في
حرب العهود البغيضه
ونصفها في نصيحة
أهل القلوب المريضه!
* * *
يُلخّص الشاعر في البيتين الأخيرين حياةً من الكفاح، وعُمْراً من أحلام التغيير، ويشير إلى أنه قضى نصف عمره في حرب العهود البغيضة، والنصف الآخر في نصيحة أهل القلوب المريضة!
يا لها من حَياةٍ توزّعت على شاهق هاويتين، وتقسّمت على ذؤابة شُفرتين! ولَعَمري، إنها غايةٌ شريفةٌ تتقطّع دونها عزائم الشعراء وتشرئبّ صوب ضوئها أعناق الرجال.
وقد كانت حياةُ هذا الشاعر العاصف منذ بداياتها مرتقىً صعباً، واختياراً مُرَّاً، واختباراً قاسياً قساوةَ بيئته التي تَشرّب أجمل ما فيها؛ كرمَ الروح، وشجاعةَ الموقف، وأضاف إليها رؤيةَ العصر ورؤيا الشاعر. إنه يلتفت الآن إلى ماضيه راضياً، ضاحكاً! وقد أفنى معظم سنّي عمره المديد في اللهب المقدّس أي في مجمرة التغيير الهائلة الصاهرة التي غيّرت مجرى التاريخ، وأجْرت الأنهار الزاخرة بالجديد والأجد.
صالح سحلول، جبلٌ شعريٌّ مسلول في فضاء هذه البلاد، وعاصفةُ حريقٍ في ليل هذه الوهاد. ما أجمله الآن هانئاً راضياً عن رحلته المضنية الطويلة. هذا غبارُ معاركه وقد فتَّق براعمَ الأمل، فما كذب الحلم، وهذا لهبُ حرائقه وقد شقّق جدارَ الليل، فما كذب الضوء.. أيها الشاعر المقاتل.. هذا وطنُك يحيّيك، وهذا شعبُك يردّ التحيّة.. كبيرةً تبلغُ سماءَ أجنحتك، حارةً تندفق في حرارةِ قلبِك.

نسخة الكترونية:

https://foulabook.com/book/downloading/981330171

سحلول شاعر الثورة

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى