[esi views ttl="1"][esi views ttl="1"]
آراء

اليمن.. "لن ينال منك دخيل"

محمد صلاح يكتب: اليمن.. "لن ينال منك دخيل"


​لم ينظر أبناء الشطر الجنوبي من الوطن سابقاً، عند قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، إلى ما جرى في صنعاء باعتباره حدثاً يخصّ أبناء المناطق الشمالية من اليمن، بل باعتبار قيام النّظام الجمهوري، الذي أزاح حُكم الطُّغاة، هو الخطوة الأولى لدحر الغزاة والمحتلين من بقية أرجاء الوطن.
فمع إطلالة الأيام الأولى لثورة سبتمبر، انطلق سكان المناطق اليمنية الخاضعة للاحتلال بلا تردد، أو تلكؤ نحو المناطق الشمالية، للاشتراك في الدّفاع عن الثورة ضد الأخطار التي تعرّضت لها من قبل الرَّجعية، والاستعمار البريطاني، فلم ينظروا إلى الشمال بأنه كيانٌ منفصلٌ عنهم، ولا يعنيهم من أمره شيءٌ، بل تدافعوا بطريقة لا شعورية نحو تأييد الثورة، وتحرّكوا نحو الجبهات المُشتعلة في المناطق الشمالية لقتال أعداء الثورة، وفي ذهنيتهم أن اليمن وطنٌ واحدٌ، وشعبٌ واحدٌ، وكيانٌ وطنيٌ واحدٌ، أسهم الاستعمار والإمامة في إنهاكه وإبقائه مفككاً ومجزَّأً.
في منتصف الأربعينات، لجأ الأحرار بقيادة الشهيد محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد محمد نعمان إلى مدينة عدن، الواقعة حينها في قبضة الاستعمار البريطاني، وذلك هرباً من بطش الإمام يحيى وولي العهد أحمد، الذي كان حينها أميراً على تعز، بعد أن هددهم وتوعدهم بالقتل، وبأنه يريد أن يلقى الله وسيفه مخضباً بدماء "العصريين".
في عدن استقبلتهم نخبتها من المفكِّرين والأُدباء والسياسيين، واحتضنت المدينة قادة الأحرار ورفاقهم، الهاربين من سلطة الإمامة، وقدم أبناؤها وبقية مناطق الجنوب دعمهم ومساندتهم للأحرار، وكان على رأس القيادات "العدنية" المُناضل محمد علي لقمان، الذي عمل على مساعدتهم في إنشاء "الجمعية اليمانية الكُبرى"، و"حزب الأحرار"، وإصدار صحيفة "صوت اليمن"، كما خصصت صحيفة "فتاة الجزيرة"، التي كان يصدرها ويرأس تحريرها، عدداً من صفحاتها لقضية "شمال الوطن"، وفضح سياسة الإمام يحيى، ونقد مُمارساته اللا إنسانية، إضافة إلى نشر آراء وبيانات الأحرار.
ومن خلال الحاضنة الشعبية، التي وفّرتها عدن للأحرار، ومُساهمة "زعماء التّنوِير" في المدينة، تمكّنوا من مناهضة ومُقارعة النظام الإمامي، ونتج عن ذلك قيام "ثورة 1948"، التي هزّت عرش الإمامة، ووجّهت الضربة الأولى لمداميكه، واعتبرت الأساس لقيام الثورات التالية، والتي تكللت بالنجاح في ثورة "سبتمبر 1962".
وكان أبناء المدينة ونُخبها الوطنية، كما في بقية مناطق اليمن شمالاً وجنوباً، يرون في إزاحة الإمامة من الحُكم في الشمال خُطوة لابُد منها، لتخليص الجنوب من المُحتل الأجنبي.
لقد كانت الجماهير اليمنية هي الحارس الأمين للهويّة اليمنية، من مخاطر التمزّق والتحلّل، رغم المحاولات الحثيثة، والسياسات المفرُوضة من قبل الاستعمار والإمامة، في تعزيز الانقسامات والتّفرقة بين أبناء البلد، مع غياب للمؤسسات، التي من شأنها أن تحافظ على بقاء الهويّة الوطنية، وتحرسها من مخاطر التفتّت والتفكّك، وفي ظل الانقسام السياسي المفروض من قبل السلطات القابضة على الحُكم، والساعية لتعزيز الانفصال والتمزّق داخل المجتمع.
لقد أثبتت ثورتا "سبتمبر" و"أكتوبر" ونجاحهما في إزاحة الطاغية وطرد المستعمر، أنّ الشعب اليمني والقضية الوطنية هما وحدةٌ واحدةٌ في شرق اليمن وغربه، وشماله وجنوبه.
خلال المائة عام الأخيرة، قاتل اليمنيون وواجهوا إمبراطوريتين، وقاتلوا الإمامة..، في سبيل: إقامة "النظام الجمهوري"، ودحر الاستعمار، وإنجاز الاستقلال، ثم تقاتل الجمهوريون منذ نهاية الستينات، وحتى بداية التسعينات في سبيل الوحدة.
لن أستعرض تجربة اليمن الطويلة مع الإمبراطوريات، وسأكتفي بشاهدين، أحدهما من القرن التاسع عشر، والآخر من القرن العشرين:
الشاهد الأول: في القرن التاسع عشر لم تتمكن الإمبراطورية البريطانية، التي لا تغيب عنها الشمس، من التهام اليمن بأكملها، ومثلها الإمبراطورية التركية، والتي عجزت قبل ذلك وهي في قمة مجدها، وأوجّ قوتها من إخضاع اليمن لسيطرتها، ورغم اقتسامهما (الأتراك والانكليز)، منذ أواخر القرن التاسع عشر، النفوذ داخل اليمن، إلا أن مفاعيل حضورهما ظل مقصوراً على مناطق محدّدة.
والشاهد الآخر: خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم يتمكن الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الشرقي الذي يقوده، أو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها المعسكر الغربي، من ضمّ اليمن بأكملها تحت دائرة نفوذ أي منهما.
لم تكن المصالح الاستراتيجية وحدها من تدفع بريطانيا إلى التمسك باحتلال الجنوب، والسيطرة على موانئه وسواحله، لتحقيق أهدافها ومصالحها في المنطقة، وحسب، بل كان إلى جانب ذلك الحقد الأعمى، الذي كان يقف إلى جانب رفضهم أن يستلم اليمنيون مدينتهم وميناءهم التاريخي (عدن)، والذي يمنح اليمن ثقلاً وأهمية اقتصادية واستراتيجية على المستوى الدولي، حيث يشير، تريفاسكيس، المندوب السامي لبريطانيا في عدن، إلى أنه إذا تمكّن اليمنيون من تأمين السيطرة على عدن فإن ذلك "سوف يزوّد اليمن لأول مرّة بمدينة كبيرة وحديثة، وميناء له عواقب دولية". والأهم من ذلك، أنه "من الناحية الاقتصادية، من شأنه أن يوفّر أعظم المزايا لبلد فقير وغير متطوّر للغاية".
ولذلك، وقفت بريطانيا ضد ثورة سبتمبر ليقِينها بأن نجاحها سوف يهدد بقاءها واستمرارها في عدن، وبقية المناطق الجنوبية، ومن هنا ظلت تعمل على بقاء نظام الإمامة ومحاربة الثورة، حيث أكد ذلك كريستوفر غاندي، المسؤول البريطاني في مدينة تعز، في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1962، كما توضّحه الوثائق البريطانية بقوله: "من المؤكّد أن مِيزة النّظام القديم -بالنسبة لنا- كانت أنه كان غير محبوب وغير جذاب".
كانت تدرك بريطانيا أن خروجها من عدن سوف يفقدها حضورها وبروزها القوي في المنطقة، والذي يؤثّر على مكانتها وهيبتها في العالم، ويؤكد ذلك ما كشفته الوثائق البريطانية عن محادثة بين رئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية ووزير الدفاع ورؤساء الأركان، بتاريخ ٢٢ أكتوبر ١٩٦٢، جاء فيها "أنه إذا تم طردنا من عدن، فإن فقداننا هيبتنا سيجعل من المستحيل علينا البقاء في الخليج، تحت أي ظرف من الظروف".
وبالفعل فقد عجّل استقلال الجنوب، بتاريخ 30 نوفمبر 1967م، وطرد بريطانيا من اليمن، في خروجها من بقية أرجاء المنطقة.
أعلنت بريطانيا، خلال شهر يوليو من عام 1964م، بأنها سوف تمنح عدن وبقية المحميّات حق الاستقلال، خلال موعد أقصاه 1968، وذلك بعد إنشاء الدولة، التي كانت تسعى لإقامتها في الجنوب، ثم تعمل على توقيع اتفاقية دفاع مع الحكومة، للاحتفاظ بقاعدة دفاعية في عدن، لكن اليمنيين انتزعوا الاستقلال منها انتزاعاً، وأجبروها على الرحيل والخروج من اليمن، "ولأول مرّة في التاريخ الاستعماري تتخلّى المملكة المتحدة عن القيام بمسؤولياتها. وفي فلسطين بالذات، كان ينبغي عليها أن تُبقي سلطتها حتى يوم الرحيل النهائي".
إن حلول سلطة "الجبهة القومية" مكان النظام الاستعماري تستحق أن يُشار إليها بشدّة. فلم تقبل السلطة الاستعمارية في أي مكان من العالم، بأن تقوم بتلاشٍ واختفاءٍ مماثل قبل تسليم السلطة وإعلان الاستقلال. ومع ذلك، هذا هو ما حدث في اليمن الجنوبي. [د. محمد عمر الحبشي 'اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً'، ترجمة: الدكتور الياس فرح، والدكتور خليل أحمد خليل، 593 - 594].
قبل ظهور الجماعات المليشاوية المسلحة، ذات الأهداف الضيّقة، خلال العقدين الماضيين في بلادنا، والتي تسعى لتفكيك البلد، واختراع هويات مزيّفة صنعها المستعمر، فقد كان هناك السلاطين، وكان الأئمة، وقبل شيوخ الإمارات ودراهمها، كانت هناك إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ومع ذلك ذهبوا، وذهبت مشاريعهم، وبقي منها ما يبقى من عود الحطب المحترق، لأنه "عندما ننظر إلى سيناريوهات تقسيم البلدان الأخرى في القرن العشرين -مثل ألمانيا، وفيتنام، واليمن- فإن قوى الوحدة الوطنية ستنتصر في نهاية المطاف، بطريقة غير مخطط لها، وأحياناً عنيفة ومتسارعة الخطى". [روبرت كابلان انتقام الجغرافيا].

*بلقيس نت

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى