آراء

عن ثورة صنعاء الأولى (لا نريد العلوي ولا يدخل بلدنا)

بلال الطيب يكتب: عن ثورة صنعاء الأولى (لا نريد العلوي ولا يدخل بلدنا)


بطلب من أبي العتاهية عبدالله بن بشر بن طريف - أحد مو إلى آل يعفر - وبعد أربع سنوات من مقدمه إلى صعدة، توجه الهادي يحيى بن الحسين بـ750 مُقاتل صوب صنعاء، لاقاه الأول وجماعة من خُلص أصحابه في منطقة تسمى حدقان بالقرب من شبام، ودخلا معًا ذات المدينة ليلة 23 محرم 288ه / 16 يناير 901م.
وكان أبو العتاهية قد تخلص من بني عمومته المشكوك في ولائهم بأنْ أرسلهم بقيادة عبدالله بن جراح إلى منطقة السر؛ وذلك بعد أنْ أوهمهم أنَّ إمام صعدة سيجتاح صنعاء من تلك الجهة، وفي اليوم التالي، وأثناء صلاة الجمعة عاد هؤلاء مُغاضبين، وقاموا بِمُعاضدة سكان المدينة السُنيين بثورة عارمة، وتجمع أكثر من 10,000 منهم وهم يُرددون: «لا نريد العلوي، ولا يدخل بلدنا»، وكان آل طريف يحرضون الناس على القتال وهم يقولون لهم: «أنصرونا على هذا الغريب نخرجه من وطننا وبلداننا إلى جبل الرس».
بدأ الثوار بمناوشة أنصار الهادي يحيى، هزموهم في الكرة الأولى، ثم حمل الهادي عليهم بنفسه، هزمهم، وطاردهم - كما أفاد كاتب سيرته - إلى خارج أسوار صنعاء المنيعة، وحين استتب له أمر المدينة، وبايعه سكانها، ضرب اسمه على العملة، وحبس الثوار من بني طريف، وغيرهم، وأخذ سلاحهم، ودوابهم، وفرقها على الطبريين.
وقبل التعمق أكثر في تفاصيل ما حدث بعد تلك الواقعة، نُعطي لمحة مُوجزة عن حكام صنعاء خلال المئة عام السابقة لتلك الثورة، حيث تعاقب على حكمها ولاة الدولة العباسية، ثم آل يعفر، ومواليهم من آل طريف، وحكمها أيضاً شيخ بكيل الدعام بن إبراهيم - كما أفاد الهمداني - ولكن لوقت يسير.
يُنسب آل يعفر إلى يعفر بن عبد الرحيم الحميري مُؤسس دولة بني حوال في شبام 227ه، الذي استمر مُقاومًا للولاة العباسيين، واستولى على صنعاء، إلا أنَّ ولده محمدًا خالفه، وأخذ البيعة للمُعتمد العباسي 257ه، وضم إلى صنعاء جميع مخاليف اليمن باستثناء تهامة التي كان فيها إبراهيم بن زياد، ونكل بمعارضيه من الأبناء (الفرس) وغيرهم شر تنكيل، وأظهر الولاء لابن زياد، وذكر اسمه في الخطبة.
وحين عزم على التوجه من صنعاء جنوبًا للسيطرة على لحج، استخلف ولده إبراهيم، وهكذا صار الأخير الحاكم الفعلي حتى بعد عودة أبيه، لتأتيه الأوامر من جده يعفر بأنْ يقتل أباه وعمه 270ه، وحين أتم جريمته بيده، وفي صومعة مسجد شبام ثار الناس عليه، ليتولى الإمارة عمه عبد الرحيم، لتبدأ دولتهم بعد تلك الحادثة بالترنح والانحسار.
بعد ثلاث سنوات من تلك الحادثة اجتمع أهل صنعاء من الأبناء وغيرهم، وأخرجوا آل يعفر منها، وخربوا وأحرقوا دورهم، وفي صفر 279ه / مايو 892م وصل علي بن الحسين المعروف ب (جفتم) من بغداد واليًا على ذات المدينة باسم الدولة العباسية، وحكمها لثلاث سنوات، ليستعيد آل يعفر بعد مغادرته اليمن حكمها، وكان أسعد بن يعفر آخر سلاطينهم الأقوياء.
أما آل طريف فينسبون إلى طريف بن ثابت الكباري مولى الأمير يعفر بن عبدالرحيم، وقد أرسله الأخير عام تأسيس دولته لاجتياح صنعاء 227ه، إلا أنَّه مُني بهزيمة نكراء، وقد ظل وأولاده على ولائهم لآل يعفر، حُكامًا باسمهم على بعض المناطق، وقيل أنَّهم وبعد خروج علي جفتم والي الدولة العباسية من صنعاء 282ه، استبدوا بأمر المدينة، بمساعدة عساكر عباسيين كان قد استبقاهم الأخير، وحكموها باسم آل يعفر لعدة سنوات، ثم اختلفوا، ودارت بينهم حروب وخطوب.
قال كاتب سيرة الهادي يحيى عن آل طريف: «فإنَّهم قد كان اقتطع كل رجلٍ منهم بلدًا من اليمن يأكله جورًا، وظلمًا، وفسقًا»، واتهمهم أيضاً بالفجور، وشنع على أحد قادتهم ويدعى إبراهيم بن خلف، واتهمه بسبي نساء جيشان (ذي رعين)، وبيعهن، وأنّه كان لديه نساء فواسد، وجلها حد وصفه أسباب اجتمعت وجعلت ابن عمهم أبو العتاهية يستنجد بالإمام الرسي، كما سبق أن ذكرنا.
في أواخر الشهر التالي من دخوله صنعاء، توجه الهادي الرسي يحيى صوب شبام، أخذها وكوكبان من آل يعفر، وجعل عليها ولده محمد، ثم سار بقواته جنوبًا، سيطر على يكلا، ثم سُمح، ثم ذمار، ثم منكث من بلاد عنس، ثم جيشان، ثم ثات بالقرب من رداع، وجعل على تلك المناطق الولاة من قبله. أما صنعاء فسبق أن جعل عليها أخاه عبدالله، وبعد عودته من رداع، وخروجه الثاني إلى شبام، جعل عليها ابن عمه علي بن سليمان بن القاسم، وجعل على الأخيرة محمد بن عباد التميمي، والأخير كان وزيرًا لأبي العتاهية السابق ذكره، وكان من جُملة مُستقبليه في منطقة حدقان.
قام الهادي يحيى حينها بحبس أمراء آل يعفر وكبيرهم أسعد بن يعفر، ووزعهم على سجون صنعاء، وشبام، وقُدم، وذلك بعد أنْ استدرجهم بالحيلة إلى مجلسه؛ فما كان من أنصارهم وأنصار آل طريف إلا أنْ استغلوا إرساله لعدد كبير من قواته شمالًا، وثاروا عليه، منهم من توجه إليه في شبام، وقاموا بقتل محمد بن عباد جمادي الآخر 288ه / يونيو 901م، وذلك بعد عدة أيام فقط من تعيين الأخير عاملًا عليها.
ومنهم من ثاروا في صنعاء بقيادة عثمان بن أبي الخير، وعبدالقاهر بن أحمد، وأحمد بن محفوظ، ووثبوا بقيادة الأخير على عاملها علي بن سليمان، وقاموا ومعهم عدد من العساكر العباسيين الذين استبقاهم جفتم بطرده وقواته من تلك المدينة المنكوبة.
قام الثوار بإخراج بعض أمراء آل يعفر من السجون، وأعادوهم لكرسي الحكم، وأعادوا الخُطبة للمُعتضد العباسي؛ وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما ذكره كاتب سيرة الهادي، حيث قال: «وعلمت العشائر بذلك، فخالفوا من كل المواضع، وأخرجوا عُمال الهادي من بلدهم لشرارة الخلق، وذهابهم عن الله سبحانه، وأنَّهم لا يريدون أنْ يقوم للدين قائمة، ولا ينتهون عن شرب الخمور، وارتكاب الفجور عليهم لعنة الله، فقام كل قوم على من كان عندهم من عمال الهادي، وأخرجوهم، وأخذوا ما كان معهم من دواب، ومتاع، "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد"».
كان الهادي يحيى قد غادر شبام قبل سقوطها صوب كوكبان، ومعه أبو العتاهية ومحمد بن الدعام اللذان أبليا معه بلاءً حسنًا، خاض بهما عدة مُواجهات مع الثوار، واستعادا له شبام لبعض الوقت، لم يدم مكوثه فيها طويلًا، قرر الانسحاب بقواته المنهكة إلى ريدة، ومعه شيخ بكيل الدعام بن إبراهيم الذي قدم حينها بقوات كثيرة لنجدته، دون أنْ يُغني عن هزائمه المتتالية شيئًا، وكانت بينه - أي الدعام - وآل يعفر عداوة قديمة، استغلها الهادي الرسي جيدًا، وهناك - أي في ريدة - كانت في انتظار الهادي جولة أخرى، مع ثوار آخرين، وكانت هذه المرة لصالحه.
وعلى ذكر الدعام بن إبراهيم، فقد ذكر الحسن الهمداني أنَّه تشفع حينها لأسعد بن يعفر وبعضٍ من بني عمومته عند الهادي يحيى، بعد أنْ كان الأخير قد عزم أثناء مُغادرته شبام على قتلهم، وهو أمرٌ نفاه المؤرخ العباسي، وقال إنَّ الهادي عفا عن أسعد، وإبراهيم بن خلف، وأوصاهم بتقوى الله.
سبق لصعصعة بن جعفر (صاحب ريدة)، أنْ تمرد على الهادي يحيى ودولته، وذلك بعد أنْ قام الأخير بعزله، وجعل محمد بن عيسي التميمي بدلًا عنه، وكان تمرده - أي صعصعة - بالتزامن مع الثورة السابق ذكرها، وبتنسيق مُباشر مع الثوار في صنعاء وشبام؛ بل أنَّ أحد موالي بني طريف ويدعى أبو زياد قدم لنُصرته.
وذكر المُؤرخ العباسي أنَّه أي - صاحب ريدة - شارك آل يعفر إحدى حروبهم، واستنقاصًا منه وأقرانه قال ذات المُؤرخ إنَّهم خرجوا ناقمين على سيده الإمام لأنَّه حرَّم عليم شُرب الخمر، والفساد، والمُنكرات! وأضاف مُتحاملًا: «وكان - يقصد صعصعة - يأكل أهل البون ظلمًا، وجورًا، وكان يأخذ بعض النساء للفجور، وكان يشرب الخمور»! كما هي عادة الأئمة من بعده في تشويه الخصوم ونشر الشائعات ضدهم.
سيطر صعصعة بن جعفر بداية ثورته على قاع البون، وفرق على أصحابه أموالًا وخيلًا كانت للهادي يحيى، وحين قدم الأخير، دارت بينهما عدة مُواجهات، هُزم الأول في آخرها، فخرَّب الإمام المُنتصر قصره، ثم أمر بقطع رؤوس القتلى من أنصاره، وأرسلها إلى صعدة، ونجران، وهو مشهد مُؤلم تكرر بكثافة خلال تاريخ الإمامة الطويل.
وما هي إلا أيام قلائل حتى وصله - أي الهادي يحيى - مدد قيل إنه من الحجاز معظمهم من أبناء عمومته، كان سبق أن راسلهم بعد دخوله صنعاء، ممنيًا إياهم بحكم عظيم؛ الأمر الذي حفزه على التوجه من ريدة جنوبًا، دون أن يستمع إلى نصيحة شيخ بكيل الدعام بن إبراهيم الذي خاطب رسوله قائلًا: «إنَّ القوم في جُماعة لا طاقة لكم بها»، وقاد - أي الهادي - بنفسه أكثر من 600 مُقاتل للسيطرة على صنعاء مرة أخرى، وقد تم له ذلك 27 رجب 288ه / 16 يوليو 901م.
لم يهنأ الهادي يحيى الاستقرار في صنعاء لحظة، ولم تتوقف طول فترة بقائه - التي تجاوزت عشرة أشهر - المعارك بينه وبين آل طريف، وآل يعفر، والذين حظوا بدعم من قبل بني الحكمي في تهامة، والأخيرون سلاطين المخلاف السليماني، ويُعتقد أنهم كانوا حينها تابعين للدولة الزيادية.
كانت تلك المعارك بمُجملها سِجالًا، وشهدت مناطق جبل نقم، وجبل حدين، وبيت بوس، ووادي ظهر، والرحبة، وجبل ظبوة، وحدة فصولها الدامية، وخسر فيها - أي الهادي - ابن عمته علي بن سليمان، ثم صديقه الصدوق أبو العتاهية، وعدد من الأفراد، والقادة، واللذين كان مُعظمهم من الطبريين، ليصله في صفر 289ه / يناير 902م مدد آخر من طبرستان، ولم يغن عن هزائمه المتتالية شيئًا.
أصيب الهادي يحيى في إحدى المعارك بجرح عظيم في رأسه، وكاد أنْ يلقى حتفه، وبسببه، ولعجزه عن الوفاء بنفقات عساكره؛ قرر مُغادرة صنعاء جمادي الآخر 289ه / مايو 902م، وخاطب قبل ذلك سكان ذات المدينة الذين رفضوا إقراضه المال قائلًا: «والله لتمنونني، وليضربنكم الله بلباس من الجوع والخوف، ولتباعن نساؤكم بالدينار والدينارين والثلاثة، جزاءً من الله على فعلكم وصنعكم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقب ينقلبون»!
كما خاطب بني طريف مُتوعدًا:
غر العبيد بني طريفٍ عِلَّتي
مع محنةٍ دامتْ عليَّ ليالي
وأنا الذي عرفوا وسوف أزورهم
بالخيلِ عابسةٍ وبالأبطال
لست ابن أحمد ذا المكارم والعلا
إن لم أُثرِ نقعًا بصحن أزال
غادر الهادي يحيى صنعاء ذليلًا مدحورًا، مُنهكًا مقهورًا، وهو العنيد المُتهور الذي لا يستسلم بسهولة، طلب من الدعام بن إبراهيم فور أنْ التقاه في منطقة ورور أنْ يمده بالمال والرجال كي يعاود حربه مع آل طريف وآل يعفر، إلا أنَّ شيخ بكيل من أدرك عواقب تلك المُغامرة مُبكرًا، رفض ذلك، فما كان منه - أي الرسي - إلا أنْ عاد خائبًا إلى عاصمة دولته، لا ليستقر ويرتاح؛ بل ليبدأ حرباً جديدة مع قبائل نجران، والأكيليين.
- من كتاب (المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن).

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى