صحف

في ذكرى استشهاد الزبيري: الوطنية والإيمان بالشعب

زايد جابر يكتب: في ذكرى استشهاد الزبيري: الوطنية والإيمان بالشعب*


تمر علينا ذكرى استشهاد أبو الأحرار، محمد محمود الزبيري، ونحن نمر بمرحلة تاريخية خطرة وحرجة تجعله حاضراً بموافقة وأفكاره وشعره ونضاله، وتحتم علينا استلهام الدروس من هذه الشخصية، فرغم مضي 56 عاماً من استشهاده "ما زال صوته يتردد عالياً، وكالنهر يشق طريقه في أعماله الأجيال الطالعة ويملأ شرايينها ببلازما الثورة ويحصنها ضد أخطار التخلف والنكوص"(1).

كان الزبيري مدرسة كبرى في الوطنية والنضال وهو بحاجة إلى دارسات جديدة منصفة من قبل الباحثين والأكاديميين، ونحن هنا لا نزعم أننا نقدم بحثاً أو دراسة وإنما هي مجرد خواطر سريعة في ذكرى استشهاده، نرى أن من الأهمية بمكان إعادة التذكير بأهم القيم والقضايا التي ارتبطت بحياة هذا الزعيم وسنشير إلى بعضها فيما يلي:

أولاً: الزبيري والوطنية المفقودة

إن بروز المناطقية والجهوية في الآونة الأخيرة كان على حساب الوطن والوطنية الجامعة التي بذل الرعيل الأول من رواد الحركة الوطنية اليمنية أرواحهم في سبيلها وعلى رأس هؤلاء شهيدنا الكبير الزبيري، الذي كان الوطن هو شغله الشاغل منذ أن تفتح وعيه على الحياة،

تأملوا مثلاً في ديوان شعره الأول "صلاة في الجحيم" وفي أول صفحة انظروا، إهداء الديوان، لم يهده إلى حبيبته أو أمه أو أحد أقاربه، كما يفعل غيره، وإنما إلى وطنه الذي يعشقه حتى الثمالة، وقد خاطبه في الإهداء بهذه الأبيات:

الشاعرية في روائع سحرها
أنت الذي سويتها وصنعتها

مالي بها جهد فأنت سكبتها
بدمي وأنت بمهجتي أودعتها

أنت الذي بشذاك قد عطرتها
ونشرتها بين الورى وأذعتها

وقفت لساني في هواك غناءها
فإذا تغنت في سواك قطعتها!

ولم يكن ما قاله مجرد قول شاعر وإنما أتبع القول العمل، وقضى حياته مناضلاً من أجل وطنه، لقد تقلبت الحياة بالزبيري، من شاعر، إلى صحفي، إلى وزير، إلى مهاجر ولاجئ سياسي، إلى زعيم سياسي، وهو في كل أطوار حياته لا يحركه سوى الوطن ومصلحته ومستقبله، مترفعاً عن الأطماع والمصالح الشخصية بشهادة كل من عرفه من أصدقائه وأعدائه، لقد كان البعض يركب موجة النضال لتحقيق مكاسب شخصية، وقد أثرى البعض من هذا النضال وباسم الوطن المنكوب؛ لكن الزبيري لم يكن من هذا الصنف، لقد عاش زاهداً عن ما في أيدي الناس.
يقول اللواء محمد علي الأكوع وهو يصف الزبيري «لقد سعدت بصحبته بمصر لعشر سنوات، وكان شديد الزهد إلى حد أنه كان ينفق مرتبه على الآخرين من اليمنيين، فيضطر لبيع الراديو أو الساعة، وإن اضطر فلا يطلب إلا خمسين جنيهاً من الشيخ يحيى حسين الشرفي من السودان أو من الحاج محمد لطف الرحبي، ولما عرض عليه الرحبي مبلغ مليون جنيه إسترليني كعون للحركة الوطنية وله إذا احتاج لأن الرحبي لم يكن له أولاد رفض ذلك الزبيري"(2).
وبعد فشل ثورة 1948م ونجاة الزبيري بأعجوبة، إذ كان ضمن وفد من الحكومة الدستورية إلى السعودية التي ماطل ملكها عبدالعزيز آل سعود في استقبال الوفد اليمني وتلبية طلبه في استعجال وفد الجامعة العربية إلى صنعاء، حتى تمكن أحمد حميد الدين من دخول صنعاء وإسقاط الحكومة الدستورية، وقتل الأحرار بدون محاكمة.

لجأ الزبيري ورفيقه الورتلاني إلى عدن، ومن هناك اتجه الزبيري إلى باكستان حيث عاش في "كوخ" صغير وكان يبيع "الأقفال" ليحصل على جنيهات قليلة يشتري بها من الأفران خبراً رخيصاً (بواقي الخبز الراجع للمخبز)، وعندما علم به الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري سفير سوريا آنذاك لدى باكستان، وحاول أن يساعده ويخرجه من مأساته رفض بشدة لأنه لم يكن يعيش مأساة شخصية وإنما مأساة وطنه، وفي ذلك يقول:
آه ويح الغريب ماذا يقاسي
من عذاب النوى وماذا يعاني!
كشفت لي في غربتي سوأة الد
نيا ولاحت هناتها لعياني
كلما نلت لذةً أنذرتني
فتلفتُ خيفةً من زماني
وإذا رمت بسمة لاح مرأى
وطني فاستفزني ونهاني
ليس في الأرض للغريب سوى الد
مع ولا في السماء غير الأماني
وبعد قيام الثورة المصرية عام 1952م عاد إلى مصر وواصل نضاله من هناك مع رفاقه من أجل الوطن بشطريه، حيث قال الزبيري رحمه الله:
شطرنا يستغيث من غاصب فظ
وشطر من مستبد عنيد

أُدرك أن هذا قد يغضب متطرفي "القضية الجنوبية" الذين يريدون أن ينكروا التاريخ وينتقموا من الجغرافيا، ولكنهم لم ولن يستطيعوا، فالحركة الوطنية اليمنية كانت وحدوية المنشأ والنضال.
لقد ظل الوطن هو الذي يتحرك الزبيري لأجله، وقد صدق حين قال:
وطني أنت نفحة الله ما تبرح
لاعن قلبي ولاعن لساني

صور الله منك طينة قلبي
وبرى من شذاك روح بياني

شعلة القلب لو أذيعت لقالوا
مر عبر الأثير نصل يماني!

وفي الأخير توج الزبيري حياته المتنوعة بالنضال والجهاد، بالشهادة التي تمناها من أجل تحرير وطنه من قبضة الاستبداد الإمامي الكهنوني:
بحثت عن هبة احبوك يا وطني
فلم أجد لك الا قلبي الدامي!

وكما يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح فإن «وقفة عابرة إزاء هذا البيت تفسر كيف لم يكن شعر الزبيري صورة لحياته فحسب، بل وحدساً صادقاً بمستقبله كذلك»!

ثانياً: إيمانه بالشعب:
يعلق الدكتور عبدا لعزيز المقالح على مقولة والت وايتمان: "أن دليل شاعرية الشاعر أن تتشبع بلاده بحبه تشبعه بحبها" فيقول "وأجزم أن هذا الوصف لا يصدق على شاعر في اليمن -ولا حتى في الوطن العربي بأسره- كما يصدق على شاعرنا الشهيد محمد محمود الزبيري، فقد ارتبطت حياة هذا الشاعر المناضل بحياة شعبه المناضل، وكونا خلال ثلاثين عاماً (من أواسط الثلاثينات إلى أواسط الستينات) توأماً روحياً وعاطفياً يتبادل الحب والتضحية"(3).

إن الكثير من الشخصيات والحركات والأحزاب كثيرا ما تتغنى بالشعب وباسم الشعب؛ ولكن ما إن تفشل هذا الشخصيات أو الأحزاب في إقناع الشعب في الوقوف معها حتى نجدها تتهمه بالغوغاء والدهماء واتباع كل ناعق "كما يصفه بعض الإسلاميين"، أو متخلف ورجعي وجاهل يضحك عليه الدراويش باسم الجنة والنار!! "كما يصفه بعض أدعياء الحداثة والعلمانية"، لكن شهيدنا لم يتزعزع إيمانه بالشعب يوماً.

لقد هرب مع زميلة النعمان إلى عدن ولحقهما بعض الشخصيات وهناك أسسوا حزب الأحرار عام 1944م، فبعث الإمام يحيى حميد الدين ولى عهده "احمد" إلى عدن محاولاً استمالتهم وإغراءهم بالأموال لكي يتركوا الشعب وشأنه، ولكن الزبيري يأبى ذلك قائلا:

منحونا الدنيا لكي ننبذ الشعب
ونغضي عن ظلمهم فأبينا
لو يبيعون ألف تاج باسم
لفقير من شعبنا لأبينا
وقد رفض منطق المهادنين للإمامة لأنها في نظرهم أقوى والشعب ضعيف وبالتالي فإن التغيير صعب وأنه يمكن استثارة عطف الإمام لا غضبه، حيث يقول:
عجبا للجبان يستمنح الظلم
أمانا والشعب أبقى وأخلد!
يتوقى إغضاب محتضر فان
وينسى شعبا صحى وتمرد!

2- بعد مأساة 1948م
بعد مقتل الإمام يحيى وقيام الحكومة الدستورية استطاع ولي عهده أحمد حميد الدين أن يؤلب القبائل اليمنية ضد من قاموا بالثورة من أجلهم، فالتفوا حوله لينتقموا من أعداء الله وأعداء آل البيت! أصحاب الدستور الذين أرادوا أن يجعلوه بدلاً عن القران، كما أشاعت الدعاية الأمامية، وقد دخلوا صنعاء التي أباحها لهم الإمام أحمد وفعلوا بها الأفاعيل، وقام الإمام احمد بوحشية بالغة بإعدام العشرات من خيرة أبناء اليمن ونجا الزبيري وخرج إلى خارج اليمن، ولكنه لم ييأس ولم يندم على ما قام به من أجل هؤلاء:
حسبي من الأيام إني عشت لا
أحتمل الضيم ولا استعبدُ

ولا يموت ميت إن كان في
ذكراه ما يبقى وما يخلدُ

نحن هدينا الناس من جهالة
وما علينا أنهم لم يهتدواُ!

نحن زرعنا وسقينا زرعناَ
دماً ويأتي بعدنا من يحصدُ

إن هذا الموقف لا نجده إلا مع أصحاب المبادئ والرسالات الكبرى من النبيين والصديقين، ومن سار على نهجهم كالزبيري، لقد حاربت قريش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته وشجوا وجهه الشريف ومع ذلك قال وهو يمسح الدم عن وجهه "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، وعندما عرض عليه جبريل أن يطبق على أهل الطائف الأخشبين عندما رفضوا النبي ورجموه قال: "لا.. عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله"!

إن صاحب المشروع يهمه أن ينجح المشروع ولو بعد حياته لأنه لا يسعى لمصالح مادية ولهذا يريد أن ينجح في عهده وإلا ليذهب إلى الجحيم، لقد يأس البعض بعد فشل ثورة 1948م من الشعب الذي يقف مع جلاده لكن الزبيري يرد عليهم:
وآمنت بالشعب حتى وقد
رآه الورى جثة هامدة!

تداعى حواليه أعداؤه
ليقتسموه على المائدة!

فهذا بشلو شهيد يعيث
وذاك يساوم في الفائدة

وذا لليتامى يهز السياط
لتعبث بالجثث الراقدة

وكم من وليد حذار الحمام
رأى نفسه صافعا والده

نعم لقد وقف الشعب مع جلاده ورفض حبل الخلاص الذي حاول الثوار أن يمدوه له، بل وسعى لقطعه، وقطع رقابهم أيضا، ومع ذلك يظل الزبيري على قناعاته التي لا تتزعزع بهذا الشعب!
وآمنت بالشعب يوم جثا
أمام الطغاة على ركبتيه

ويوم انبرى في ذهول الهوان
يرمي مكاسبه من يديه

ويوم مددنا شعاع الصباح
له، فانزوى وحمى مقلتيه!

ويوم عصرنا رقاب الطغاة
وسقناهم كالجواري إليه

فأطلقهم من هوان الأسار
ذئابا علينا ضلالا عليه!

وهكذا يصل إيمان الشهيد الزبيري بالشعب "إلى درجة قد يراها البعض لونا من الإشراك، وبخاصة ذلك النوع الجاهل من أدعياء الدين، الذين يتسقطون أخطاء الشعراء، ويتلمسون لهم المعايب في بيت من قصيدة أو في شطر من بيت، يقول الزبيري في تقديس الشعب وفي إكبار مكانته(4):
هو الشعب حق مشيئاته
صواب ورشد خطيئاته!

له نبضنا وأحاسيسنا
فما نحن إلا نباتاته!

له دمنا وله دمعنا
يغذى عليه ويقتاته!

ويقصف عمر الحمام الوديع
لتحيا وتكبر جيناته

وتقتلع الشر خبراته
وتبتلع الكل غاياته!

وهو موقف لا يصل إلى ذراه كل أدعياء الحداثة والديمقراطية ومناصري الشعب كما يزعمون!

الارتقاء بالشعب
لم يكن الزبيري يتملق الشعب أو يمدح سلبيته لكنه كان يعلم أن ظروفا صنعها الطغيان هي وراء تخاذل الشعب واستسلامه، وأن هذا الاستسلام لا يمكن أن يستمر فوراءه روح وتاريخ مختبئ في وجدان الشعب، ووعيه بحاجة إلى من يكشف عنه ويحفزه، ورغم كل المآسي التي لحقت باليمن ظل الزبيري على قناعته أن الشعب سيثور يوما ولن يبالي بطغاته مهما حاولوا أن يحيطوا أنفسهم بهالات القداسة،
ذلك أن الرغبة في الثورة على الطغاة رغبة إنسانية وطموح بشري نحو العدل والحرية والمساواة، لهذا نجد الزبيري وفي ظلمة النكسات التي مني بها الثوار بعد فشل ثورة 1948م وانقلاب 1955م وموقف الشعب السلبي منهما يؤكد أن:
مرجل الشعب لا يبالي إذا ثار
بأقطابه ولا زعمائه
ومصير الشعوب كالحق لا يبنيه
بان بوهمه وادعائه

والملايين لا تعيش على الشك
ولا تستقر فوق هبائه

تتلقى شذى السماء فتهتاج
اهتياج الحريق في دهمائه

وتذيب القلوب من لهب الروح
وتمحو الشقا عن أشقيائه

فإذا بالسجون تهوي وبالسجان
يبغي الفكاك من سجانه

كل حق لنا سنأخذه قهرا
وتنبو عن سؤله واجترائه

سوف نبني شعبا طهورا ونسترخص
فيه أرواحنا لفدائه!

يعلق د. عبدالعزيز المقالح على هذه القصيدة مستذكرا كيف كانوا –وهم طلاب- يقرأونها قبل الثورة بسنوات فيقول "ما أقدر الزبيري على الاكتشاف والرؤيا بالإضافة إلى قدرته على تعظيم الشعب، لقد كنا قبل ربع قرن -ونحن على مقاعد الدرس- نقرأ هذه الأبيات عن مرجل الشعب الذي لا يبالي إذا ثار بالأقطاب أو الزعماء، وعن الملايين التي لا تستطيع أن تعيش على الشك والوهم، وعن السجون التي تهوي، وعن السجان الذي يبغي الفكاك من أيدي السجناء، ولم تمر سوى سنوات معدودة حتى رأينا السجون تهوي، ورأينا السجان يطلب الرحمة من المساجين، لقد أدرك الزبيري شأنه شأن الشعراء العظماء الملهمين أن الكلمة في النهاية للشعب، وأنه رغم المظاهر التي يحيط بها الطغيان نفسه يتمطى ليقتلع الطغيان من جذوره، ويرمي به إلى زبالة التاريخ"(5).

البقاء مع الشعب حتى النهاية
لم يفقد الزبيري ثقته بالشعب أو يتخلى عنه حتى بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، فقد رفض أن يعود إلى كرسي الوزارة ويهنأ بالعيش في صنعاء موكلا مهمة القضاء على أعداء الثورة للجيش المصري. لقد رأى أن القبائل اليمنية التي لا تزال تحارب الجمهورية إنما هي واقعة تحت تأثير الدعاية الإمامية، وقد عز عليه أن يذهب الأئمة الذين ظلوا يحتقرون هذه القبائل، إلى مناطقها في الجبال ويعيشون معها ويمارسون عليها التضليل، في حين يقف الثوار الذين هم أقرب إلى هؤلاء في مكاتبهم، لهذا خرج إليهم بصدره العاري متأكداً" من أنهم -كزملائهم ممن وقف مع الثورة- سيقفون معها، وقد أدرك الأئمة خطره عليهم فأصابته طلقة غادرة منهم ليستشهد وهو في طريقه للالتحام بالشعب الذي ضحى وناضل واستشهد من أجله!
*الهوامش
(1) هذا الوصف للدكتور عبدالعزيز المقالح في الذكرى العاشرة لاستشهاد الزبيري وضمنه كتابه "الزبيري" ضمير اليمن الثقافي والوطني "ط3 1986م، ص43.
(2) اللواء محمد علي الأكوع "شخصية الإمام أحمد حميد الدين ورجالات عهده، الطبعة الأولى 2011م، ص140.
(3) د. عبدالعزيز المقالح، المرجع السابق، ص42.
(4) نفس المرجع، ص77.
(5) المرجع السابق، ص82.
* نشرت في صحيفة الأهالي ابريل 2013:

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى