من ذاكرة التنوير اليمنية (2): حسن الدعيس - الجزء الثاني
د. لمياء الكندي تكتب من ذاكرة التنوير اليمنية (2): حسن الدعيس - الجزء الثاني
انتقد الشهيد حسن الدعيس مقولة محافظة الإمام يحيى على استقلال اليمن واعتبارها مقاما للإشادة بالنظام المتخلف فعدم دخول اليمن ضمن الوصاية الاستعمارية الغربية التي شهدها العالم إبان نهاية الحرب العالمية الأولى ترجع إلى كون هذه الدول قد استكفت واستغنت باليمن عندما أدركت أن دمارها وأسرها يتحقق بيد أهلها. ذاكرا أن التفكك والتناحر والاختلاف واليأس والفوضى والجهل أدوات صنعها النظام وهي التي أحدثت له ولنا هذه الهزيمة.
كما انتقد غياب الروح الوطنية والإحساس بالخطر لدى عناصر الجيش المتوكلي واعتبره سببا من أسباب الهزيمة فانعدام الشعور الذات بالولاء للوطن وغياب الروح القتالية كانت سببا في الهزيمة فالجيش المعدم يحارب عناصره لسببين هما "أنهم مرغمون على الوصول إلى القتال، والآخر يتعلق بمعيشتهم".
ويرى الدكتور عبدالعزيز المقالح أن ما قام به الدعيس من نقد وتأصيل للسبب الفعلي للهزيمة يرجع إلى الدور الطليعي الذي ينبغي أن يفعله كل مفكر تتعرض بلاده للاقتسام في ظل نظام حكم عاجز وفاشل، وفي ظروف شعب يرى أن الدفاع عن البلاد ما هو إلا دفاع عن النظام المرفوض القائم على الإكراه والسيطرة والبطش.
لقد قدم الدعيس في حواريته هذه أو ملحمته الوطنية الشهيرة إن جاز لنا التعبير مجموعة من التساؤلات المثيرة والباحثة في بواطن العلل وشرح أسبابها وأثارها وخطط تجاوزها والعمل على الارتفاع بعقول الناس ومعيشتهم.
تختصر لنا الشهادات المكتوبة والمنشورة لرجال التنوير التي دونت في العديد من المذكرات السياسية دور الدعيس وموقعه كحكيم وفيلسوف وثائر وطني وقومي يستنطق الحجة ويستعرضها بالحجة وبالدليل فكان مطالع وباحث نابغ ناقدا للموروث المزيف حول العديد من القضايا فتمكن من كسر حلقة الجمود الفكرية المحيطة باليمنيين وبعث فيهم روح التساؤل والاجتهاد والتدبر والنقد السياسي والمعرفي والديني..
فلم يهمل جانبا على جانب ولم يستثن في نقاشاته ومرافعاته الفكرية أي من القضايا مع معرفته بخطورة هذه الأفكار ومواجهتها أمام مجتمع وسلطة مغلقة على ذاتها عقائديا وذاتيا فكانت السلطات تهابه وتمقته وتحقد عليه في آن واحد.
وعندما أعيى الدعيس السلطات عن مواجهته بالحجة وجهت إليه تهمة الكفر والزندقة وإنكار البعث وهي قضية لجأ إليها عندما فشل في استيعاب فكره واستشعار خطره وتأثيره على النخب السياسية الأخرى التي كانت ما تزال في موقفها المهادن ليحيى بن حميد الدين. أمام هذه التهم واجه الدعيس محاكمة تهدف إلى تطويقه بما ادعت عليه من تهم فكرية ودينية تمكن من الرد عليها وإبطال هذه الدعوى لصالحه.
لقد ترك الدعيس أثرا في قيادة الحركة الوطنية فساهم في انتشارها وكسب القضية الأخلاقية والوطنية والمسؤولية الدينية لصالحهم فكان أن اشتدت عليهم وطأة حكم الإمام يحيى لتقوم بشن المزيد من حملات السجن والاعتقالات في صفوف الحركة فسيق مع عدد من الأحرار إلى سجون الإمامة التي فتحت أبوابها في صنعاء وحجة وتعز وإب 1944م، أمضى الدعيس في سجن حجة أربع سنوات حول فيها السجن مع رفاقه إلى مدرسة ومؤتمر وقاعدة للتنوير وتبادل المعارف وحشد الطاقات الوطنية ضد الإمام.
واعتبر الدعيس أن النظام الإمامي يسير صوب فنائه الذي لخصه من الواقع والذي يقوم على:
كثرة المتنافسين على الملك.
تعدد العصبيات للعشائر والقبائل.
قلة المال لدفع تلك النزاعات.
فيرى أن إزالة التنافس على الملك والقضاء على العصبيات ضمان لبقاء الدولة واستمرارية تطورها المادي والمعنوي.
ودعا الدعيس إلى ضرورة قيام تجارة منظمة لا مبعثرة وهي التي تقوم على مبدأ الاقتصاد والشركات والتبادل في الصادرات والواردات، واستمر في نقد السياسة الاقتصادية للإمام وعدم أخذه بالرأي لأهل الاختصاص ومحاكاة أشكال النظم الاقتصادية الحديثة.
لقد تنبه الدعيس لكل مكامن الخلل القائمة محاولا نقدها وتقديم الحلول حولها مستعرضا ذلك في حوارية شكلت برنامجا متكاملا للإصلاح فكان نقده شاملا لأوضاع الجيش والاقتصاد والتعليم والإدارة العامة في البلاد فنجده في ذلك ينتقد عدم وجود هيئات شورى في كل المراكز الحكومية وغياب المساءلة القانونية للقائمين عليها.
كان الدعيس يحمل في تصوره هذا مشروع الدولة الحديثة التي مازلنا نناضل حتى اليوم لتحقيقها بأن تكون الوظيفة العامة تكليفا ملزما يوجب المحاسبة على الإخفاق وأن تخضع لسلطات القانون.
لقد أدرك الدعيس قبل الجميع معضلة اليمنيين الحقيقية وأن إشكاليتهم هي مع غياب الوعي الذي يتيح مساحة واسعة للطغيان في الانفراد بالشعوب لذا كان مناهضا للجهل وحارب جهلة السلطة وعلماءها المدجنين بأفكار رجعية لا تعود على اليمن باي نفع، لذا كان من أوائل من أسهم في كتابة مشروع الميثاق الوطني المقدس تحضيرا لثورة 1948.
استمر الدعيس في موقفه من الإمامة كنظام سياسي حاكم وناهض حكم الإمام يحيى واستمر في مناهضته وقد دفع ثمن هذه المعارضة التي استدعت احمد بن حميد الدين إلى هدم منازله ومنازل أقربائه واعتقال ابنه الأكبر وموت أحد أبنائه بينما كان رهينة لدى الإمام في ذمار، واستمر الضغط عليه من أجل إرغامه على الاستسلام بينما كان متواجدا في عدن قبلة الأحرار الوطنية الأولى التي لجأ إليها الأحرار هربا من بطش الإمامة وإرهابها.
لم يتمكن الدعيس الذي قضى حياته مناضلا ومقاوما من أن يكمل حياته النضالية بعيدا عن أهله وعشيرته، خاصة وقد فتك به المرض والأحداث والضغوط بالتهجير والسجن والإفقار لأهله وأولاده، فطلب من الإمام احمد السماح له بالعودة إلى قريته وأن يرفع يد الشر عن أهله، فوافق الإمام على طلبه موافقة الغادر اللئيم ليأذن له بالعودة ويستقبله أمير تعز محمد بن أحمد باشا ويدعوه في مأدبة غداء تم أثناءها دس السم له،
وبمجرد وصول الشيخ حسن إلى مسقط رأسه في منزله "عزلة الدعيس – بعدان"، زادت عنده أعراض التسمم وتجلت بالإسهال الشديد والقيء والآلام في البطن. وظل على حاله في ظل غياب أي عناية صحية حتى عملت فيه السموم عملها، حتى أنه لم يستطع مقابلة الناس الذين قدموا للسلام عليه بعد عودته من عدن، وكان يردد على سامعيه وهو يعاني من سكرات الموت "لقد عملها الطاغية ونفذها عامل تعز" ويرددها مراراً، وفارق الحياة بفعل السم واستشهد مغدوراً بعد أسبوع تماماً من عودته من مدينة تعز، وذلك يوم الأحد 5 شعبان عام 1367 هجرية الموافق 12-6-1948م رحمه الله عن عمر ناهز 76 عاما.
لقد ظن الإمام يحيى ومن بعده أحمد أن قتل المعارضين لحكمهم وسجنهم سيثني الحركة الوطنية عن إكمال مسار الثورة والتحرر ولكن موت هذه الزعامات الوطنية لم يزد المشروع الوطني وقادة التنوير والثورة الا إصرارا على المقاومة والمضي في النهج الثوري كونه الطريق الوحيد لتخليص اليمن من معاناتها.
المصادر:
المقالح، عبدالعزيز: حكيم الثورة حسن الدعيس
السنيدار، العزي: على طريق الحرية
ابو لحوم، سنان: اليمن حقائق ووثائق عشتها
عناوين ذات صلة: