وصاب.. إنجاز يناطح السحاب
أكرم صالح المطحني يكتب: وصاب.. إنجاز يناطح السحاب
قبل أكثر من 30 عاما في إحدى قرى وصاب كانت ولادتي العسيرة وقدومي الذي لم يكن سهلا وكأني لم أشأ الخروج لهذا العالم.
استمر المخاض لأكثر من يوم وليلة.. ليقرروا قبل غروب الشمس أن يأخذوا أمي إلى مدينة الحديدة فلا مستشفى ولا حتى مركز صحي ولا أبسط مقومات الحياة الكريمة في بلادنا الجبلية النائية.
حملوا أمي على نعش ومضوا في عتمة الليل يسيرون في سفوح الجبال ويتسلقون حوافها في مشهد أسطوري خالد لكنه روتيني ومكرر لكل أبناء المنطقة، وبعد ساعتين وصلوا للوجهة التي هي عبارة عن أقرب فرزة تتواجد فيها سيارة لتأخذ أمي للحديدة.
تنطلق السيارة في طريق وعرة جدا تتأرجح فيها السيارة يمينا ويسارا وأي غلطة ستهوي بنا جميعا أسفل الوادي. طريق صعب جدا ومنهك فكيف به لإمرأة في مخاضها.. أخبرتني جدتي رحمها الله التي كانت ترافق أمي حينها أنها وصلت لقناعة أني لن أخرج للحياة وسآخذ أمي معي كحتمية ومصير لا مفر منه.
وصلنا للحديدة بحمد الله لتبدأ معاناة أخرى لولادتي التي لم تنتهِ إلا بعملية قيصرية.
هذا مثال شخصي لمعاناة أبناء وصاب العالي التي بسبب هذا الواقع هاجر أبناؤها إلى كل شبر في اليمن، وللغربة في الخليج بحثاً عن أرزاقهم بعيداً عن السلاح وبعيدا من انتقام المركز منهم بعد حروب الجبهة الوطنية التي كانوا أحد آخر معاقلها في الشمال.. لكن المركز في صنعاء عاد وانتقم منهم وهمشهم تماما من أي مشاريع بل أن وصاب هي المنطقة الوحيدة التي لم يزرها علي عبدالله صالح.
كانت الهجرة والاغتراب هي الحل الوحيد لأبناء المنطقة ورغم سنوات الغربة ظلوا يحنون لأرضهم ورغم ما للغربة من سلبيات كبيرة على حياة الناس، إلا أنها أحدثت تغييرات بالغة في ثقافة وسلوك الوصابي حيث جعلته يعيش ثقافة مدنية عالية يعوزها توفر الخدمات.
اغترب الوصابي وهاجر لكنه لم يكن مجرد عامل في غربته بل كان "المغامر الجبلي" الذي يخوض غمار التجارة ويطوعها كما طوع الجبال وكون رؤوس الأموال وأصبح رجل أعمال وتاجرا يشار له بالبنان
وبقي حلم تغيير واقع بلده لا يفارقه فمهما اغترب فهو معجون بوصاب أرضاً وانسانا.
يقال "لا تخف من المسافة بين الحلم والواقع فإن قدرت على الحلم فأنت قادر على تحقيقه" مقولة من كتاب أعجبتني ولعلي اليوم استحضرها ولي في هذا سبب وحجة تتجلى ببساطة في صورة من الصور الجميلة ولوحة من اللوحات البديعة، في واحدة من صور التعاون المجتمعي المثمر ارتسمت على أرض الواقع في وصاب تحديدا مخلاف القائمة وستحمل اللوحة عنوانا بارزا وبهيا وناصعا آخر وهو المشروع التعاوني الأهلي الأكبر في اليمن "طريق يحضر جبل مطحن خميس مطلق".
هذا الطريق الذي يعد مشروعا وصابيا خالصا وبمال وصابي وبأرض وسواعد وصابية وبتكلفة تقديرية تزيد عن 9 مليار ريال يمني كلها من أبناء المنطقة حيث تم البدء في جمع الأموال من أبناء المنطقة من التجار والمغتربين وقاطني المنطقة، لشق طريق يمتد نحو 52 كيلومترا، يبدأ من منطقة حوف الحنش- المستقبل- باتجاه جبل مطحن، ومن هناك يمتد نحو خميس مطلق، وفي كلا الطريقين يلتم شمل المئات من القرى المتناثرة في الجبال. بمافيه قريتي الأكثر وعورة واحتياجا للمشروع "البيادع".
ومنذ عامين تواصل معدات الشق طريقها متحديةً الجبال الشاهقة والمنحدرات الخطرة لتفتح للسكان آفاقا جديدة، متصلة بالتنمية وتحسين أوضاع السكان، وتخفف عنهم جزءا كبيرا من المعاناة اليومية.
يخدم الطريق أكثر من 500 ألف نسمة، أضف إلى ذلك ربطاً شبكياً عبر الطرقات لعدة محافظات، وهي “إب، الحديدة، ذمار، تعز”.
يختصر الطريق بين من يأتي من المحافظات الجنوبية ويمر بعدة محافظات الحديدة وإب من جهة وذمار وصنعاء.
لوحة من أجمل وأرقى لوحات التعاون الإنساني بشموخ وعزة واكتفاء ذاتي. حوّل الوصابيون جبالهم الشاهقة القاسية وحيودها إلى شوارع وسدود وأضافوا جمالا إلى جمالها المنقطع النظير. أعتقد أن كل فرد وصابي قد وضع بصمة إيجابية في هذه اللوحة الجميلة طفلا ورجلا وامرأة.
خالص الشكر والتقدير والاحترام لكل أبناء المنطقة كافة دون تحديد في الخارج والداخل من ساهم بألف ومن ساهم بعشرات الملايين ومن ضحى بأرضه ومن ساهم بيده. شكرا للمرأة الوصابية التي ساهمت برفد العمال بالغذاء والطعام.
أختم بماقاله الراحل البردوني حين حاول اختزال الشخصية اليمنية عبر التاريخ في قصيدته "جواب العصور" التي كانت في ديوان شعري بنفس العنوان، فاختار شخصية "زيد الوصابي" للقيام بهذه المهمة، لأن وصاب تمثل خلاصة اليمني الفلاح المرتبط بالأرض، ومهما رحل يعود لأرضه وهذا كان ديدن اليمنيين في عهود الازدهار الحضاري، ومطلع القصيدة:
ما الذي تبتاع يا زيد الوصابي
هل هنا سوق سوى هذا المرابي؟
وختامها:
طفت عصراً بعد عصر وأنا
أنت، ما زلت أنا ذاك الوصابي
- الصورة من أحد جبال وصاب العالي
عناوين ذات صلة: