اهتمامات

صعدة ولغة الهوى

سلطان مشعل يكتب حول: صعدة ولغة الهوى


آح.. يا ذي رماني وخلاني أهيم
جعل له برق يحرق فؤاده

جعل له قرن جيترى وطعنة من قديم
ميْد لا عاد يلحق مراده

هذه مقطوعة شعبية تُردد بأرياف صعدة. نتناولها على عجالة من زاوية أدبية نقدا وتحليلا.

المطلع آح.. وهي أداة تدل على الألم والوجع الشديدين. ومما زاد حدة التحسر هنا هو كون ذلك الحبيب هو مصدر الألم. ولكن ليس هذا فحسب بل إن هذا الحبيب بعد تسديده رماياته إلى قلب هذا المحب لاذ بالفرار وأسرع بالمغادرة، وترك هذا المحب ضحية لتلك الرمايات القاتلة والقاتلة فعلا كونها أصابت القلب، ولم تصب أي موضع غيره.

آح.. يطلقها وهو يدرك أن الموت قرينه. بل ويدرك أن الحادثة ستقيد ضد مجهول كونه الوحيد الذي يعرف الجاني وستدفن الحقيقة معه بعد وقت قصير من الهيام الذي أصابه نتيجة تلك الرماية.

والهيام أعلى درجات الحب. والمصاب به ليس أمامه إلا الموت، أو الرحيل بجسده دون مشاعر في الجبال والوديان إلى أن يأتيه الموت، أو يأتى ذلك الجاني لينقذه ويخلصه -وهذا مستبعد- فدعا عليه بالبرق أن يحرق فؤاده أي قلبه من باب "الجزاء من جنس العمل".

ثم أضاف عذابا آخر وهو قرن أي خزنة رصاص، ولكن ليس كأي رصاص! إنه رصاص الجيثري وقد سماه، مع أنه كان يكفيه طلقة واحدة إن أبقى البرق فيه عرقا ينبض. (مع استبعاد ذلك) يقول آخر.

ثم بعد هذا يريد له طعنة جنبية.. ولكن ليست أي جنبية!! إنه يقصد جنبية من النوع القديم الذي يفتك ويقتل بأقل جهد. بل البعض يحكي أن هذا النوع من الجنابي بمجرد رائحة الدم يتوغل في الجسد هذا النوع من السلاح من تلقاء نفسه.

يختم بسبب لتلك العقوبة التي تمنى إنزالها بقاتله ألا وهي (لجل، أو مَيْد لا عاد يلحق مراده).

هنا يُتهَم الجاني بأن له حبيبا ثانيا كان يهرع إليه عندما أطلق تلك النظرات القاتلة ولاذ بالفرار.

في مثل هذا الموطن الشاعر الفضول (عبدالله عبدالوهاب نعمان) رحمه الله، ما زاد على أن قال (وداعتك وا حافظ الودايع)، في قصيدته "بكّر غبش".

وأما الآخر فقال (يا من سلبني فؤادي لا جعل له خير). وبين اليأس والألم يطلق تلك الدعوة الممعنة في التنكيل، والتي يرى أن إنصافه من ذلك الحبيب الجاني لن يتأتى ويتحقق العدل إلا بتلك التشكيلة من العذاب وبتلك الأدوات المتعددة للقتل لتطيب نفس هذا الضحية ويموت على ذلك الأمل من الإنصاف.

إنه يدعو هنا غير آبه لأحد لأنه يرى أنه مظلوم فعلا وأنه ضحية لتلك العيون التي صوبت ألحاظها باتجاه قلبه. وقد قال ذلك العربي على لسان العرب:

ولها ولا ذنب لها
لحظٌ كأطراف الرماح

في القلب يجرح دائما
القلب مجروح النواحي

أما العربي الآخر فقال:

إن العيون التي في طرفها حوَرٌ
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

ولغة العيون هي أخطر اللغات على الإطلاق وأصدقها. إنها القلوب المعنية بهذا. قال الشاعر حسين أبو بكر المحضار رحمه الله في قصيدته العنبية بديوانه المسمى (دموع العشاق):

رمش عينه بريد المحبة
بين قلبي وقلبه
باقي الناس ما با يفهمونه

نعم، لا يفهمه الآخرون ففهمه مقتصر على (المعنيين).

أما أحمد شوقي فقد أطلق عليها (لغة الهوى) في رائعته "جارة الوادي" يقول:

وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيناي في لغة الهوى عيناكِ

وهذا دليل على تحضر وتمدن وذوقيات عالية في ذلك المجتمع ومنذ وقت مبكر.

إنها لغة الهوى.. تلك اللغة التي جمعت ولم تفرق، وحدت ولم تشتت.. في حين مجتمعات أخرى كانت المرأة عرضة للعدو عليها بطريقة الوحوش ولغتها فالفن هو انعكاس لعادات المجتمعات وتقاليدها، وهو الصورة العاكسة لمفردات وجزئيات الحياة اليومية في أي مجتمع.

فهذه المقطوعة الشعبية الصعدية مليئة بالصور والخيال وتدل على ذائقة قوية وتحضر كبير في هذا المجتمع، والدليل ذلك السلاح اللطيف والحضارى والناعم الذي يستخدم بين الرجل ومن يحب من النساء فهو أداة راقية ومتقدمة ومحتشمة، لم يظهر هنا سلوك مخل أو ماجن البتة، بل هو معمول به في أرقى المجتمعات خلقا، وخاصة في العصور الإسلامية المختلفة.

لكن يبقى السؤال حول كمية العنف الهائلة التي صبها المجني عليه على الجاني من برق ورصاص وطعن جنبية قديمة. هل لذلك علاقة بما أسفرت عنه الأيام وأفرزته لنا الأحداث الأخيرة التي عشناها ونعيشها؟

هل هذا لون صعدي خاص تنفرد به صعدة عن غيرها!! لأنه في غير صعدة يكتفي المصاب بأن يموت متمنيا لمن أصابه السلامة وطول العمر.

- الصورة من مديرية سحار صعدة

عناوين قد تهمك:

 

زر الذهاب إلى الأعلى