آراء

بين الأبوة الدينية والأبوة الجينية

د. محمد جميح يكتب: بين الأبوة الدينية والأبوة الجينية


تخرج القراءة في الآيات القرآنية المتعلقة بالعلاقات الأسرية بنتيجة لا أعتقد أن عليها خلافًا، وهي أن القرآن الكريم أعاد شحن العلاقات الأسرية والمجتمعية بمدلولاته الخاصة.

فالقرآن أعاد تعريف مصطلحات «الأبوة والبنوة» على أسس قيمية/‏دينية لا عرقية/‏جينية، أو كما يحلو للبعض التعبير: أقام القرآن العلاقات الدينية مقام العلاقات الطينية، لإعادة إنتاج شكل من العلاقات يقدم المضامين القيمية على الأشكال العصبوية للعلاقات الإنسانية، وذلك في محاولة للارتقاء بالتفكير القبلي عند عرب الجزيرة إلى آفاق إنسانية رحبة، هيأت فيما بعد للانتقال الحضاري للعرب من طور القبيلة والمشيخة والعرف إلى طور الشعب والدولة والقانون، مع بعض الانتكاسات التي رافقت عمليات الانتقال الحضاري.

وقد كانت الإشارات القرآنية لافتة في هذا الخصوص، فعلى سبيل المثال يؤكد النص القرآني على أن مفهوم علاقة الأبوَّة بين الأب والابن وكذا مفهوم علاقة البنوَّة بين الابن والأب، ينبغي أن يكون مفهومًا دينيًا لا جينيًا في المقام الأول.

ومن الأمثلة التي يمكن إيرادها في هذا الخصوص ما جاء في الآية (78-الحج): «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل»، حيث أشارت الآية بوضوح إلى أن النبي إبراهيم عليه السلام هو أبو المسلمين جميعًا، مع العلم أن المسلمين من أعراق شتى، وأن أكثرهم لا يمت بصلة جينية إلى إبراهيم عليه السلام، في إشارة إلى أن علاقة الأبوة المقصودة في النص الكريم هي علاقة دينية لا جينية، وأن القرآن يقدم تلك العلاقة على العلاقة الجينية التقليدية التي تقدمها المجتمعات العصبوية على ما سواها من علاقات.

وبالمقابل جاء في الآيتين (45، 46-هود) في الحكاية عن النبي نوح عليه السلام «قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح...»، حيث تعيد الآيتان إنتاج علاقات قيمية-مجتمعية مختلفة عن العلاقات العصبوية القبلية السائدة لدى المجتمعات التي تقدم روابط الدم على روابط القيم، وتقيم الاعتبار للجين على حساب الدين إن جاز التعبير.

وفي هذا السياق يمكن اعتبار محاولات بعض شرائح المسلمين تقديس «الأبوة النبوية الجينية» على حساب «الأبوة النبوية الدينية» ضربًا من تسييس الدين والنبي لأغراض سياسية واقتصادية لا علاقة لها لا بالدين ولا بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهو الأمر الذي تم الاشتغال عليه لقرون طويلة، من أجل التأسيس لفكرة أن الحق في الإمامة السياسية والسدانة الدينية والجباية الاقتصادية محصور على المنتمين جينيًا لـ«أهل البيت»، وهو المصطلح الذي تم نقله من سياقاته الدينية والأسرية البسيطة إلى سياقات ومفاهيم سياسية وسلالية معقدة، أسست لفكرة «الحق الإلهي»، وهي الفكرة التي تسربت للحقل المعرفي الإسلامي من ديانات أخرى كانت تنظر إلى الحكام على اعتبار أنهم آلهة، أو أنصاف آلهة.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة لآيتين: الأولى الآية (40-الأحزاب)، ونصها: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين»، وفي الآية إشارة واضحة إلى إطلاق لفظها لا تخصيصه، وهو ما تؤكده سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن نفي «الأبوة الجينية» هنا يعني إثبات «الأبوة الدينية» التي أكدتها الآية في لفظ «ولكن رسول الله وخاتم النبيين»، وفي ذلك إشارة واضحة إلى فكرة «محمد النبي الديني» الذي رفض السلطة والثروة عندما عرضتها عليه قريش، في مقابل فكرة «محمد الأب الجيني» التي تحاول مجاميع التشيع السياسي التركيز عليها للوصول إلى السلطة والثروة التي رفضها النبي نفسه.

ونختم بذكر الآية (124-البقرة) التي يقول نصها: «وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إمامًا، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين»، وفي ذلك إشارة قوية إلى أن إمامة إبراهيم لا تمتد لذريته، لأن أسس الوصول إلى الإمامة مرتبطة بالقيم لا بالدم، وهي الإشارة التي وردت في (الآية 24-السجدة)، والتي يقول نصها: «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمًا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون»، حيث نال بعض بني إسرائيل رتبة الإمامة، ليس على الأساس الجيني/‏العرقي الموروث باعتبار أنهم «أبناء النبي» إسرائيل، ولكن على الأساس الديني/‏القيَمي المكتسب الذي ورد في الآية: «بما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون».

نورد مثل هذه الإشارات الواضحة، ونخوض مثل تلك الموضوعات التقليدية في وقت تمر فيه الكثير من بلداننا لتشظيات سياسية ومجتمعية ومذهبية عنيفة، لاعتبارات عدة، تأتي في مقدمتها محاولات جماعات التشيع السياسي تسييس الدين والمذهب والنبي والآل لأغراض سياسية واقتصادية أضرت بديننا ودنيانا في الآن ذاته.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى