بن معوضة محمد.. قردعي هذا الزمان
بن معوضة محمد.. قردعي هذا الزمان - تقديم بقلم: عمار الزريقي
الشعر والفنون مقاييس حضارية لنهضة الشعوب، فأيما شعب نهض مادياً فلابد أن تصاحب نهضته المادية نهضة أدبية وفنية. وإن هذا الديوان الذي بين أيدينا للشاعر بن معوضة محمد، ينتمى إلى الجيل الألفيني، جيل اليقظة الشبابية والتواصل المفتوح، جيل الثورة والحرية.. الجيل الذي تجاوز حدود الوهم المصنوعة حوله من قبل أنظمة القمع، ورمى أطواقها وأوهامها بعيدا ليعود إلى ذاته بقوة معبراً عن أحلام وتطلعات شعبه ومواكباً حاجات ومتغيرات عصره.
ديوان (شظايا) يعرج بالقصيدة إلى مستوى التحليق الإبداعي ليطير بقارئه في فضاءات فسيحة من الدهشة والجمال والصدق والتجلي والحكمة، فيعيد إلى أذهاننا صورة نموذجية من شعراء الزمن الجميل في اليمن والعالم العربي.
وما يميز قصائد هذا الديوان هو أنها نابعة من تجربة حقيقية ومشاعر صادقة متجذرة عميقا في وجدان الشاعر وضاربة في أعماق روحه ومعبرة عن معاناة شعبه. فالشاعر يقدم نفسه من خلال نصوص ديوان (شظايا) كمحب صادق وعاشق ملهم وثائر وطني وحكيم سياسي ومبدع متجل صاحب تجربة عميقة وثقافة غزيرة وروح خلاقة. والقصيدة التي يصنعها الشاعر صناعة لا تأتي كالقصيدة التي تفرض نفسها على الشاعر فيلتقطها ثم يقدمها إلى المتلقي كهدية ثمينة.. فما يخرج من القلب يصل إلى القلب بالتأكيد، وما يأتي من طرف اللسان فلن يتعدى حدود الأذن.
والكتابة الإبداعية صارت ضرباً من المغامرة في زمن الوسائط والتواصل الاجتماعي الذي أوجد سوقاً واسعةً لعرض المنتج الإبداعي بينما قل الطلب عليه في ظل سعة المعروض الهش غالباً، وفي ظل زحمة الحياة وصعوبة الظروف التي تجعل من متابعة المنتج الإبداعي ضرباً من الترف، وتجعل من تسويق النص الإبداعي أشد صعوبة في ظل هذا الفضاء الذي يعج بالغث والسمين من النصوص. فلابد للشاعر أن يقدم نصاً مدهشاً في خضم هذا الكم الهائل من النتاج الإبداعي الذي قلما يجذب انتباه المتلقي المشغول بأساسيات الحياة اليومية ولا يملك وقتاً كافياً لقراءة كل ما هو معروض، ناهيك عن التمييز بين جيّده ورديئه.
وفي ظل ازدحام النصوص المتقنة والجميلة في الجيل الألفيني من الشعراء، فإن الشاعر المتميز هو الذي يصنع بصمته الخاصة التي يصبغ بها نصوصه أو يجد أسلوبه الخاص الذي لا يشبهه فيه غيره، ليصل إلى مرحلة التميز والظهور والألمعية.. ولم يعد كافياً الإتقان أو كم الإنتاج أو حسن التسويق الإعلامي للمنتج الإبداعي عبر المؤسسات الثقافية والمنصات الرسمية كما كان يحدث لدى الأجيال السابقة. فالنص الجيد لابد أن يجد طريقه ليعبر حدود الزمان والمكان ويكتسب الخلود، وكم من نصوص أو أبيات قديمة عبرت حدود زمانها ومكانها وجرت مجرى الأمثال والحكم وتناقلتها الألسن فوصلت إلينا بعد مئات القرون وصارت جزءاً من تراثنا وتكويننا الثقافي حتى لا نكاد نعرف قائلها ولا نفكر في السؤال عن اسمه، وصرنا نسمعها من عامة الناس مثلما نسمعها من المثقف والأكاديمي والأديب.
وأبسط مثال لذلك هو قول الحيص بيص الذي عاش قبل ثمانية قرون:
وحسبكمو هذا التفاوت بيننا
وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
أو قول سلم الخاسر:
من راقب الناس مات همّاً
وفاز باللذةِ الجسورُ
أو شطر ذلك البيت الذي لا نعرف قائله:
.. وشر البلية ما يضحكُ
وفي هذا السياق نجد الشاعر بن معوضة محمد يتعامل مع نصوصه بهذا المعيار فهو يرشحها للخلود ويؤهلها لعبور حدود الزمان فهي المختصر والمفيد وهي الحكمة وبيت القصيد.
يلعب الفنان بعجينة الموسيقى كما يلعب الشاعر بعجينة اللغة والوجدان والصوت والموسيقى والفكرة. غير أن الشاعر بن معوضة محمد يلعب تلك اللعبة بأدوات الفنان وروح الشاعر وحكمة الفيلسوف ومدفع الثائر الوطني معاً، فيقدم نصوصاً متقنةً بلغةٍ بسيطةٍ عاميةٍ مفصّحةٍ وبأسلوبٍ سهلٍ ممتنعٍ، لا لكي يرضي أذواق المتلقين على اختلاف مشاربهم، بل ليعبر عن ما في نفسه ويشبع حاجاته الداخلية بالبوح بمكنونات نفسه وليقدم رسالة فنية وأدبية ووطنية وإنسانية.
إنني كلما وقعت عيني على نص للشاعر بن معوضة محمد يتبادر تلقائياً إلى ذهني قول الشاعر الزعيم الثائر علي ناصر القردعي:
يا عيل عيلوه.. تم العيل مجراني
والزرع ظامي وبير النقع مدفونة
كلّاً يبا تجزع العوجا على الثاني
وانتو سوا تحت هيج اعوج تَجُرّونه
ونصوص هذا الديوان، كسائر نصوص الشاعر بن معوضة محمد، لا تحيد ولا تميد عن هذه الرسالة المتصلة بالقضية الوطنية التي حملها رموز الشعر الوطني لاستنهاض العقل اليمني من وحل الزنبلة والخنوع لأدوات الظلم والقهر والانتهاز السلالي، فنجد الشاعر بن معوضة لا يتوانى عن الإشادة بالفعل الوطني ولا يألو جهداً في تعرية حالة التقاعس والخيانة والفرقة بين أبناء الوطن بل يتناول ذلك بشيءٍ من التوبيخ الحاد والسخرية المرة.
ولا غرابة في أن الذات شبه غائبة عن مكنون هذا الديوان الذي ما إن يستطلع القارئ بعض نصوصه حتى يكتشف أن صاحبه قد نذر نفسه خالصة للقضية الوطنية على منهج نشوان الحميري والهمداني والقردعي والزبيري والفضول والبردوني والمقالح وغيرهم.
ديوان (شظايا) يضم بين دفتيه قصائد متنوعة في الطول والشكل والمضمون والموسيقى، وكثير منها بشكله الغنائي يمثل منبعاً غزيراً للزوامل والشيلات الحماسية والأغاني الوطنية التي تحرك الهم الثوري وتوقظ روح العمل الاجتماعي وتلهب الحماس العسكري.
إن للشعر الوطني دروباً شائكةً وسماواتٍ ملبدةً بالمتاعب لا يسلكها أو يحمل عبئها إلا فارس ماهر صاحب روح وطنية لا تعمل إلا لمصلحة الوطن والإنسان ولمرضاة الضمير. وإن لكلِّ زمانٍ قردعيّاً، وبن معوضة محمد قردعيُّ هذا الزمان.
عناوين ذات صلة: