آراء

ومات ايرلو تعيساً

د. لمياء الكندي تكتب: ومات ايرلو تعيساً


يعتبر حسن ايرلو النسخة الفارسية من الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر في عراق ما بعد صدام حسين 2003. غالبا ما تتعمد الدول ذات النزعات الاستعمارية والتدميرية للشعوب إظهار كامل سيطرتها على المشهد العام في هذه البلدان، فتحرص أن يكون سفراؤها ممثلين عنها بصلاحيات واسعة تصل إلى درجة الحاكم العسكري.

على عكس بريمر في العراق لم تكن السياسة الإيرانية في اليمن بحاجة إلى وضع دستور جديد يحدد علاقة الشعب بالدولة وينظم دور الدولة وعلاقتها بسلطة الاحتلال الجديدة، فعمر العلاقات والتشريعات الإيرانية في اليمن، وعلاقتها الروحية بالاتباع السلاليين يصل إلى مئات السنين، فليس أكثر ولا أهم من وجود نظرية دينية مذهبية وسياسية فكرية واجتماعية عقائدية شاملة تنظم العلاقة وتجمع بين أبناء الفرس وأحفاد الرسي وبني عمومتهم من بني هاشم، كنظرية الإمامة والولاية والتمايز السلالي التي تشكل القاعدة الفكرية والدينية والسياسية للتكامل والتخابر فيما بينهم البين والتي يزيد عمرها عن ألف ومائتي عام.

أُعِد حسن إيرلو بعناية ليكون رجل إيران الأول في اليمن، أظهر ايرلو نشاطا كوصي ووالٍ إيراني وحاكم عسكري على اليمن، ليس فقط فيما يخص السياسة العامة تجاه أعداء ايران في اليمن بل إن وصايته تلك تسلطت لتنتزع القرار الداخلي داخل الحركة الحوثية ذاتها، فيفوق دوره المرشد بل هو المقرر السياسي داخل الحركة وأنشطتها وعلاقاتها وكل ما يتعلق بها داخليا وخارجيا.

تمكن ايرلو من أن يفرض حضوره المستفز داخل الحركة الحوثية وخارجها، ومن خلالها ظهر على الشارع العام اليمني كرجل إيران المسير للأحداث والمتحكم فيها، ظهر في احتفالات اليمنيين وأعيادهم، كما ظهر في جامعاتهم ومستشفياتهم، استقبل الموفدين الأمميين والخبراء إلى اليمن، كما استقبل شيوخ القبائل وكبار الشخصيات الاجتماعية والحزبية والعسكرية، أشرف على مسار العلميات الحربية، كما أشرف على الاعداد للتصنيع العسكري ومنحه الدعم الكامل، كان ايرلو معد جيدا ليلعب دوره كسيد السيد داخل الجماعة الحوثية، وداخل سلطة الأمر الواقع فيها.

فإذا كان السفر الأمريكي السابق في اليمن جيرالد فيرستين القادم من بيئات وظيفية مشبوهة شملت السعودية وباكستان وافغانستان بيروت واسرائيل، تنتهي بوظيفته في مكتب منسق مكافحة الإرهاب في واشنطن 2008، قبل تعيينه سفيرا للولايات المتحدة في اليمن البلد الوحيد المعد سلفا ليكون محطة عدم استقرار في المنطقة وباعثا لحرب إقليمية تتورط فيها جميع دول الجوار لليمن، قد مهد لتفكيك اليمن وانقسامه وتهيئة أجواء الحرب والجو السياسي والعسكري العام للانقلاب الحوثي في اليمن صبيحة 21 سبتمبر 2014، فان حسن ايرلو قد أعد لاستكمال المعركة وجعل اليمن مرتكزا للسيطرة الإيرانية على الدول الإقليمية والقرار السياسي والعسكري فيها، واتخاذ اليمن مركزا لهذه السيادة والتحكم في القرار الداخلي.

مارس ايرلو دورا داخليا خوله لاستقبال شيوخ القبائل ومد علاقات وتحالفات معها وتشكيل جناح سياسي وعسكري وقبلي خاص به، لتكوين جبهة مستقلة خارج نظر أنصار الله وغلمانهم، وكان يمارس علاقته من منطلق تحقيق القرار المستقل الذي يرضي رؤسائه في طهران مباشرة وليس قادة المليشيات في صنعاء وصعده، ولعل هذا السلوك هو الذي تسبب في تسهيل عملية قتله وتصفيته بالتعاون مع الساخطين منه داخل دائرة انصار الله والتنسيق مع قوات التحالف العربي لاستهدافه.

اعتبر ايرلو معركة مارب معركة إيران قبل أن تكون معركة الحوثيين، لما تحمله هذه المعركة من حيثيات ونتائج تمكن من تغيير نتيجة المعادلة لصالح طهران في الخليج العربي ككل.

أحرجت معركة مارب القيادة الإيرانية كما أحرجت قيادة الحوثيين أمام رعاة الحرب الإقليميين والدولييين الذين يسعون لوضع نهاية لها، ومع الذين تماهوا مع السيطرة الحوثية على مارب ومنحهم الإذن في اقتحامها عسكريا، تمهيدا لمرحلة ما بعد سيطرة إيران والحوثيين على اليمن.

لم تتمكن جميع الخطط العسكرية ولا القدرات القتالية ولا الأفواج الحربية المندفعة باتجاه مأرب من تحقيق خرق ونصر عسكري، أو أمني أو استخباراتي، يمكنهم من اقتحام المدينة، رغم وصول تلك المحاولات إلى أعلى دراجاتها من التخطيط والإعداد والبذل والإرهاب.

كان ماء وجه إيران المراق في صحراء مأرب وماء وجه رجلها عبدالملك قد فاحت منه روائح نتنة أزعجت الراعين الرسميين لهذه الحرب، فرائحة الدم الحوثية في صحراء مارب، وحجم التقارير التي ترفع يوميا عن عدد القتلى والخسائر الحوثية، وزيادة عدد اللاجئين وتضرر المدنيين فيها، جميعها ملفات تشكل أحراجا للراعي الدولي لهذه الحرب، الذي لا يلبث أن يسوف للأوضاع ويمنح الفرص تلو الفرص على أمل أن يحقق المليشاويين في مارب انتصارا جديدا.
وهنا تتفق روايات البعض التي ترجح مقتل حسن ايرلو أثناء إشرافه المباشر على معارك مأرب من قلب المعارك، نظرا لأهمية المعركة وضرورة الحسم فيها فإطالة تحقيق الهدف الإيراني الحوثي في مارب وضع الرجل موضع القائد الفاشل الذي يؤثر فشله في صورة ضباط الحرس الثوري الإيراني وبالاخص فيلق القدس أهم الفيالق القتالية فيه، وينسف سلطتهم وقوتهم في سوريا والعراق ولبنان بل في الداخل الإيراني ذاته، لذا كان تواجده في قلب المعارك مهما للحسم وهو ما رجح فرضية مقتله وهو يدير المعارك في مارب، وما يرجح إخفاء سلطات إيران حقيقة مقتله في الوقت ذاته وادعاء إصابته بكورونا حفاظا على ماء وجهها المهدر في صحراء مارب.

وأيا كان شكل وفاة ايرلو إلا أن المؤكد أنه مات في اليمن ميتة غير سعيدة مات تعيسا فاقدا للحلم والنصر معا، نعم لقد كان ايرلو أتعس قائد سياسي وعسكري محتل قادته دولة احتلال أجنبى إلى بلد ما.

قتل ايرلو قبل أن يدفع كفارة اليمين الخاصة بتحرير مارب والإفطار بتمرها في رمضان الفائت، قتل ايرلو ولم يكن القتيل الوحيد في هذه المعركة ولكنه الشخصية الأسمن والأدسم فيها، الشخصية التي لفضتها صحراء مارب خارج اليمن وبعيدا عن ترابها الطاهر.

قتل ايرلو قبل أن يحظى بقضم برتقالة واحدة من مزارع مارب تمنحه بعض المناعة ضد ما أصابه من هزيمة وكبر، أما عن موته مشتهيا لتمر مأرب فهذه قصة أخرى توازي اشتهاء أنفه رائحة النفط والغاز المنبعث منها، ورغبته في الرقص والشواء حول أعمدة عرش بلقيس في عيد النيروز القادم.

نعم لقد قتل ايرلو وهو تعيس قبل أن ينتشي بأي انتصار فعلي حققته سياسته منذ وصوله وحتى مقتله، كانت مأرب هي أم المعارك الجمهورية الامامية وأم المعارك اليمنية الإيرانية، قادسية القرن الثاني والعشرين التي لن تحسم نتائجها إلا بالنصر لأصحاب الأرض وأقيالها العظام، فهم الأقدر على استعادة خسارتهم ودولتهم ومقاومة مشاريع طهران وتلقين أبناء الإمامة وغلمانهم دروس في الوطنية والمقاومة والى الأبد.

لقد كانت خسارة إيران بايرلو كبيرة كونها أتت في وقت حرج جدا تحاول من خلاله إيران أن تفرض واقعا جديدا في المنطقة يتزامن مع محادثاتها الجديدة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمجتمع الدولي بخصوص ملفها النووي كانت إيران بامس الحاجة لجهود الرجل لفرض الامر الواقع وتقبل إيران كدولة نفوذ ورقم صعب في معادلة السياسة الإقليمية لقد خسرت بمقتله دورا داخليا لها لن يكون كما كان قبله، وسيكون له ما بعده من السياسات والهزات الارتدادية التي ستنسف الولاية الطهرانية على صنعاء وتهزم شيعتها الجبناء.

زر الذهاب إلى الأعلى