درس في الانتماء.. اليابان وتحصين الهوية
ثابت الأحمدي يكتب حول: درس في الانتماء.. اليابان وتحصين الهوية
خلال الثلاثة العقود الأولى من القرن السابع عشر الميلادي استطاع مبشرو أوروبا تنصير ما يزيد عن 300 ألف ياباني، منهم شخصيات من "الساموراي" الأمر الذي استنفر الحكومة اليابانية،
وقد شعرت بالاستفزاز الكبير من مسيحيي أوروبا الذين غزوها إلى عقر دارها بثقافتهم الدينية التي لا تمت للثقافة اليابانية بصلة؛ بل تعتبرها اليابان تهديدا لها، ومن ثم قررت الحكومة حظر الديانة المسيحية في اليابان وتجريمها في العام 1637م؛ بل لقد قامت بتصفيات دموية وإعدامات ميدانية لكل ياباني متنصر، بعد أن اعتبرت كلَّ عنصرٍ منهم خطرًا على الأمن القومي الياباني، وحظرت كل الكتب والمنشورات المتعلقة بالمسيحية التي كانت قد تسللت إليها، ففر من نجا وأصر على تنصُّره من اليابانيين عبر البحر إلى الخارج، ولم يعد بعدها إلى اليابان، وزيادة في الاحتياط قررت الحكومة منع تعلم أي لغة أوروبية، حتى لا تتسلل التعاليم المسيحية الأوروبية عن طريق اللغة..!
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد قامت بإغلاق موانئها البحرية ضد سفن التجارة الأوروبية، ودخلت في عزلة طوعية، دامت حتى أواسط القرن التاسع عشر، حفاظا على أمنها السيادي وهويتها القومية من الغزو الثقافي الخارجي..!
حتى السفن اليابانية والتجار اليابانيين أنفسهم، لم تكن تُبحر إلا سفن الدولة فقط، ولم تكن التجارة إلا عن طريق الدولة فقط، ومع الكوريين أو الصينيين لا غير، ولا يحق لأي ياباني الاتجار مع التجار الأوروبيين بصورة مباشرة، أو حتى تخزين شيء من بضائعهم لدى مخازن التجار اليابانيين دون إشعار الدولة وإشرافها عليه مباشرة، وفي بعض الموانئ المحددة سلفًا، وليس الكل.
وقررت الدولة اليابانية حينها أنَّ أي ياباني يقضي فترة أكثر من خمس سنوات خارج اليابان يتم إعدامه إذا حاول العودة، وكذا يُعدم كل مواطن يحاولُ مغادرة اليابان سرًا نحو أي دولة.
هذه العزلة المفروضة بقوة الدولة على ما فيها من السلبيات إلا أنها حفظت للدولة ثقافتها القومية، ومنظومة القيم الأخلاقية اليابانية، وحافظت على سيادة البلد، وقد رفعت آنذاك شعارها الثلاثي "شي، جين، يو" وتعني: الحكمة واليقظة والشجاعة.
في تلك الفترة اعتمدت اليابان على نفسها بصورة تامة، فصنعت الأسلحة، وكونت جيشًا قويًا، وحلت جميع مشاكلها الداخلية، وعززت من القيم الأخلاقية اليابانية، وتكاثرت الحرف المحلية التي نمت مع الوقت وتطورت إلى صناعات متوسطة فكبيرة، وتعززت ثقافة الإنتاج والعمل والاعتماد على الذات، واحترام الدولة المركزية، وتلاشت الدعوات الانفصالية التي كانت سائدة قبل ذلك، وتمدن الريفيون، ومن ثم تفرغت للبناء والنهضة، ولولا تلك السياسة الصارمة - آنذاك - لما كانت اليابان اليوم بهذه العملقة الاقتصادية الرائدة.
تلك الفترة ــ ما بين 1637 حتى 1853م ــ خلقت تراكمًا كميا في الإبداع، سهّل لليابان في مرحلة انفتاحها على العالم بعد ذلك الاستفادة من النهضة الصناعية الأوروبية، في الوقت الذي لم يتمكن العرب من ذلك، وكان وضعُ اليابان حينها مثل أي دولة عربية، بل لقد كانت مصر في تلك الفترة، وحتى بداية القرن العشرين أكثر تقدمًا من اليابان.
إنه القائد من سلالة "الشوجون" الذي كان يحمل وعيا مستقبليا، وفكرا دولتيا عاليا، رأى بحدس السياسي المستبصر ما يهدد بلاده في حاضرها ومستقبلها، فاتخذ القرارات القاسية التي تجنب البلاد كوارث مستقبلية، لا تستطيع أن تتحملها.
هذا درسٌ في الولاء والانتماء والاعتزاز بالذات.. فهل نعي الدرس؟!!