آراء

الرمزيات الحضارية بين سماحة الدين وتزمت بعض المتدينين

عمار صالح التام يكتب: الرمزيات الحضارية بين سماحة الدين وتزمت بعض المتدينين


نحن اليمنيون متدينون بالفطرة وهذه سمة مميزة لليمنيين عبر تاريخهم الطويل وحكمتهم هي الخلاصة لفلسفة إنسانية وإيمانية شكلت الدوافع الحضارية للأمة اليمنية، التي جعلت الإنسان محورا تقوم وتدور عليه حضاراتها الضاربة في التاريخ.

لم يهدر اليمني طاقته لتشييد هرم للفرعون، بل نحت الصخر والجبل وبنى القصور وشيد السدود وعبَّد الطرق وهندس المدرجات على سفوح الجبال قاهرا جغرافيتها بعزيمته.

اليمني صاحب سبق حضاري للبشرية فهو أول من علم البشرية العمارة والصناعة والقراءة والكتابة وصك النقود واستخراج المعادن من بطن الأرض وصياغة القوانين والتشريعات، ومارس في سلوكه الإجتماعي والسياسي الشورى والحرية والإبداع والعدالة الاجتماعية،،. أمور كثيرة جسدت المنظومة القيمية الحضارية للرسالات والأديان السماوية التي شملها المفكر الجزائري مالك بن نبي في نظريته الإجتماعية الفلسفية "العلاقة بين الحضارات والفكرة الدينية الصحيحة"، وقد حقق اليمني من خلالها المقصد الإلهي الرئيسي لوجود الإنسان على الأرض وهو الاستخلاف وعمارة الأرض.

حدث في فترات الانقطاع التاريخي للرسالات والانبياء في اليمن أن عبد اليمنيون" الشمس" وهي أقصى نطاق يصل إليه العقل كما ذكره القرآن الكريم في الحوار بين نبي الله إبراهيم عليه السلام وقومه بالقرآن المكي في سورة الأنعام، قبل نزول الوحي عليه "فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر"
وقد ورد في القرآن على لسان الهدهد عن اليمنيين بفترة انقطاع الرسالات في سورة النمل "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله".

كان مكتوبا في معبد براقش بالجوف عبادة اليمنيين ل"رحمن ذي سماوة" وهم متوجهون للشمس بتلك الفترة، ومن أجمل ما يُرجع له بهذا الموضوع كتاب المؤرخ والباحث الدكتور محمد حسين الفرح رحمه الله "الجديد في حضارة سبأ وحمير" في مجلدين تمت طباعتهما ونشرهما في 2004م صنعاء عاصمة الثقافة العربية ضمن مئات الكتب اليمنية التي كان لوزير الثقافة خالد الرويشان حينها دور محوري في إحياء تراثنا الفكري الوطني.

بالمناسبة وبعيدا عن ردة الفعل تجاه إحياء رمزية "الوعل" التي دشنها كتاب وناشطو حركة الوعي القومي اليمني عموما بمن فيهم أقيال، ردود الفعل تلك طبيعية نتيجة لتغييب اليمنيين قرونا عن تاريخهم الحضاري وهويتهم الوطنية، وشيوع مفاهيم عن الدين تخالف مقاصده ومنظومته القيمية ونصوصه الصحيحة.

يجب على اليمنيين اليوم على قاعدة الاحترام المتبادل أن ينبشوا تاريخهم ويناقشوا تفاصيله بين القبول والرفض والحماس والفتور ليجعلوا منه محركات حيوية تتجاوز آلام واقعهم وتستشرف المستقبل ليعود اليمن سعيداً كسالف عهده.

لكن الأمر غير الطبيعي والمتكرر تاريخيا هو إقحام الدين ذاته لمواجهة كل حركات البعث القومي اليمني وشيطنتها وهو اليوم أوضح من أي وقت مضى وأصابع الاتهام في هذا الخطاب تتجه قسرا نحو خرافة الإمامة الهاشمية التي حرمتنا من فكر الهمداني ونشوان الحميري والمطرفيَّة والزبيري والإرياني والنعمان والمقالح والبردوني والأكوع والشماحي وبن الأمير والشوكاني والوزير والمقبلي والواسعي والعودي وجار الله عمر والبتول باسم الغيرة على الدين والانتصار له.

حرمتنا عقودا من الزمن بقصد أو بدون قصد ويشمل ذلك كل الجماعات الإسلامية، وصنعت إيديولوجيا دينية موجهة وغير متسقة مع التركيبة الاجتماعية والتاريخية للمجتمع اليمني وتحولت إلى إيديولوجيات سياسية يمينية متصارعة ومنشطرة على نفسها، يقابلها كذلك إيدلوجيات سياسية يسارية تفترق عنها باللافتة وتجتمع معها في تجاوز الهوية الوطنية والاستيراد الخارجي للأفكار المبسترة والمقولبة من العواصم العربية والغربية والشرقية،
ومثَّل كل ذلك جوهر علة النخبة الوطنية لأكثر من خمسة عقود من عهد الجمهورية.

لم تكن مدرسة الحكمة اليمانية في العقائد والفقه والفكر والتاريخ غائبة بل كان صوتها خافتا وأثرها محدودا، وفي المقابل تكررت جولات ومحطات الصراع بين اليمين واليسار فكريا وسياسيا وعسكريا، وحضر حلم أو قل وهم الخلافة الإسلامية والقومية العربية على حساب النهضة الوطنية، وغابت صور رموز الحركة الوطنية شمالا وجنوبا من كل التيارات الوطنية.

سمعنا آراء مشائخ من خارج اليمن وتجاهلنا العمراني وتراث الشوكاني، كما لم نوجه الجهد لبناء المعامل العلمية والفلكية التي تقودنا للإسهام في قطار الحضارة البشرية والمشاركة في النهضة العلمية والتكنولوجية.

ناهيك عن ترك ميادين التنقيب والبحث عن معجزات اليمنيين الحضارية، وترك مورثنا الحضاري للنهب والتدمير كآثار، والتلغيم والتفخيخ الإمامي الهاشمي كموروث فكري وديني وشعبي فلكلوري.

تفاعلنا واهتممنا بقضايا عربية وإسلامية وهي وكل ما ذكر في الفقرتين السابقتين لا تعيبنا ونعتز بانتمائنا العربي والإسلامي والإنساني لكن العيب في حقنا أننا نسينا اليمن هوية وحضارة وشعبا ومجتمعا وحاضرا ومستقبلا.

كم هتفنا ضد اليهود الصهاينة دعما لفلسطين بعاطفة جياشة بعيدة عن الفكرة العنصرية للسلالية الصهيونية المبكرة لمن يدعون أنهم أبناء الله وأنهم شعب الله المختار وكل بني البشر "جوييم" خلقهم الرب لخدمتهم.

تغافلنا في صخب تلك العواطف والمشاعر والشعارات الإسلامية والقومية عن تحركات سلالة الخرافة الهاشمية الصفوية المتأخرة التي تدعي زورا أنهم أبناء رسول الله وأن الله خلق اليمنيين لخدمتهم، وأصبح شعار الموت لإسرائيل المتأجج عاطفيا والحاضر ذهنيا لدى اليمنيين بعيدا عن هويتهم الحضارية لافتة حشد تسفك بها خرافة الإمامة الهاشمية دماءهم وتجندهم معها لقتل أبناء شعبهم، وتزايد عليهم في تبرير وتلميع حلفها الإيراني الشيطاني العنصري كمحور ممانعة في المنطقة.

من حق أي يمني الرفض أو الإمساك عن التفاعل والتبني لمحتوى تيار الوعي القومي اليمني والوقت كفيل بإثبات الصحة أو الخطأ لما يقال وينشر ويناقش في ظل الاحترام لليمنيين وعدم شيطنتهم والاحترام لأي رمزية حضارية يمنية وعدم الإساءة لها، لأن الإساءة تمس ذات اليمني وحضارته.

أما الفتاوى والمتكئون على منابر الدين لمواجهة الوعي فهم مطالبون قبل فتوى التحريم لتجسيد رمزية "الوعل" بفتوى تسبقها في تحريم "الشمس" كرمز للإصلاح وهي كانت إلهاً يُعبد من دون الله في فترة من تاريخ اليمنيين، وسيجد الجميع أنفسهم أمام احترام الرمزيات الحضارية التاريخية والبعد عن حشرها في مواجهة الدين والمتدينين.

كما يتعين على وزارة الأوقاف والإرشاد وكل المجامع الفقهية اليمنية والشخصيات العلمية المعتبرة إقامة مؤتمر إسلامي وطني على رأس مخرجاته موجهات دينية وطنية للخطاب الديني في اليمن وطي صفحة فتاوى التكفير والتفسيق حتى يلم شمل المجتمع اليمني على قيم الإسلام الحضارية السمحة.

يتعين أن يحدد موقف الخطاب الديني من الهوية الوطنية، والنأي به عن خدمة خرافة الإمامة الهاشمية التي تذكي أحقاد وخرافات القرون وتهدد الاستقرار الوطني وتمعن في تمزيق نسيجه الاجتماعي.

لم ننس بعد تضمين المناهج المدرسية دروسا مغلوطة عن عدل دولة الهادوية في صعدة!!، في الوقت التي كانت تحركات الأذرعة العسكرية للإمامة بحجة والجوف وصعدة وأرحب تتمدد في فترة حكومة الوفاق الوطني، ولازالت تلك الدروس موجودة بالمناهج في مناطق الشرعية إلى اليوم!

كما ينبغي لأصحاب ردة الفعل تجاه الخطاب الديني لخرافة الإمامة الهاشمية أن يتجنبوا استفزاز اليمنيين في أقدس مقدساتهم وهو الإسلام وأن يفرقوا بين سلوك التدين وفهوم المتدينين والدين الإسلامي ذاته.

- رئيس مؤسسة جذور للفكر والثقافة

اقرأ أيضاً: لماذا يوم الوعل اليمني؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى