قراءة في سردية المقاومة بشعر الدكتور عبدالعزيز المقالح
قراءة في سردية المقاومة بشعر أديب اليمن الشاعر العربي الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح إعداد د. لمياء الكندي
بوجه القصيدة الحداثي وروح الشعر الاصيل وتجليات المعاني التي تزخر بوجدانيات انسانية معتقة تسموا في مقامات الشعر العالية جعلت من كونه شاعرا متصلا بالشعر حد الوحدة التي تجعل من الصعب الفصل بين شاعرنا كانسان وبين قصائده التي كانت في كينونتها مجموعة انسان نعيش معها وتعبر الينا تفاصيلها تسكننا انفعالاتها وتتجلى لنا معها قيم الحياة الكبيرة.
عٌرف شاعرنا بالشعر وعٌرف الشعر به، فجمع بين عوالم الكلمة المستوحاة من اتون الوجد وبين عالمنا الذي كان ولا يزال يصارع قوى الشر ويزهر بالخير والحب.
انه شاعرنا واستاذنا الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي غادرنا شاعرا ثائرا ووفيا لقصائده كوفائه للوطن ووفائه لنا.
ان الوقوف عند التجربة الشعرية الرائدة التي امتلك المقالح زمامها تحتم علينا الدخول الى عوالمه من عدة ابواب، فله في كل قصيدة باب يشرف على مدينة شعرية بأكملها، ولان ابواب شعره كثيرة كانت لنا هذه الوقفة امام باب من ابواب شعره التي تجلى فيها خطابه مقاوما شاعر الارض والانسان والثورة حارس جمهوريتنا وحامي حمى قصائدها الخالدة.
كيف لا وهو الذي خاطب صنعاء بديوان شعري متفرد خصصه لمعشوقته عنونه "بكتاب صنعاء"، نظم فيه قرابة الستين قصيدة تغنى بها عاشقا حد الهيام جاب شوارعها شارعا شارع طاف بأسواقها ومساجدها وبيوتها وتاريخها.
فنراه يتحدث عن امجادها تارة وتارة اخرى ينعي واقع هذه المدينة البائس فنجده يخاطبها بلغة الشعر والاسى، كما يخاطبها بلغة المقاوم المستنكر لحالة التسليم والخضوع الذي يبدوا على هذه المدينة اسيرة الطغيان فنجده يقول:
صنعاء قد طلع النهار
وانت في القبر البليدِ
كل الشعوب تفلتت من ليلها، من الجمودِ
ومشت على جثث الطغاة ، وانت في القيد التليدِ
ثوري فقد ثار الجمادُ، وطار جلمود الحديدِ
لا تركعي للعابثين، ولا تجودي في السجودِ
سئمت قبور الارض من صمت المقابر واللحودي.
عند تصفحنا لقصائد المقالح الثورية المتشحة بروح المقاومة والأنفة التي مثلت روح اليمني الاصيل، نجد اننا نقف عند هذه القصائد وكأنها قيلت اليوم وكأن قدر اليمنيين اليوم مرتبط بالأمس، الامس البغيض الذي حاربه جيل سبتمبر ورجاله ونحاربه اليوم كوننا ابناء هذا الجيل وورثته الشرعيين اصحاب الارض واهل الثورة.
ففي قصيدته صنعاء يا حلم الجدود يطالعنا المقالح بلوحته الشعرية الممهورة بروح الكبرياء والحرية والمقاومة بصورة شعرية مكتملة عن هذه الغاية وهذه الإرادة المتحررة من طغيان الكهنوت الامامي البغيض ليتقلد عنفوان الثورة
والوطن والتحرر.
اليوم اخلعها قيودي...... حرا وتخلعني قيودي
غادرت منفاي العقيم، وجئت من زمن بعيدِ
وخلعت اسوار السجون ، والف جرحا في وريدي
لا سجن، ولا سجان بعد اليوم.. هذا يوم عيدي
اين السلاسل؟ لم تعد في الكف مدمية الزنودِ
اين الزبانية الغلاظ، واين جلاد الجلودِ
كان المقالح في قصائده يلعن الاستبداد ويمتطي جواد الوطن، فاتحا لدروب الحرية مؤرخا لعمر الصمود والمقاومة في قصائده، سابحا في عمق التاريخ اليمني وأساطيره الباذخة في الحياة، ففي قصيدة مارب الفار والانسان يعرج بنا المقالح في فضاء المكان واصفا حالة من حالات الترابط الشعوري للشاعر مع التاريخ ولحظة الانكسار التي تتوج بتطلعات كبيرة نحو الانعتاق.
حين دخلتها
حين وقفت تحت المعبد المكسور
لكم تمنيت لو ان الارض لا تدور
لكم تمنيت لو ان الشمس فوق مارب
مطفاة الشعاع
لو ان جيلنا قد كان مفقوء العيون فلا يرى
اجسادنا عارية يمتصها الضياع
ويستمر في سرد امنياته تلك في محاولة لاستعادة المجد التليد فيقول:
لكم تمنيت لو ان سيلا عارما
يمر من هنا، يزورنا للمرة الاخيرة
يحمل ما تبقى من نخيل
يسوق مشفقا ما ابقت الايام من رجال
ويغسل الجبال من احزانها
ويغرق الاطلال
لكم تمنيت لو اننا توقفنا عن الحياة
من زمان
لو ارتضينا ان نعيش في القرآن
اسطورة جميلة
قصة سد حوله جنتان
عن يمينا وشمال
وتأتي قصيدة عاش الشعب التي كتبت في ثالث ايام الثورة الخالدة لتذاع في اذاعة صنعاء بصوتها الجمهوري على شعب صنعاء المعتق من خرافة الكهنوت، يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 1962م ليخاطب بشاعريته الملتهبة صنعاء قائلا:
وثرتِ يا ( صنعاء) ورفعت رؤوسنا بعد انكسار
اخرجتِ من ظلماتك الحبلى اعاصير النهار
وولدتِ هذا اليوم بعد ترقب لك وانتظار
فأتى كما شاءت إرادات المنى ، وهج انتصار
يوما نقدسه، ونرضعه أمانينا الكبار
يوما سيبقى خالد الساعات، موصول الفخار
ليذهب بسمو كلامه وتجليات شاعريته العظيمة عرفانا بدور تلك الايادي البيضاء الثائرة التي كتهتك استار الكهنوت واردت شبح الباهوت السلالي الردى فقال واصفا رجال سبتمبر:
سلِمت اياديهم بُناة الفجر، عشاق الكرامة
الباذلين نفوسهم لله في ( ليل القيامة)
وضعوا الرؤوس على الاكف، ومرغوا وجه الإمامة
صنعوا ضحى ( سبتمبر) الغالي لنهضتنا علامة
خرجوا فلم تيبس على افواههم شمس ابتسامة
يتمردون على الظلام ويبصقون على نظامه
كان المقالح من فجر الثورة وحتى ماته شاعرا ثوريا، كان ارثه الثوري من نصيب هذا الشعب ودافعا نحو استقلاله ومتوجا لكرامته ومساندا لمقاومته لكل قوى الاستبداد والكهنوت وان تغيرت وجه الكهنة واسمائهم، فكان صوته الشعري ثورياً يحرض على الثورة ويشحذ الهمم، مهما بلغ البؤس ففجر الشعب، فاستوى لديه الوطن والقضية وكان محور اهتمامه الانسان بمظلوميته اينما حل، فنجده في قصيدة قف مكانك يتحدث برمزية مفرطة حول صاحب الحق والقضية واصالته المرتبطة بالمكان ليخاطبنا بقوله:
مكانك قف
لا تبرح الارض سًّمر عيونك
اقدامك العرايا
عليها.. وأهدابك الذابلات
إذا لم يكن لك بيت هناك
وكوخك اصبح مأوى لخيل الغزاة
تحسس على الارض قبرا ليأويك
يأوي رفاتك عند الممات
مكانك سمر خطاك
وإن هددوك
وأن عذبوك
وإن مزقوك
فلا تبرح الارض
لا تغترب.. لن تخور عظامك ان سلخوا لحمها
سوف تبقى جذورا
بظل القبور
وإن احرقوها تظل رمادا بوجه الصخور
وإن انت غادرت ارضك
مُت غريبا ستبقى معرى
تنقر عينيك كل الطيور
وتسخر منك النجوم
وتسخر منك العصور
كان صوت وحدس المقالح الشعري ينحاز بفطرته الوطنية صوب الكلمات التي تبني جيلا مقاوما يتسلح بعقيدة الفداء، ويجل اصحابها ويجعل من قصائده تاريخا لحركة النضال اليمني، فنجده في قصيدة الابطال يحيى بعرفان روح الفداء مخاطبا صناع الفجر من رجال السبعين الذين اسقطوا حصار صنعاء وأعادو لها زهو ثورتها المنتصرة بتضحياتهم الممهورة بدمائهم الزكية فنجده يقوا عن تضحياتهم.
اشرف منك صوت حر مات
وهو ينازل الظلام
ويحفظ الاطفال في عينيه بغمد الرايات
ووددت لو كنت الطريق
يعبرون فوقه الى الجبل
لو كنت صخرة تحمي صدورهم
من الاعداء
لو كنت لقمة او شربة ماء الى قوله اولئك المناضلين
اولئك المقاتلين
كم زرعوا الشمس على سمائنا
وثبتوا النجوم والاقمار
وثبتوا النهار
على طريق ايلول العظيم
اشعلوا الشباب
احرقوا الاعمار
صدوا جحافل القديم واوقفوا مسير العار
فكانتِ الاعمدة النبيلة البيضاء
وكانت ( السبعون)
اشرف ايام الخلود في ديارنا الخضراء
اخصب ما جادت به القرون
انصع مولود لارضنا الحنون
لأمنا صنعاء
كان المقالح اثناء حرب الجمهورية مع الكهنة يدرك طبيعة الحرب ومآلاتها وهي حالة متطابقة تماما مع ما نمر به اليوم في محاولة الكهنة الجدد لاسترداد معبدهم البائد الذي اقمنا عليه جمهوريتنا العتيدة فنجده يقول واصفاً ذلك الخطر:
(جنكيز خان) والمغول قادمون
الاهل والديار والبنون
غدا سيعدمون
إن لم نعد السور والخنادق
ونشرع البنادق
سترتدي المدينة السواد
ستغرق النساء في الحداد
سيرجع الفساد
الليل والارهاب والسجون
سيرجعون
إن لم نقف على الابواب في الجبال في المداخل
نقطع كل حية على حدودنا
نحفظ للبلاد فجرها.. نقاتل
نكتب بالدماء.. بالجراح
وثيقة الصباح
إلى السلاح إلى السلاح
يا ايها الرجال
يا ضمير شعبنا العظيم
يا حاملي رؤوسكم على الاكف في تصميم
يا من تقاتلون في الجحيم
انتم نهار الشمس في العيون
ولن تهون امة انتم بنوها.. لن تهون
تاريخنا امانة على اعناقكم والغد
اطفالنا.. اكف امهاتنا.. الى سمائكم تمتد
لا تجعلوها – يا شموسنا –خائبة ترتد
ردوا جحافل الاعداء
لا تغمضوا اعينكم
شدوا على جموعهم شدا
فانتم اليوم الذي يصول
انتم الغد الذي يثور لن يهدا
وانتم السلام والكفاح
الى السلاح الى السلاح.
كان المقالح ينظر الى الاستبداد والكهنوت بعين واحدة وموقفا واحدا، نسج لمقاومته العديد من القصائد الثورية، فكان يحرض على الثورة شمالا وجنوبا يحمل عنفوان الثورة الصاخبة في قصائده، ويصف اصحابها بالذئاب الحمر فيصف مقاومتهم للاستعمار والكهنوت بقوله:
ذئاب نحن فوق جبالنا المشدودة القامة
نصيد الفجر، ننسج للضحى، لنهارنا هامة
وننقش في جبين الشمس موكبه واعلامه
ونحفر للدخيل القبر، نسحقه واصنامه
ذئاب نحن، لا زرق ضمائرنا ولا حمر
نموت لكي تعيش بلادنا.. اطفالنا السمر
ونأبى ان تهون جبالنا، وترابنا الحر
فإما النصر نزهوا مواكبه او القبر
كيف لا يكون المقالح في شعره وموقفه مقاوما وهو المهموم بالوطن والمكابر بجراحه :
يمن واحدا
عشت احمله راحلا ومقيما
فسجل في قصيدته اليمن الحضور والغياب حاله كشاعر قضى عمره سائحا في محرب الوطن يفتديه بكلماته ويمهره بلغته الشعرية الباهرة فيقول:
في لساني اليمن
في ضميري يمن
تحت جلدي تعيش اليمن
خلف جفني تنام اليمن
وتحصوا اليمن
صرت لا اعرف الفرق بيننا
ايا يا بلادي يكون اليمن
ليطالعنا بقصيدة اخرى تشعرنا بعمق إحساسه وانتمائه للوطن فيقول:
يمتلكني حزن اليمانيين
يفضحني دمعهم
جرحهم كلماتي
وصوتهم استغاثاتي
كان المقالح دائما ينحاز لليمن يظهر بشاعريته المتأصلة ويرفض ان يكون بوقا للكهنة والمستبدين، يرفض دائما ان يساوم بقضيته وجمهوريته مقابل أي حياة قد تبدوا لغيره جديرة بالخيانة فيقول:
ضع السيف حيث تريد
هنا في فمي
هنا في دمي
ابغض الموت لكنني اتعشقه
حين يغدوا الخلاص
لجمجمتي من رماد الخيانة
وهو القائل
ان صلاتي لله
للشعب
للفقراء دمي
وفي قصيدة اخرى نجده يقول:
يتملكني حزن اليمانيين يفضحني دمعهم
جرحهم كلماتي
وصوتي استغاثتهم
يتسول في الطرقات الصدى
كلما قلت ان هواهم سيقتلني
ركضت نخلة الجوع في ليل منفاي
فانتفض العمر
وارتعشت في الضلوع دفوف الحنين.
وهو القائل:
يا وجه بلادي
يا وجه الفجر الطالع في قاع الموت
الفجر وعينيك دليلي في الاولى والاخرى.
فكان المقالح يكتب قصائدة المنقوشة بدماء الكلمات ليهديها الى الملايين من الجياع:
للملايين من الجياع
الخارجين كعظام من سواد القبر
للأرض التي اردتني كتابا ووردة
كان المقالح مشدودا بعشقه لصنعاء كاشفا عن مأساتها عبر العصور متطلعا الى تحررها ومدافعا عن كبريائها وحقها في الحياة، فكان كلما باعدته الحياة بعيدا عنها يقرب اليها اكثر بقصائده المنقوشة بدواوينه الزاخرة التي تحدثت عن هذه المدينة.
تضيق بساتين صنعاء
تغتالها تحت جنح الفساد الدكاكين
لم يبق من حائط لم يسر في الجنازة
لم تبك عيناه
لا احد من عصافيرها
سوف ينسى البساتين
كل البساتين مرسومة
في انحناءات حزن البيوت
ومزروعة في نوافذها
وعند صنعاء ومقاومتها، وحلم العودة وانتصار المقاومة ومشروعية الحرب والحب وقدسية المعركة نقف في محطتنا الاخيرة من هذه القراءة عند قصيدة لابد من صنعاء.
يوما تغنى في منافينا القدر
لابد من صنعاء وأن طال السفر
لابد منها.. حبنا اشواقها
تذوي حوالينا الى اين المفر
إنا حملنا حزنها وجرحها
تحت الجفون فاورقت وزكا الثمر
وبكل مقهى قد شربنا دمعها
الله ما احلى الدموع وما امر
وعلى المماويل الحزينة كم بكت اعماقنا
وتمزقت فوق الوتر
ولكم رقصنا في ليالي بؤسنا
رقص الطيور تخلعت عنها الشجر
هي لحن غربتنا ولون حديثنا
وصلاتنا حين المسرة والضجر
مهما ترامى الليل فوق جبالها
طغى واقعى في شوارعها الخطر
سيمزق الاعصار ظلمة يومها
ويلفها بحنانه صبح اغر
هو ذا يلملمنا من الغابات
من ليل الموانئ
من محطات البشر
يعيدنا لك يا مدينتنا
وفي افواهنا قُبل وفي الايدي زهر
• ورقة عمل مقدمة لندوة مؤسسة جذور للفكر والثقافة ضمن فعاليات معرض مأرب الثاني للكتاب.
اقرأ أيضاً على نشوان نيوز: مأرب: ملتقى اليمن تكتب ومركز نشوان يحتفيان بالمقالح واللغة العربية