قضية حنيش: 25 عاماً على التحكيم الدولي بين اليمن وإريتريا - ذكريات دبلوماسية
قضية حنيش في اليوبيل الذهبي مع مرور 25 عاماً على التحكيم الدولي بين اليمن وإريتريا: ذكريات دبلوماسية يسردها السفير أحمد حسن بن حسن
يصادف يوم 9 أكتوبر 2023، مرور 25 عاماً على صدور قرار التحكيم الدولي في قضية أرخبيل جزر حنيش في البحر الأحمر، ما بين الجارتين بحرياً الجمهورية اليمنية ودولة إريتريا، عندما قامت دولة إريتريا باحتلال جزيرة حنيش الكبرى في 15 ديسمبر 1995.
ونشب النزاع عسكرياً وسلمياً بعد ذلك، وتدخلت الوساطات الإقليمية والدولية من أجل إخماد هذا النزاع وتحويله إلى طريق التحكيم الدولي، الذي سيكون الفاصل للحقوق التي يدّعي فيها طرفي النزاع كل من الدولتين، حفاظاً على أمن وسلامة الملاحة البحرية في البحر الأحمر الذي لا شك فيه بأنه سيكون له تأثيراً كبيراً على السلم والأمن الدوليين، الذي هو من اختصاص مجلس الأمن في الأمم المتحدة.
وقد انتهزت هذه المناسبة لأسجل بعض الخواطر والذكريات عنها بحكم عملي سواء بالوزارة كنائب لرئيس دائرة مكتب الوزير ومسؤولاً عن هذا الموضوع فيه، ومن ثم قائماً بأعمال بالإنابة للسفارة اليمنية في أسمرا بعد تخفيض مستوي التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى هذا المستوى لثلاثة أعوام و3 أشهر.
المفاوضات قبل الاحتلال
ويأتي هذا النزاع أو الخلاف ما بين الجارتين الآنفتي الذكر في مباحثات فيما بينهما في الأشهر التي سبقت ذلك الاحتلال الإريتري لجزيرة حنيش الكبرى أي ما بين أكتوبر وحتى 15 ديسمبر 1995 يوم الاحتلال الإريتري لها، حيث كانت هناك مباحثات في عاصمتي كل منهما، قادها كل من المرحوم الدكتور نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية عبد الكريم الإرياني ونظيره وزير الخارجية الإريتري بطرس سلمون، بعد أن قامت شركة سياحية يمنية بمشروع سياحي في هذه الجزيرة، التي أثارت حفيظة الجانب الإريتري، وقامت قوات بحرية منها بتسليم ورقة غير رسمية إنذار وبخط عربي وركيك للشركة بالخروج منها، وعلى أساس أنها جزيرة إريترية مما أدى الأمر إلى قيام هذه المباحثات الثنائية في كل من صنعاء وأسمرا.
وقد سافرت مع وفد بلادنا المكون من د. الإرياني والأستاذ حسين الحبيشي عميد كلية بلقيس في الشيخ عثمان بعدن حتى عام 1967 ومدرسي فيها لهذا العام، ومروان نعمان وجعفر باصالح، ومحمد طه مصطفى. ولم أشارك في تلك المفاوضات لأنني كنت في مهمة أخرى بالسفارة. وعند العودة كانت إلى عدن بحيث نزل منها د. الأرياني لمقابلة الرئيس علي عبدالله صالح الذي كان متواجدا فيها وأعطاه ما حصل فيه من مباحثات، وبقية الوفد واصلت الطائرة لتقلهم إلى صنعاء. لتفاجئ الأولى بقيام الثانية بعدوانها على الجزيرة واحتلالها في التاريخ المشار إليه آنفاً.
درس دبلوماسي
عندما عينت لأول مرة في السفارة في بغداد، في أواخر السبعينات، ساءت العلاقات بين البلدين، بسبب اعتقال بعض البعثيين اليمنيين في صنعاء، واتهامهم بالمشاركة، في انقلاب جماعة الناصريين في 11 أكتوبر 1978م، وكانت وزارة الخارجية العراقية، تعرقل أي معاملة للسفارة. فقلت للسفير القدير غالب علي جميل، والدبلوماسي المحنك، والذي تعلمت منه الكثير أثناء عملي معه في بغداد أو كنائب لوزير الخارجية في عام 1981م: لماذا لا نرسل ذلك إلى صنعاء، حتى تعامل السفارة العراقية بنفس المنوال، تطبيقاً للمبدأ الدبلوماسي (المعاملة بالمثل). فأجابني بالقول إنه لا يمكن ذلك، لأن وظيفتنا هنا هي تحسين العلاقات وتنميتها لا تعكيرها، ولابد أن نرسل لصنعاء، ما يخدم هذا الهدف وليس تعكيرها.
وكان أول درس دبلوماسي لي، استفدت منه فيما بعد في عملي الدبلوماسي، وبالذات في أسمرا، عندما كانت العلاقات بين البلدين قد أصبحت بالحضيض، بسبب الحرب بينهما، وكان من المفترض أن يتم قطع العلاقات وهذا منطقي وشائع فيما يحدث بين الدول في مثل الحالات. إلا أن هذين البلدين احتفظا بسفارتيهما مع تخفيض التمثيل الدبلوماسي.
تسليم الاحتجاج للسفير الإريتري
وقبل الذهاب للعمل في أسمرا، واندلاع الحرب، قام دولة د. عبد الكريم الإرياني نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية بتكليفي، حيث كنت أعمل في مكتبه كنائب لرئيس دائرة المكتب، بتسليم الاحتجاج للسفير الإريتري بصنعاء محمود حروي، على ما قاموا به من عدوان غادر، وسرعة تسليم الجرحي، والأسرى، وجثامين 3 شهداء للقوات اليمنية التي كانت مرابطة هناك.
فبدأ بعصبية، يشكو من الرأي العام اليمني اتجاههم، وأن خطباء المساجد يحرضون ضدهم، وأنهم أصبحوا حبيسي منازلهم، خوفا على حياتهم.
وكان ردي عليه: "ماذا تتوقعون منهم، أن يرحبوا بعدوانكم، وما قمتم به، فلا لوم عليهم. فاللوم عليكم وما قاومت به بلادك من عدوان."
وأضافت له: "لكن الآن مهمتي ومهمتك، هي العمل الدبلوماسي، على امتصاص كل ردود الفعل السلبية، رسميا وشعبيا، وحتى لا تزداد العلاقات سوءا، والوصول بها إلى قطعها، وسردت له قصة بغداد الانفة الذكر، لتذكيره بمهام الموظف الدبلوماسي، قلت له: "لا تصيح، فالصياح لابد أن يكون من جانبي، نظرا لما قمتم به. معنا شهداء وجرحي وأسرى، ومن حق الرأي العام أن يكون غاضبا. لكن أنا دبلوماسي واعرف واجباتي وما أقوم به."
جهود الوساطة الإقليمية والدولية
وهنا جاءت الأصوات الإقليمية والدولية المنادية بالسلام والتدخل بوساطاتها، حيث استقبلت عاصمتي البلدين وفود تلك الوساطات والتي كانت من مصر الشقيقة ممثلة بوزير خارجيتها عمرو موسى، وإثيوبيا الصديقة ممثلة بوزير خارجيتها سيوم مسفن، والجامعة العربية التي كان يرأسها في ذلك الوقت السياسي المصري المخضرم أحمد عصمت عبد المجيد، والأمم المتحدة، والتي كان يرأسها الأكاديمي والسياسي المعروف الفرنكفورني المصري أيضاً بطرس بطرس غالي.
وينجح مقترح الأمم المتحدة والتي اقترحت بأن تكون فرنسا هي الوسيطة والمراقبة فيما بعد لاتفاق التحكيم بين البلدين، والذي وافقت عليه فرنسا ووُقع في باريس في 3 أكتوبر 1996 وكان قد سبقه توقيع اتفاق المبادئ للتحكيم في 21 مايو 1996، وبحضور تلك الأطراف كشهود على الاتفاق، والذي بموجبه قبلت فرنسا أن تكون الراعية لهذا الاتفاق، وعيّنت له السفير الفرنسي المخضرم فرنسيس جوتمان المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي جاك شيراك، وفتحت لها سفارة في إريتريا بعد أن كان التمثيل الدبلوماسي الفرنسي فيها مقتصراً على قنصلاً فخرياً.
وكان السفير الفرنسي دي لفيرت في أسمرا يمكث شهراً في فرنسا وشهراً في أسمرا. وعند عودته يتم اللقاء لمعرفة آخر المستجدات.
حفل استقبال بمناسبة التوقيع
وأقامت سفارة بلادنا في أسمرا حفل استقبال بهذه المناسبة حضره فخامة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بعد اقتراح من السفارة وإبلاغ الداخل به عند مقابلتي لمدير إدارة الشرق الأوسط حامد حُمد والذي تمت الموافقة عليه والذي أصبح بمثابة الناطق الرسمي للجانب الإريتري للإعلام بشكل عام فيما يتعلق بهذه القضية مع د. أحمد حسن دحلي الفرنكفورني والذي تولى رئاسة صحيفة إريترية بالخارج في لندن سميت الفجر الجديد كمنبر خارجي لأريتريا وبالذات في هذه القضية، والتي صدرت في حدود 15 عددا، وتوقفت وحاليا مدير المركز الإريتري للدراسات الإستراتيجية، من منطلق أنه أي الحفل يدلل للعالم لحدث التوقيع بأن البلدين وإن كانا يسيران نحو النوايا الطيبة للجوار والسلام فيما بينهما مستقبلا.
وكان ذلك الحفل في 14 أكتوبر 1996. إلا أن الخبر لحضور فخامته في الداخل لم يشر إلى مناسبة التوقيع وإنما إلى مناسبة عيد الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، وتم استدعائي للخارجية وقابلت الأخ حامد حُمد مرة أخرى للتوضيح له على أساس أن الحفل هل كان بمناسبة التوقيع أو 14 أكتوبر، وكان ردي عليه أن الدعوات المرسلة هنا في أسمرا كانت بمناسبة التوقيع، والخطاب الداخلي استلزم ذلك لان ما جرى بين البلدين لازالت المشاعر الشعبية والرأي العام غاضبان. والامر الذي جعله يتفهم خلفيته الاعلامية ما بين اسمرا وصنعاء.
وفي بداية نشوب هذا النزاع، قامت وزارة الخارجية اليمنية في الحال بالبحث في أرشيفها عن الوثائق والأدلة، واستدعاء بعض الخبراء والأساتذة الأكاديميين في هذا المجال لأخذ المشورة، وعلى رأسهم الدكتور حسين علي الحبيشي. وضمهم إلى المختصين بالوزارة، وعلى رأسهم سعادة السفير مروان نعمان الذي كان يشغل في ذلك الوقت رئيس دائرة أفريقيا. والذين كانوا فيما بعد ضمن اللجنة القانونية الرسمية المختصة لهذا النزاع، مع آخرين من داخل الوزارة وخارجها. والتي من شأنها أن تُكون الجانب اليمني في التحكيم.
وكذا الخبراء القانونيين من الخارج، مثل القامة القانونية المصرية الدكتور مفيد شهاب، الذي نصح فيما بعد، عند اختيار المحكمين عن الجانب اليمني، أن يكون أحدهم الدكتور أحمد القشيري الفرنسي الجنسية، المصري الأصل، وأحد المحكمين في قضية طابا المصرية ما بين مصر وإسرائيل. وهو ما تم بالفعل، حيث شكلت لجنة التحكيم الدولي من 5 قضاة: اثنان عن الجانب اليمني، واثنان عن الجانب الإريتري، أحدهما بريطانية، والآخر أمريكي. والـ 4 قضاة يختارون رئيساً لهم ليس من بينهم، وإنما من خارج اللجنة، والذين اختاروه رئيس محكمة العدل الدولية. والتي خلفته كرئيس لمحكمة العدل الدولية القاضية البريطانية التي اختارها الجانب الإريتري.
وشُكلت اللجنة رسمياً فيما بعد في مجلس الوزراء في 4 نوفمبر 1996، من الأخوة التالية أسماؤهم:
- الدكتور عبد الكريم الارياني نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية
- عبدالله أحمد غانم وزير الشؤون القانونية وشؤون مجلس النواب
- الخبير القانوني المخضرم حسين الحبيشي
- القانوني القدير اسماعيل أحمد الوزير
- الدكتور الأكاديمي الوزير عبدالواحد عزيز الزنداني
- السفير جعفر باصالح النائب في البرلمان
- القاضي القدير نجيب عبد الرحمن شميري
- السفير مروان عبدالله نعمان
- السفير أحمد عبدالله الباشا
الوزير المفوض عبدالله الصايدي عضو دائرة مكتب الوزير والذي تولى فيما بعد مدير الدائرة القانونية و نائب الوزير والمندوب الدائم في نيويورك ووزير الخارجية فيما بعد .
وبحكم عملي في هذه الفترة، كُلفت من المرحوم د. الارياني، بالبحث عن تلك الوثائق المنشودة والمطلوبة لدعم التحكيم في أرشيف الوزارة. وقد وجدت بعض الوثائق الدالة على الممارسات السيادية اليمنية في هذه الجزر المتنازع عليها وغيرها من الجزر الأخرى. ولكن من أهمها وثيقة مفادها بأنه كانت إثيوبيا، قبل استقلال إريتريا عنها، كانت قد احتجزت 3 صيادين يمنيين في جزيرة حنيش. الأمر الذي جعل اليمن، ممثلة في وزير خارجيتها حينذاك بالمرحوم عبد الله الأصنج، بالقيام باستدعاء سفراء الـ 5 دول الدائمة في مجلس الأمن ورفع شكوى إلى الأمم المتحدة أيضاً بذلك العمل الذي قامت به إثيوبيا الذي خرق سيادتها على جزرها.
وعند رفعه إلى المرحوم نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الدكتور الأرياني، كلفني مرة أخرى بالبحث عن رد الإثيوبيين على تلك الشكوى. إلا أنه بعد البحث لـ 3 أيام، لم نجد شيئاً. حينها كلفني بإرسال ذلك إلى المندوب الدائم لبلادنا في الأمم المتحدة المرحوم السفير عبد الله الأشطل لمعرفة ما إذا كان هناك رد إثيوبي على الشكوى اليمنية في الأمم المتحدة الآنفة الذكر.
وبالفعل قد تم ذلك، والذي استخرج للوزارة الرد الإثيوبي، والذي كان مفاده بأن الاعتقال للصيادين اليمنيين كان من منطلق أن الإثيوبيين اعتبروهم إرهابيين إريتريين. هذه الواقعة جاءت في منطوق الحكم بين البلدين تحت الفقرة رقم (270). في نفس العام 1976 احتجز أحد قوارب الدوريات البحرية الأثيوبية ثلاثة صيادين يمنيين، فاحتج اليمن لدى مجلس الأمن بالأمم المتحدة، على "هذا العدوان السافر والانتهاك الفاضح لسيادة الجمهورية العربية اليمنية".. وكان رد أثيوبيا بأن "(زوارق خفر السواحل الأثيوبية كانت تقوم بأداء مهامها في نطاق الاختصاص القضائي الأثيوبي").
تجربة دبلوماسية فريدة
وبعد بضعة أشهر منذ بداية نشوب هذا النزاع، كنت مسؤولاً عن تجميع وثائقه في مكتب الوزير، وحضور الاجتماعات المسبقة لاجتماعات الخبراء والمختصين القانونيين. والمشار إليها سابقاً قبل تشكيل اللجنة القانونية لبلادنا رسميا وحتى إبريل 1996.
وبعد تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي ما بين البلدين من مستوى سفير مقيم إلى مستوى قائم بالأعمال بالإنابة، وسحب السفراء، لينضم سفير بلادنا السابق في إريتريا أحمد عبد الله باشا، فيما بعد إلى اللجنة القانونية ورئيساً لدائرة مكتب الوزير، وتعييني في أسمرا في إريتريا كرئيس للبعثة تحت ذلك اللقب، والذي استمر حتى صدور قرار التحكيم الدولي في 9 أكتوبر 1998. وقد سلمت كل الوثائق والأدلة التي كان قد تم تجميعها وتم تخزينها بدواليب حديدية ضد الحريق في دائرة مكتب الوزير إلى الذي حل محلي الأخ محمد العشبي (سفير بلادنا حالياً في باكستان).
وقد كانت هذه التجربة الدبلوماسية لي فريدة وجديدة، لأن ظروفها غير الظروف الطبيعية لأي علاقات دبلوماسية بين الدول، وتحتاج نوعاً من الخبرة الدبلوماسية التي تتسم بمحاولة إطفاء أي تصعيد نحو تعكير صفو العلاقات بين البلدين الذي انفرج باتفاق التحكيم في باريس، وحتى لا يكون له تأثير على سير التحكيم الدولي بينهما نفسه. وقد ربما يصل إلى العرف الدبلوماسي "بيرسون نن جراتا" أي شخص غير مرغوب.
احتلال جزيرة حنيش الصغرى
وفي أثناء العمل باسمرا هناك، كان هناك تصعيداً إريترياً جديداً والمتمثل في احتلال جزيرة حنيش الصغرى من قبل إريتريا في شهر أغسطس 1996،اي ما بين توقيع اتفاق المبادئ واتفاق التحكيم اللذين وقعا في باريس والمشار إليهما آنفاً، والذي أُبلغت به جمهورية فرنسا الصديقة عبر وسيطها السفير فرنسيس جوتمان للقيام بذلك ورفعه إلى مجلس الامن و وزارة الدفاع اليمنية ، والذي تدخل بقيام إريتريا بانسحاب قواتها منها، لأن اليمن لم يوافق على ذلك، وأنه يرى ذلك بأنه سيؤدي إلى تصعيد عسكري جديد من شأنه أن سيؤثر على التحكيم الدولي وستعود الأمور إلى نقطة الصفر في هذا النزاع وعلى الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
اتصالات مع السفارة الأمريكية
وفي هذا السياق، كانت هناك توجيهات من الوزارة الموقرة إلى سفارتنا في أسمرا بإجراء اتصالات مع السفارة الأمريكية وإبلاغها بذلك الاحتلال الجديد، وأن اليمن في هذه المرة لن تقف مكتوفة الأيدي لرد الفعل في ذلك مثل المرة الأولى، وأن يقوموا بنصح اصدقائهم الإريتريين بالخروج من الجزيرة.
إلا أن السفير روبرت هوديك والذي كان يميل إلى الطرح الإريتري، أحالني إلى مقابلة مع المسؤول السياسي في سفارة بلاده، بول كيب، لدرجة تمت المقابلة في حديقة السفارة وليس في مكتب كما هو معتاد. وتم إبلاغه بذلك، والذي كان رده بأن المراقبة الفرنسية ارتكبت خطأً بانها لم تقم عند قبولها بالمراقبة بالتفتيش على أرض الجزر عملياً، وأن إريتريا تتدّعي الآن بأن قواتها كانت هناك قبل 15 ديسمبر 1995، مثلها مثل قواتها في حنيش الكبرى، وأنهم، أي الأمريكان، لا يعرفون أين الحقيقة.
وكان ردي عليه، أن العالم يعيش في القرن 21 وفي أجواءه العديد من الأقمار الصناعية ومنها الأمريكية، وعليهم العودة إليها لمعرفة الحقيقة، والذي كان هذا الرد محل شكر واستحسان قيادة الدولة والوزارة الموقرة.
جهود السفير جوتمان
وقد بذل السفير جوتمان مجهوداً كبيراً ورحلات مكوكية ما بين صنعاء وأسمرا هدفها إطفاء هذه الأزمة التي طرأت على التحكيم الدولي قد تؤدي إلى فشله وخاصة وانه لايزال في بدياته الأولى، وإقناع الجانب الإريتري بالانسحاب منها، التي قد تؤدي إلى وقفه كما أسلفنا، والذي هو تحت رعاية بلاده، لدرجة أنه عندما حمل الرد الإريتري إلى صنعاء بخروجها من حنيش الصغرى وفي طائرته المتجهة إلى صنعاء كان راديو أسمرا يعلن الانسحاب منها، وأنتهى هذا الحدث الجديد بانسحاب الاريتريين من حنيش الصغرى.
واقعة الخريطة السياسية
وهناك واقعة أخرى أثناء التحكيم، وجاءت في نطق محكومة، وهي أن إريتريا كانت قد أصدرت خريطتان سياحية وأخرى سياسية بعد الاستقلال، الأولى السياحية أُشير فيها إلى المطبعة لصالح المؤسسة السياحية الإريترية، والأخرى لم يُشر فيها إلى مصدر طباعتها أو المستفيد من الطباعة مثل الأولى، فقام الجانب اليمني بتقديمها إلى التحكيم وعلى أساس أنهما تضمنتا بأن جزر النزاع هي تابعة لليمن، إلا أن الرد الإريتري حول الخريطة السياسية كان بأنها لا تعود لحكومتها، وأقر التحكيم هذا الرفض لأن الدليل مفقود، أي اسم المطبعة والمستفيد منها، أي أريتريا.
كما وردت توجيهات من الوزارة الموقرة إلى السفارة باسمرا بالبحث عنها في إريتريا من جديد وإيصالها بتقرير ومعرفة مصدرها داخل إريتريا.
وتم البحث عنها لفترة ولم تفلح السفارة بذلك، كأنها فص ملح وذاب، إلا أنه تم اللقاء مع القائم بالأعمال بالنيابة الأمريكي دونالد ياماموتو - أصبح فيما بعد سفيرا لبلاده في جيبوتي واديس أبابا ومساعد وزيره للشئون الأفريقية - في مكتب السفير بسفارته وإذا بي ألاحظ الخريطة المطلوبة قد أصبحت معلقةً في المكتب بدلاً عن الخريطة السياحية، التي كنت أعرف أنها معلقة هناك قبل هذا اللقاء في لقاءات سابقة في السفارة.
وفي نهاية المقابلة استفسرت منه عن هذا التغيير للخريطة في حائط المكتب، فأجاب أن هذه الخريطة واضحة ولا يوجد فيها الكثير من الرسومات السياحية التي تؤدي إلى اللبس، فطلبت منه الخريطة لتصويرها، فسألني ليس لديك مثلها، فأجبت أنها في البلاد. وقد توجد واحدة أخرى في المخازن وطلب من مديره إحضارها والذي كان إريترياً، والذي كان قد تحجج بأنه زجاجها مكسور ومع هذا تم تسليمها إليّ، وتم إبلاغ الداخل بالحصول عليها وكانت التوجيهات إرسالها بتقرير ويدوياً، إلا أن السيد ياماموتو قد اتصل بي بعد ساعتين يطلب مني إعادة الخريطة، فأبلغته بإنني بصدد تصويرها، فقال برجاء إعادتها إلى سكرتيرتي وليس إلى أمين المخازن الإريتري، لأنني مسافر بعد ساعتين.
وبالفعل تم إرسالها يدوياً وبتقرير بما حصل مع الأخ علي عبادي برحلة سرية إلى البلاد لم يعرفها إلا أنا وهو فقط، وتم ترتيب سفره عن طريق أديس أبابا وصنعاء والعودة واعادتها بعد عودته، ومن ثم تم تقديمها من جديد إلى المحكمة وبتفاصيل ما حصل. وتأتي هذه الواقعة في منطوق الحكم بين البلدين تحت الفقرة رقم (386).
إضافة الى ذلك تحاجج اليمن بأن خريطة بعينها، والتي أدعت أرتريا أنها أعدت لوزارة السياحة الإريترية بواسطة شركة خاصة، وتحتوي على عدد من التفاصيل غير الدقيقة، قد تم في الواقع توزيعها على البعثات الأجنبية بما فيها بعثتي اليمن والولايات المتحدة الأمريكية وبأنها "مثبتة في مكاتب الحكومة الإريترية بأسمرا" وهذه الإفادة لم تجابه بمعارضة. وتلاحظ المحكمة أن هناك خريطة أصدرت في زمن أسبق من قبل إرتريا عقب استقلالها ولم تعين لإريتريا كل الجزر التي تدعي بها الآن).
ذكرى مباركة
واذكر بهذا الصدد قام الرئيس افورقي بزيارة الى عدن في اخر شهر اكتوبر 1998 أي بعد 20 يوما على صدور الحكم المشار اليه انفا، وكنت مرافقا له بهذه الزيارة، والتي زار فيها مدينة سيئون في حضرموت ايضا، وكان قرار التحكيم قد صدر وهو في ايادي المرحوم د. الارياني لاطلاعه عليه في المعاشيق، واذا يتصل بي الى فندق موفمنبيك ويقول لي مبروك، موضوعك للخريطة جاء في قرار التحكيم، اكتب تقرير بالتفصيل لما حدث لهذا الموضوع وهو ما تم.
الخلاف الحدودي بين إريتريا وإثيوبيا
ومن حسن الطالع أن ينفجر الخلاف الحدودي ما بين إريتريا وأثيوبيا ليصبح الخلاف الرابع مع دول الجوار بدءًا بالسودان ثم بلادنا ثم جيبوتي ثم الأخيرة أثيوبيا، الذي كان له تأثيراً على سير التحكيم، حيث انشغلت إريتريا بالمستجد الجديد والذي كان حرباً بين البلدين بمعنى الكلمة، وهو النزاع الإريتري/الإثيوبي بسبب المشكلة الحدودية بادمي وزالامبسا. وتُعتبر هذه الدول الأربعة المجاورة لإريتريا السودان واليمن وإثيوبيا وجيبوتي هي الدول الأولى التي اعترفت باستقلال إريتريا حيث تم تحرير كامل التراب الإريتري في 24 مايو 1991 من إثيوبيا أعقبه تنظيم استفتاء شعبي تحت إشراف الأمم المتحدة انتهى بإعلان الاستقلال عام 1993.
شركة إندرياكو
أيضاً من ذكريات التحكيم والعمل بأسمرا، كان إريتريا قد جلبت شركة أمريكية اسمها إندرياكو لاستكشاف الغاز والبترول في منطقة النزاع، فُطلب من السفارة معرفة إحداثيات منطقة الكشف والاستخراج ومن أجل معرفة هل تقع في منطقة النزاع أو في منطقة أخرى. وكان من حسن الحظ أنها عملت معها شركة مصرية من الباطن في هذا العمل، التي زودتنا بطريقة خاصة باحداثيات منطقة الكشف، والتي تم إرسالها إلى الداخل، والتي بموجبها أظهرت أنها في منطقة النزاع. وعليه قامت بلادنا برفع احتجاجها إلى الشركة المعنية عبر مندوبها في أسمرا الذي سلمته ذلك الاحتجاج المرسل من الداخل، بالإضافة ما قامت به الوزارة من جهتها مع الموضوع وتم إجلائها وعدم مواصلة أعمالها.
الشكر والتقدير
واذكر بأن هذه القضية قد عمل فيها ومن أجلها الكثير من رجال الدولة والمختصين والأكاديميين والخبراء يستحقون الشكر الجزيل والتقدير والعرفان لما قاموا به وحققوا النصر الدبلوماسي الأول بعد قيام الوحدة اليمنية المباركة في 22 مايو 1990 - مثلما كان النصر الأول بقيادة القامة اليمنية السياسية محسن أحمد العيني بعد ثورة 26 من سبتمبر 1962 باعتراف النظام الجمهوري في الأمم المتحدة في 20 ديسمبر 1962 - بقيادة القامة اليمنية السياسية الأخرى المرحوم الدكتور عبد الكريم علي الإرياني، نائب رئيس وزارة الخارجية ومساعده الأول الأستاذ الخبير القانوني اليمني المرحوم حسين علي الحبيشي نائب رئيس الوزراء المستشار القانوني السابق رحمهم الله جميعاً، وآخرين من قضى نحبه واخرين أطال الله في أعمارهم منهم:
- الأستاذ الوزير عبد الله أحمد غانم
- الأستاذ الوزير إسماعيل أحمد الوزير
- الكابتن البحري سعيد اليافعي وزير النقل سابقاً
- د. الوزير عبد الواحد الزنداني
- الكابتن البحري والوزير على حميد شرف
- العالم الفلكي والوزير محمود صغيري
- الدكتور عبد الهادي الهمداني نائب مدير مكتب رئاسة الجمهورية
- السفير عبده علي عبد الرحمن نائب وزير الخارجية
- السفير غالب علي جميل وكيل الوزارة للشؤون السياسية
- السفير والقانوني مروان عبد الله نعمان رئيس الدائرة الأفريقية
- السفير في إيطاليا محمد عبد الله الوزير في حينه
- السفير عبد الله الصايدي نائب الوزير والوزير فيما بعد
- السفير جعفر باصالح عضو هيئة رئاسة البرلمان
- السفير أحمد عبد الله باشا
- القاضي نجيب عبد الرحمن الشميري
- الكابتن البحري عبد الله رجب
- السفير عبد القادر محمد هادي نائب رئيس دائرة افريقيا في حينه رئيس دائرة مكتب وزير الخارجية حاليا
- الدكتور الأكاديمي في جامعة صنعاء والمؤرخ سيد مصطفى سالم، اليمني الجنسية المصري الأصل
- الأخ أحمد كمال محمد نعمان الذي قام بترجمة منطوق الحكم إلى العربية ترجمة احترافية بالرغم من صعوبتها القانونية
- كل أعضاء دائرة مكتب الوزير والذين شكلوا خلية نحل من العمل في بداية هذه القضية وأصبحوا فيما بعد سفراء منهم:
- محمد طه مصطفى (سكرتير معالي الوزير د. الأرياني) سفير بلادنا في بروكسل والاتحاد الأوروبي حالياً
- محمد العشبي سفير بلادنا في باكستان حالياً
- عبد الله الدعيس السفير في بيروت حالياً
- السفير على على السوسوة
- السفير درهم الصايدي
- السفير سمير محمد خميس
- السفير خالد اسماعيل الاكوع
- السفير علي قاضي
- السفير عبد الله الفقيه
- محمد عتيق
- وفؤاد راصع
وبعدهم من موظفي المكتب في اواخرها مثل السفير سليم التميمي والسفير جمال عوض ناصر
وموظفي دائرة افريقيا تحت المايسترو السفير مروان نعمان وفي مقدمتهم السفير احمد عمر... الخ
وكذا العاملين بالسفارة في أسمرا:
- الأستاذ القدير محمد مرشد عباد المترجم الخاص الرئيس قحطان الشعبي سكرتير مجلس الوزراء في عهدى دولة رئيسي الوزراء محمد على هيثم وعلي ناصر محمد، بعد الاستقلال للشطر الجنوبي من الوطن مباشرة
- محمد بارأس
- ناصر العاقل
- عيادة بخيت
- صالح حسين اليافعي
- علي الجوفي
- خالد حزام
- علي عبادي الذي قام بمهمة الى الداخل في هذه القضية وجاءت في حكم التحكيم والتي أشرنا إليها أنفاً.
اعتذار
واعتذر لمن قد سقط ذكر اسمه سهواً، ممن قام بعمل جليل ومميز في خدمة هذه القضية الحيوية في تاريخ اليمن المعاصر. والتي نال فيها اليمن سيادته على جزره وتحديد الحدود البحرية مع جارتها البحرية إريتريا بموجب قرار التحكيم الدولي الذي كان على مرحلتين هما مرحلة السيادة على الجزر ومرحلة تحديد الحدود البحرية، ليشكل البلدان نموذجاً يحتذى به في المنطقة في حل مشاكلها عن طريق الحوار والطرق السلمية والقانونية لفض النزاعات فيما بينهم، بالرغم من أنه لازال هناك عائقاً يواجه هذا الطريق الذي سلكته كل من الجمهورية اليمنية ودولة إريتريا، ألا وهو مشكلة الصيد التقليدي الذي له تفسير أخر من قبل إريتريا، والذي جاء في قرار التحكيم الأول واعطاه هذا الحق لاريتريا، والثاني والذي اعطاه لليمن، ونؤكد هنا بأن البلدان باستطاعتهما التغلب على هذه المشكلة بالحوار البناء والحكمة الدبلوماسية وقانونياً، مثلما نجحا سابقاً في هذا التحكيم الدولي الذي مر عليه 25 عاماً.
وختاماً، أدعو الله أن يوفق بلادنا وشعبنا إلى المزيد من التقدم والازدهار، وأن يحفظها من كل سوء، وأن يحقق لها الرخاء والسعادة.