آراء

مع البخاري في صحيحه.. قراءة سياسية

د. ثابت الأحمدي يكتب: مع البخاري في صحيحه.. قراءة سياسية


من المعروف أن الإمام البخاري ولد سنة 194هـ، في مدينة بخارى، إحدى حواضر إقليم خراسان الفارسي، عقب قيام دولة بني طاهر الشيعيّة، نسبة إلى طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان، من الفرس المتحالفين مع العباسيين، سنة 193م، إبان حكم الخليفة الأمين العباسي، وتوطدت أكثر أثناء حكم المأمون بعده. والخليفة المأمون هو الذي مكن العلويين وحلفاءهم، ودعم التشيع، تقربا لهم، وبحسب المسعودي في مروج الذهب: "كان المأمون يظهر التشيع".

وأيضًا ردا للجميل؛ حيث قاد طاهر هذا جيش المأمون أثناء صراعه مع أخيه الأمين، فحاصر بغداد أولا في عشرين ألفا من الجيش ثم قتل الأمين، فولاه المأمون بلادَ خراسان كاملة، فاتخذ من نيسابور قصبة له، وتوسعت أطماعه، ليعلنَ بعد ذلك خروجه عن المأمون واستقلاله بالبلاد سنة 207هـ، مستغلا نفوذه فيها، وإن لم تتحقق أمنيته هذه.

وقد توارث أبناؤه الحكم من بعده، برضا من المأمون نفسه، وزاد توسعهم نحو بلاد الري وكرمان حتى الحدود الهندية، وأيضا حكم الطاهريون بعد ذلك ما عُرف بأقاليم الجبال وأرمينيه وأذربيجان، مرتبطين شكليا بالخلافة العباسية في بغداد، وإلى جانب ذلك كان لهم حضور واسع في إدارة بعض المناصب في بغداد عاصمة الخلافة نفسها.

كان بنو طاهر متشيعين، تشيعًا سياسيًا، فنشروا ــ من ثم ــ ثقافة التشيع بخرافاتها وأساطيرها، وجعلوا منها أيديولوجيا دينية بالنسبة للعامة من الناس، وفي نفس الوقت موالين دولة الخلافة في بغداد؛ بل ومناصرين إياها، فانتصرت الثقافة على السياسة في المحصلة النهائية. سقطت السلطة السياسية، وبقيت السلطة الثقافيّة..! علمًا أنّ ثمة حضورًا واسعًا لأهل السنة فيها أيضًا، وقد كانت واحدة من أهم حواضر العلم في الدولة الإسلامية. وقد حكم هذه المنطقة خمسة أمراء، فيما بين: 205، وحتى 258هـ. ووسط هذه البيئة نشأ الإمام البخاري.

كانت للبخاري ميولٌ علميّة من صغره، فحفظ القرآن الكريم، واهتم بالحديث النبوي الشريف، ثم رحل إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبدأ بالتصنيف والتأليف، ثم واصل رحلاته في بقية الأقطار الإسلامية الأخرى، وأثناء هذه الرحلات المتعددة كان يسمع الكثير من الخرافات والأساطير التي يسميها الشيعة أحاديث نبوية، تبناها العلويون أنفسهم بمساعدة العباسيين، ما دفعه إلى التحقيق والتدقيق والتمحيص في الأحاديث النبوية، فجمع صحيحه، المسمى "الجامع الصحيح" من أصل 600 ألف حديث، متبعًا أدقَّ منهجيّةٍ علميّة، ليخرج في النهاية بـ 7593 حديثا صحيحا منها. ولا شك أن أغلب مردوداته مما يُسمى أحاديث كانت من اختراعات الشيعة ووُضّاعها. فبدأت معارضته السياسية للشيعة، بعد أن أدرك حقيقتهم وحقيقة مشروعهم، فاتخذ منهم موقفا صارمًا، إلى حد قوله في كتابه "خلق أفعال العباد": "ما أبالي أصليتُ خلفَ الجهمي والرافضي، أم صليتُ خلفَ اليهود والنصارى..".

لقد هدم البخاري كل ما جمعه الشيعة مما يسمونها أحاديث وفضائل في الإمام علي، وفيما يُسمى آل البيت، داحضًا تلك الأساطير بالحقائق العلمية الدامغة، ومفندا تلك الروايات، وهي بالآلاف، من خلال حذقه لعلم الرجال ولقواعد الجرح والتعديل. ويُقال أنه هدم لقاضي بغداد "الواقدي" لوحده اثني عشر ألف حديث، وكان من الموغلين في التشيع، ولطالما كان يرد أحاديث موضوعة بأقلام بعض الفقهاء المتشيعين بعد أن تعبوا على تسويدها الليالي الطوال..!

كما كان البخاري أول من ذكر في كتابه الجامع الكبير أن عبدالله بن محمد بن الحنفية "أبو هاشم"، وهو أحد كبار حلفاء الدولة العباسية من أتباع الفرقة السبئية. وكان مُغررا على كثير من الناس. كذلك قال عن حديث الغدير: في إسناده نظر. وتضعيف حديث الولاية من الخطورة بمكان بالنسبة للشيعة، لأن الولاية عندهم ركن ركين، وعليها تدور كل أفكارهم. أيضا دحض ادعاء العلويين الوصية من الرسول لأقربائه في مرض الموت التي يرجون لها، ويدعون أن عمر بن الخطاب قد التفّ على الوصية.. إلخ.

من هنا بدأت مضايقته وملاحقته حيثما حلّ، فتم طرده من العراق، حاضرة الدولة العباسية إلى نيسابور، سنة 250هـ، وهناك لقي الترحاب الكبير من الناس، فلم تكن نيسابور موغلة في التشيع كالكوفة مثلا، وظل يحدث الناس بها مدة، حتى تم منعه من الحديث في المسجد، وألزمته سلطة نيسابور إقامة داره، بعد أن قام بهدم وسحق الخرافات الشيعية التي طالما ظلوا يروجون لها طويلا من قبل، كما نشطت الحملات ضده من قبل بعض العناصر الباطنية من الشيعة والعلويين؛ بل والعباسيين أيضا بعد أن ذاعت شهرته وقويت حجته، ومن بين الاتهامات الباطلة التي دمغه بها خصومه: القول بخلق القرآن، لتشويه صورته لدى أهل الحديث من أتباعه أولا، نظرًا لحساسيتها عند المحدثين آنذاك.

ووفقا للباحث المصري صابر مشهور فقد تعرض البخاري لكثير من الشتائم؛ بل والتكفير في أكبر عشر حواضر إسلامية، في الوقت الذي لم يتعرض بقية المحدثين أو الفقهاء من أقرانه لأي شتيمة، لا الإمام مُسلم، ولا النسائي ولا أبو داود ولا أحمد بن حنبل. جميع الحملات استهدفت صحيح البخاري دون غيره، ولا تزال الحملة قائمة إلى اليوم. وقد قاطع الناسُ آنذاك الإمام البخاري باستثناء الإمام مسلم، وأفتى فقهاء الوالي أنه قد أظهر خلاف السنة، ثم طرده الوالي من منزله إلى خارج المدينة، فنصبَ له خيمة خارج المدينة لتدبير أمره، ثم توجه إلى بخارى، ولأن بخارى تحت سلطتهم، فتم طرده من بخارى، وهي مسقط رأسه، فغادرها إلى مدينة أخرى تُدعى: بيكند، فلاحقته الشرطة هناك وضايقته، فاضطر للرحيل إلى قرية أخرى اسمها خرنتك لدى بعض أقاربه، معتزلا حلقات العلم والسياسة، ومع هذا تمت ملاحقته وهو مريض مُقعد لا يقوى على الحركة، منهك القوى، متشردا، وحين عزم الرحيل لمغادرة خرنتك المدينة الصغيرة، لفظ أنفاسه الأخيرة بعد خطوات قليلة.

لقد كان الشيعة بجميع فروعهم آنذاك يرون في البخاري خطرا عليهم، فنالوا منه حيا، كما ناولوا منه ميتا بعد ذلك؛ لاسيما وأن الفترة ما بين منتصف القرن الثالث إلى الخامس الهجري فترة الطوائف والدويلات الشيعية في أرجاء الدولة الإسلامية: البويهيون في فارس، الطبريون في الجيل والديلم، دولة إسماعيل بن يوسف في الحجاز، دولة الأخيضر النجدي الزيدية في نجد، الهادوية في اليمن، القرامطة في الأحساء، الفاطميون في مصر، وكل هؤلاء شيعة متطرفون، جعلوا من الثقافة استراتيجية كبرى في توطيد مشروعهم السلالي أينما ذهبوا، وجميعهم نالوا من البخاري ولا يزال أحفادهم إلى اليوم كذلك.

وتواصلت الحملات إلى العصر الحديث من قبل بعض الباحثين والكتاب، بسوء نية من قبل البعض، كامتداد لسابقيهم، وبحسن نية من قبل البعض الآخر، لتصويب أو تصحيح بعض الثلمات اليسيرة التي يرونها. العجيب أن غالبية الشيعة يعون تماما حين يستهدفون الإمام البخاري لماذا يستهدفونه، في الوقت الذي لا يعي كثير من حسني النية لماذا ينتقدونه أيضا، فيقعون في مصيدة أشرار الفرس الباطنيين. وإذا كان غلاة الشيعة قد طعنوا في القرآن الكريم ذاته، مدعين أن ثمة قرآنا آخر، فإن من الأسهل عليهم أن يطعنوا في صحيح البخاري، خصمهم السياسي القديم، وهو المرجعية الحديثية السنية الأولى. والآن هل وعينا الحقيقة؟!

 

زر الذهاب إلى الأعلى