آراء

ماذا فعلت الطائفية بالمجتمعات؟

مصطفى ناجي الجبزي يكتب: ماذا فعلت الطائفية بالمجتمعات؟


منذ 1948 مرّت الشعوب العربية، خصوصاً شعوب المشرق، بمرحلتين متمايزتين ومتضادتين من المناعة السياسية والأخلاقية.

تمتد الأولى لنصف عقد، ورغم الهزائم والانكسارات وانهيار المشروع العربي والخوض في عمليات سلام عرجاء وتطبيع جزئي مع الكيان بحكم الواقعية السياسية أو الأنانية القطرية، فإن الشعوب - الشعوب تحديداً - تحصنت بموقف ثابت من القضية الفلسطينية، ورسمت لنفسها خطوطاً واضحة تعرف بها الصديق من غير الصديق.

قبل نصف قرن، كانت معدلات التعليم أقل، لكن ضمائر الشعوب كانت يقظة ولم تخترقها الدعاية.

بل إن الشعوب التي انخرطت أنظمتها في اتفاقيات وتبادل تجاري سري وعلني كانت أكثر يقظة وحذراً ووعياً ومناعة. وكلما انزلق النظام أكثر نحو التقارب، تعاضدت ممانعة الشعوب أكثر. حتى التطبيع كان مرهوناً بمكاسب عملية تستعيد الأرض أو تكبح تمدد الكيان وتفتح آفاقاً مستقبلية للسلام، ولو مجرد وهم.

المرحلة الثانية، وتجلت أكثر ما تكون مع سقوط بغداد في يد النظام الإيراني واجتثاث ملامح المرحلة السابقة، هي لحظة توغل النظام الإيراني وتطييفه للمنطقة العربية واختطاف القضية الفلسطينية ودعم جماعات إرهابية لمجرد أنها شيعية لتقتل وتفتك بأهلها وجيرانها أولاً وأخيراً تحت مسمى مقاومة الكيان. حتى انهار السقف الأخلاقي واختلط العدو بالصديق وتغيرت الأولويات.

لم يعد اليوم معنى لاستباحة الأراضي العربية على يد الكيان المخضبة بالدم والجريمة. "ما سيحدث لن يكون أسوأ مما حدث على يد أذرع إيران"، هذا لسان حال من اكتوى بنار الطائفية في عواصم عربية عديدة.

بفضل لعنة الطائفية والدعم الإيراني، كان الكيان يفاخر بأنه الأقل عنفاً وأن حروبه الأكثر أخلاقية. نعم، لقد صفروا عداد حسابه من الجرائم بجرائمهم التي لا يستطيع أي خيال تصورها.

إن البعض أصبح يتصور أن الخلاص سيأتي على شكل قنابل الكيان وصواريخه. ودعاية الكيان منتشرة، تتبناها نخب ويسوقها أفراد عاديون، عرباً ومسلمين.

أما التطبيع فأصبح بلا مقابل ولا مشروط سياسياً، وخارج أي حساب للقضية الفلسطينية، إنما لمجرد احتواء التمدد الطائفي وأطماعه في بقية العواصم العربية. اليوم، العواصم العربية مجردة من أي قوة، بما في ذلك القوة الدبلوماسية لكبح هذا الجحيم. لقد فاتت حتى فرصة بناء سلام بطرق دبلوماسية. شُطبت فكرة إقامة دولة فلسطينية من القاموس السياسي.

هذه حصيلة عقود من نسف النسيج الاجتماعي وإشعال فتن الطائفية وفك عقال مجرمين لديهم ثأر تاريخي متوهم من مسلمين مثلهم.

كل دول المشرق العربي أصابتها هذه اللوثة، بما فيها اليمن التي تفكر شعوبها المنقسمة على هذا النحو. أو إن خجلت، فإنها لم تعد تكترث لما ستؤول إليه الأمور.

فمن كان يتصور أن تصب صنعاء أو الحديدة بقصف لطيران الكيان دون أن يشمل الغضب اليمن من أقصاه إلى أقصاه؟ لقد فعلها الحوثي. أمات في الناس حمية الغضب على أرضهم، واستخلط فيهم العدو والصديق.

لافتة اليوم العريضة في دول المشرق التي مسّتها لعنة النظام الإيراني وسمّ طائفيته الزعاف هي التشفي. هذه النتيجة الطبيعية لخوض معركة وطنية أو قومية بشعارات طائفية ومن خارج الدولة الوطنية، وعلى حساب السلم الاجتماعي والوئام التاريخي.

كل تمدد طائفي بالدم والكراهية والتصفية والتهجير كان النظير الموضوعي لاتساع رقعة الكيان وتغوله. ها هو الامتداد الطائفي ينكمش بأسرع مما هو متوقع، تشيّعه تغاريد المتشفيات المكلومات منه، ويترك فراغاً يملؤه صوت نتنياهو النشاز وتفاخره بأنه لا مكان في الشرق الأوسط إلا وتطاله يد كيانه.

* صفحة الكاتب

زر الذهاب إلى الأعلى