ماجستير المشاط: عنوان لصراعات متعددة المستويات

ماجستير المشاط: عنوان لصراعات متعددة المستويات - مصطفى ناجي الجبزي
ماجستير المشاط: عنوان لصراعات متعددة المستويات - مصطفى ناجي الجبزي

مصطفى ناجي الجبزي يكتب عن: ماجستير المشّاط. عنوان لصراعات متعددة المستويات 


للمدرسة وظيفة اجتماعية متعددة الأوجه، منها أنها المدخل الأول والضروري للسُّلَّم الاجتماعي.
وهي دلالة على مقدار العدالة الاجتماعية وفاعليتها.
ومن خلالها يتشكل رأسمال اجتماعي وثقافي، عُني بورديو بدراسته لكشف اللاعدالة الطبقية رغم وهم تساوي الفرص.

يدرس الناس للحصول على المعرفة، لكنهم يفعلون ذلك بوعي عملي كي يجدوا فرصًا اجتماعية.

ومن المدرسة تتكون أسس الطبقة الوسطى بحدَّيْها؛ الأعلى والأدنى.

لا تقف المدرسة عند المستويات الدنيا في المراحل التعليمية، بل تستمر إلى شهادتك الدكتوراه وما بعد الدكتوراه. ولهذه الشهادة العليا وظيفة اجتماعية كبيرة خارج إطارها الأكاديمي.

هي رمز لمكانة اجتماعية ورأسمال ثقافي يعود على شكل رأسمال مادي: تحسين راتب، الحصول على درجة وظيفية عليا، إلخ.

والطبيعي أن يسارع الناس في مراحلهم العمرية الأولى أو مضمارهم المهني الأولي إلى تعظيم الدرجات العلمية لتعظيم الفرص أمامهم.

لكن لماذا يحرص من يشغلون مناصب عليا في سلطة الحوثي على اكتساب الشهادات العليا؟

للإجابة على هذا السؤال، نحتاج أولًا إلى معرفة الحقول الأكاديمية التي يسعى هؤلاء النفر إلى الحصول على شهادات فيها، وثانيًا إلى تشريح السياق العام الذي يعلنون فيه أو يمارسون من خلاله مراسم الحصول على شهادات أكاديمية عليا.

نجد أن السنوات الأخيرة قد أفرزت ظاهرة حصول عدد كبير من السياسيين وكبار رجال الدولة وقيادات الأحزاب على شهادات عليا، وبعض هذه الشهادات من مؤسسات وهمية، وبعضها في مواضيع معرفية تعكس حقل الصراع السياسي والفكري في اليمن، سيما وأن أغلبيتها في الحقل الديني.
وكثير من السلفيين والإصلاحيين حصلوا أو التحقوا ببرامج شهادات الدكتوراه في السنوات الأخيرة، وهذه مسألة جديرة بالانتباه، وليست مجال اهتمامنا هنا، لأنها نابعة من صراع بين رجال الدين والطبقة السياسية داخل هذه المكونات.

لكن اللافت في هذه الظاهرة هو الشهادات التي تقدمها جامعة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، والتي خضعت لهندسة كلية حتى يُعاد تعريف دورها ووظيفتها وتوجهاتها، مع أنها الجامعة الأم في اليمن، والأقدم تأسيسًا، وكانت قد قطعت شوطًا في بنائها المؤسسي والأكاديمي منذ عقود.

كثير من الأطروحات التي تُناقَش تعكس الهيمنة الأيديولوجية للجماعة الحوثية أولًا، ورغبتها في توجيه الاشتغال الأكاديمي بما يناسب سلطتها وهيمنتها وترسيخهما باسم العلم ومن داخل الصروح الأكاديمية.

وهذا يعني خروج الجدل الديني والمذهبي من المنابر التقليدية كالمساجد والإعلام والمراكز البحثية ومراكز الدراسات التابعة لجماعات متعددة إلى داخل العملية التعليمية وصروحها.

الشهادات النابعة، سيما الماجستير والدكتوراه، هي حصيلة طبيعية لاستعمال القوة وإقحام الأكاديميا فيها. وغرض الجماعة إسباغ صفة أكاديمية على معتقداتها، وتكريس هيمنة مذهبية، وبناء سردية وطنية جديدة تؤلِّه مذهبًا وأئمة. أي صراع على التاريخ والذاكرة.

ثانيًا، المجال الآخر من الشهادات يأتي من العلوم السياسية والإدارة والشريعة والقانون. وهذه معارف حكم وسلطة.

لم نسمع كثيرًا أن قائدًا حوثيًّا حاز على شهادة الماجستير في الفلسفة أو علم الاجتماع، لأن هذه العلوم لا تمكِّنه من الحكم، بل تحثه على التفكير.

أي أنها شهادات وظيفية تخدم رغبة الجماعة في التمكن من أدوات السلطة وفنون الحكم ليس إلا، وليس رغبة محضة في كسب المعارف والتراكم المعرفي المتنوع.

الوجه الآخر من المسألة هو أن المعرفة أداة صراع، أو لنقل وسيلة تدافع بالمعنى القرآني. لكنها هنا أداة صراع متعدد الطبقات، كما سنرى.

وصلت الجماعة الحوثية إلى الحكم عبر البندقية. جماعة مقاتلة جيدة التنظيم، أجادت اقتناص الفرصة، ونفذت من الشروخ الاجتماعية والسياسية للنخب اليمنية حتى استولت على العاصمة وكبريات المدن. لم تكن لديها خبرة إدارة لأي منطقة، لأنها لم تكن عمليًّا تسيطر على منطقة على نحو كامل وتحكمها بطريقة ذاتية. هيمنتها كانت مسلحة وقبضة أمنية، وبقية أوجه الحياة في مناطقها تسير بموارد الدولة المركزية وموظفيها.

لكن كيف استطاعت الجماعة الحوثية إدارة المشهد وهي هكذا مفرغة من القدرات؟

استطاعت عبر شبكة تحالفات كبيرة خلقتها الجماعة الحوثية، واستندت إلى إمساكها بالقوة العسكرية وسرعة التحرك.
دخلت صنعاء بتحالف مع نظام صالح ورجاله، لكنها لم تكن تأمن جانبه. وكان تحالفها الأهم والعضوي هو تحالف النخبة المقاتلة الصعداوية مع النخبة المدنية الهاشمية في صنعاء.

إلى جانب انفراط عقد التحالف الحوثي-الصالحي، ظهرت شقوق لهذا التحالف العضوي الهاشمي، أفرزت "هواشم الطيرمانات"، وهي النخبة الأرستقراطية المدنية التي كانت الأداة الناعمة للإدارة بحكم انغماسها الكلي في مفاصل الدولة، وخبرتها الكبيرة، ورأسمالها الثقافي الهائل، و"هواشم صعدة" وتابعيهم من المقاتلة القبليين.

كان لا بد للمكوّن الصعدي أن يعزز مكانته ليأخذ زمام الأمور. كل شهادة (ماجستير أو دكتوراه) يحصل عليها قيادي حوثي صعدي تعني إزاحة محتملة لهاشمي أو قيادي من العاصمة.

لكن مع الوقت، ونتيجة طبيعية للتحالفات اللحظية والصراع على توزيع السلطة والثروة، ظهر على الأقل جناحان داخل الجماعة الحوثية تحت ظل سلطة عبدالملك الحوثي غير المرئية والفاعلة.

ازدواجية وتعدد الأجهزة والمؤسسات داخل السلطة الحوثية تترجم هذه الأجنحة. إلى جانب الأجهزة التي ورثها الحوثيون، أنشأوا أجهزة موازية أمنية ومدنية وعسكرية.
اللجنة الثورية هي النظير للرئاسة على سبيل المثال. مع هذا، هناك صراع أيضًا للاستحواذ على الأجهزة القديمة. إذًا، المشاط ليس أكثر من واجهة قياسًا بقيادات يُفترض أنها تعمل تحت إمرته، لكنها تُراكم المهام والسلطات. والطريف أن الجميع في سباق محموم على نيل الشهادات العليا أو الاشتراك في دروس في العلوم السياسية والقانون والإدارة. رغم توليهم مناصب تغص بالمهام المرهقة في ظل صراع وحرب، فإن رجال ونساء الطبقة الحاكمة الحوثية لم يُلْهوا عن حضور دروس؛ دروس عقائدية لتعزيز وإثبات الولاء لعبد الملك الحوثي، ودروس في فنون الحكم والإدارة.

داخل هذه النخبة الحاكمة، هناك فرز طبقي وفئوي وجهوي أيضًا.
تستمد الطبقة الهاشمية سلطتها من كونها سليلة أبناء فاطمة، وهذا امتياز قِبَلي يمنحها مرتبة أرستقراطية. لكن الانتماء الجهوي يخصم من هذا الامتياز لصالح هاشميي صعدة. ثم يأتي أبناء القبائل وكبار الملاك وقادة الجماعات العسكرية.

يقف المشاط على رأس السلطة التنفيذية (نظريًّا)، ويخضع لسلطة غير مرئية هي سلطة عبدالملك. لكن هناك من هو أدنى منه ويرى نفسه أرفع مرتبة (اجتماعيًّا) منه، فضلًا عن أن المشاط لم ينل من التعليم إلا القليل. وبهذا تتكون لديه عقدة مزدوجة تجاه من هم أدنى منه في الترتيب الإداري.

هل هو بحاجة إلى شهادة ترفع مقامه رغم أنه يجلس على أعلى كرسي السلطة؟ ما حاجته إلى شهادة عليا لن تفيده في ترقية وظيفية؟
الحقيقة أن الشهادة في هذا السياق ليست أكثر من اكتساب أداة جديدة لكسب الصراع الداخلي ذي الطابع الجهوي والاجتماعي داخل النخبة الحاكمة الحوثية.