تقارير ووثائق

اليمنيون والخيارات المرّة: قوى الانقضاض على الثورة

بين انطلاق الثورة الشبابية اليمنية في مطلع فبراير/شباط 2011 وانقلاب الحوثيين في 2014 والحرب المستمرة حتى اليوم، نحو 5 سنوات من الأثمان التي يدفعها اليمنيون نتيجة خيارات محدودة توفرت لهم، كما معظم الشعوب العربية خلال السنوات الماضية التي أعقبت انطلاق الثورات العربية وتردداتها.

 
الخيار الأول الذي وجد اليمنيون أنفسهم أمامه عقب اندلاع الثورة، كان الإبقاء على حكم الراقص على رؤوس الثعابين، كما أحب الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، دائما وصف نفسه وزمرته. وهو أمر لم يكن من الممكن أن يقبل به الشعب بعدما أثبت خلال أشهر الثورة أن التغيير خياره الوحيد.

 

في المقابل، لم يكن يتوفر أمام هذا الشعب سوى التكيّف، أو بالحد الأدنى القبول بباقي الأحزاب والقوى النافذة التي كانت تطرح نفسها بصفة البديل المتاح لإدارة الدولة، وخصوصاً بعدما سارعت هذه القوى إلى امتطاء الثورة وتصدّرها وفرض وصايتها عليها بعد ترددها بالمشاركة فيها في الأيام الأولى للثورة التي بدأت إرهاصاتها باحتجاجات انطلقت في أواخر يناير/كانون الثاني 2011 قبل أن يتكرس يوم 11 فبراير كموعد لانطلاقها بعد الزخم الشعبي الكبير الذي رافق تظاهرات ذلك اليوم.

 

وفي السياق، فإنّ التوقف عند الاجتماع الذي عقدته وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الحين، هيلاري كلينتون، مع الأحزاب السياسية في صنعاء، في زيارة نادرة واستثنائية، والرسالة الواضحة التي أوصلتها لهم، بحسب ما سرّبت مصادر في ذلك الحين، ومفادها أنّ الإدارة الأميركية يجب أن تجد قوى منظمة تتعامل معها في حال تصاعد الاحتجاجات لتجنّب الارتباك الذي حدث لواشنطن عقب اندلاع ثورة 25 يناير المصرية، عندما لم تجد من يمثل الثوار في الميدان وقادر على إدارتهم، يعد مفصلياً في فهم الأسباب التي دفعت هذه الأحزاب اليمنية للانخراط في الثورة سريعاً، عبر الحشد الجماهيري أولاً ثم الوصاية.

 

وعلى الرغم من أنّ تكتل أحزاب المشترك (المعارض) في ذلك الحين، كان يضمّ العديد من الأحزاب ذات الحضور الجماهيري الواسع، على غرار الحزب الاشتراكي اليمني (الذي كان يحكم جنوب اليمن قبل الوحدة)، إلا أن حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين)، كان الأكثر فهماً للرسالة. سرعان ما عمل الحزب على حجز موقعه كطرف أساسي يدير الثورة، عبر العمل للسيطرة على لجانها التنظيمية.

 

وقد اعتمد في ذلك على مرتكزات عدة، أولها جماهيريته التي يصعب إنكارها، وثانيها التحولات في المحيط العربي، وتحديدا المؤشرات على بداية عهد صعود الإخوان المسلمين للحكم في عدد من البلدان. لكن لم يكن من الممكن أن يتحقق للإصلاح ذلك لولا قوى أخرى، تشكل ركيزة الحياة اليمنية منذ عقود، وهي قوى قبلية نافذة منضوية في الحزب أو تتقاطع مصالحها معه، وتحديداً بعد إعلان شيخ مشائخ قبيلة حاشد، صادق الأحمر، القفز من مركب صالح الذي يغرق، فضلاً عن إعلان اللواء علي محسن الأحمر، حليف صالح على مدى عقود، الانشقاق وفرض نفسه ك"حامٍ عسكري للثورة".

 

كانت هذه التحولات كفيلة بتحويل الثورة الشبابية تدريجياً إلى أزمة سياسية، وتحديداً بين صالح وحلفائه السابقين، وخصوصاً بعدما طال أمد الاحتجاجات من دون أن يبدي صالح أي توجه للتنازل عن الحكم وظل متمسكاً به حتى آخر رمق. ولولا محاولة اغتياله واضطراره، مجبراً، على السفر للعلاج وما أمّنته له لاحقاً بنود المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية من حصانة تامة عن كل جرائمه وجرائم أركان نظامه بما في ذلك أقاربه، لما وقّع صالح على المبادرة وتنازل عن رئاسة الدولة.

 

تنازل مهّد لبداية فصل جديد من الحياة السياسية في اليمن. وبدا لأشهر أن هذا التنازل قد يحمل تطورات إيجابية وخصوصاً بعد التوافق على انتخاب نائب صالح في ذلك الحين، عبد ربه منصور هادي (المنتمي إلى جنوب اليمن)، رئيساً انتقالياً لليمن لعامين (كان يفترض أن تنتهي ولايته في 21 فبراير/ شباط 2014)، والإعلان عن حوار وطني لمعالجة أبرز قضايا البلاد. لكن سرعان ما تلاشت كل المؤشرات الإيجابية. فالحوار الوطني، الذي عقد في مارس/ آذار 2013، وانتهى في يناير/ كانون الثاني 2014، عوض عن أن يحل الأزمات، ساهم في تعقيدها.

 

وفي ظل تعثّر المرحلة الانتقالية، بدأت مرحلة جديدة تمهّد لفرض الحوثيين هذه المرة أنفسهم كطرف متحكّم في البلاد، مستفيدين من عوامل عدة، أولها الشرعية السياسية التي نالوها عقب المشاركة في الثورة الشبابية بعدما كان تواجدهم لسنوات يقتصر على صعدة التي خاض صالح ضدهم فيها ست حروب، فضلاً عن تصدّرهم لـ"المعارضة" من خلال موقفهم المعارض للتسويات الهشّة التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني.

 

كذلك استغل الحوثيون ضعف إدارة خليفة صالح، عبد ربه منصور هادي، للأزمات وميله إلى المهادنة لحاجته إلى عدم استعداء أي طرف قوي للاستمرار في الحكم، بعدما انتهت نظرياً الفترة الانتقالية لحكمه المحددة بعامين وتم التمديد له بحجة أن انتهاء ولايته مرتبط بانتهاء الفترة الانتقالية. لكن العامل الأبرز، كان عدم إغفال الحوثيين التحولات في المحيط العربي، وتحديداً تراجع الإخوان المسلمين من خلال سقوط حكمهم في مصر ومعاداتهم من قبل أبرز الدول الخليجية (السعودية والإمارات)، وهو ما انعكس تراجعاً في حضور الإصلاح وميله إلى المهادنة عوضاً عن المواجهة تحسّباً للأسوأ وللخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر السياسية في هذه المرحلة الحرجة للإخوان المسلمين في الدول العربية.

بدأ الحوثيون في استغلال مجمل هذه التطورات عبر تصفية خصمهم الأبرز، الإصلاح، الذي كان يمكن أن يشكل لهم نداً عسكرياً وسياسياً، وكانت البداية من المناطق الأقرب إلى معقل الحوثيين في صعدة. شكلت محافظة عمران التجربة الأولى، وهو ما ترجم بالسيطرة عليها وتفجير منزل صادق الأحمر وباقي منازل هذه العائلة المحسوبة على الإخوان، ثم انتقل الحوثيون إلى تصفية حساباتهم مع العسكر المحسوبين على الإصلاح، وتحديداً قائد اللواء 301 مدرع، حميد القشيبي، الذي تمت تصفيته بغض طرف من هادي والمؤسسة العسكرية اليمنية.

 

 

بدا أن شهية الحوثيين للتوسع بعد سقوط عمران في يوليو/ تموز 2014 لا حدود لها، فلا يوجد من هو قادر أو راغب في الوقوف بوجههم بعد تحجيم القوى القبلية البارزة وإضعاف الإصلاح وجناحه العسكري، فكانت الوجهة التالية صنعاء، وإنْ تطلّب الأمر هذه المرة منهم التخلي عن لازمة "المظلومية" التي رافقتهم منذ حروب صعدة بعدما أمّنت لهم لسنوات تعاطفاً شعبياً وسياسياً قلّ مثيله والانتقال إلى لازمة "حماية الفقراء والدفاع عنهم"، متخذين من قرار حكومة محمد سالم باسندوة رفع أسعار المشتقات النفطية (الجرعة السعرية) الذريعة المناسبة.

 

حوصرت مداخل صنعاء بدايةً في أغسطس/ آب، ثم وضعت الوزارات الرئيسية تحت الحصار، قبل أن يحل موعد 21 سبتمبر/ أيلول ليشكل التحوّل الأبرز.

 

 

سقطت العاصمة بسهولة لم يكن يتوقعها أحد على الرغم ممّا تشكله من مركزية للدولة فضلاً عن تواجد قوى عسكرية بارزة فيها بمن فيهم علي محسن الأحمر. وفرض الحوثيون على هادي، برعاية المبعوث الأممي في ذلك الحين، جمال بنعمر، توقيع ما يسمى ب"اتفاق السلم والشراكة" لتشكيل حكومة جديدة، فضلاً عن تخفيض أسعار المشتقات النفطية مقابل رفع اعتصامات الحوثيين من صنعاء ومحيطها، لكن ذلك تزامن مع نهب أغلب مؤسسات الدولة وتحديداً العسكرية. راقب اليمنيون يومها دبابات وأسلحة الجيش الثقيلة ينقلها مسلحو الجماعة عبر شوارع صنعاء قبل أن تختفي مؤقتاً إلى أن يحين دورها بعد أشهر قليلة. فما قبل هذا التاريخ، لم يكن نهاية محاولة الحوثيين جني مكاسب سياسية من خلال استخدام السلاح، بل كان مجرد "بروفا" للأسوأ الآتي.

 

بعد الحصول على "الشراكة" بقوة السلاح، أراد الحوثيون التفرّد بالحكم من خلال التعامل مع الرئيس والحكومة كمجرد منفذين لأوامر الجماعة، وعندما تمنّع هادي لم يترددوا في فرض الإقامة الجبرية على الرئيس وحكومته في صنعاء منذ 19 يناير/ كانون الثاني 2015، وبعدها بأيام معدودة في مطلع فبراير/ شباط كرّسوا أنفسهم كسلطة انقلابية عبر ما سمّوه "الإعلان الدستوري" وتشكيل "اللجنة الثورية" لإدارة البلاد رداً على إعلان هادي وحكومة خالد بحاح الاستقالة.

 

 

وهنا تحديداً كان طيف صالح قد بدأ يظهر من جديد عبر "دولته العميقة" في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، بعدما سهّل للحوثيين، من خلال رجاله، السيطرة على الدولة، وهو الذي لم يتنازل عن الرئاسة إلا مرغماً ومن دون أن يتنازل عمّا يعتبره الحق المطلق في الاستمرار بالحكم ولو من خلف الكواليس بعدما تحالف مع الحوثيين عسكرياً وسياسياً في اجتياح مدن البلاد تباعاً وإغراقها في الحرب.

 

وهي حرب لم تعد أبعادها داخلية فقط منذ أواخر مارس/ آذار من العام الماضي بعدما تمكن هادي من الخروج من اليمن إلى الرياض وبدء التدخل السعودي تحت غطاء عاصفة الحزم. ليبدو بعد 5 سنوات على الثورة الشبابية، أن اليمنيين أجبروا على دفع ثمن خيارات مرة فرضت عليهم من قبل قوى سياسية وقبلية وعسكرية انقضّت على ثورتهم تباعاً وحاولت التفرّد في حكم البلاد، من دون أن تتعلّم هذه القوى من دروس التاريخ التي أثبتت منذ الوحدة في العام 1991 أن التفرّد لا يمكن أن يجلب لليمن سوى الدمار.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى