الشرعية والمشروعية في اليمن
يختلط عند الكثيرين مفهوما "الشرعية" و "المشروعية"، الأول مرتبط بنصوص محددة ومقيدة بشروط مكتوبة بطريقة قانونية ملزمة ويتم تطبيقها بصرامة يمكن الاستناد عليها وتكون ملزمة بحيث يمكن الرجوع إليها في حال الاختلاف، في حين أن "المشروعية" ترتبط بتوافق الشرعية مع القانون وحصولها -في رأيي- على قبول المجتمع ورضا الناس وقناعتهم بالحاكم ومدى تقبله لأفعاله وقراراته، كما أنها وثيقة الصلة بقدرة السلطة الدستورية على توافق قراراتها مع مقتضيات العدالة الاجتماعية وهذه -من وجهة نظري- أشد تعقيدا وصعوبة من النصوص الجامدة.
نجد في مجتمعاتنا -الجمهورية- حكاما وصلوا إلى سدة الحكم مستندين إلى دستور مكتوب ولكنه منحهم القوة والقدرة على تغيير نصوصه مستعينين بمفسرين يطلق عليهم العامة (ترزية القوانين) ولعل الذاكرة تعيدنا إلى الصباح الذي تم فيه تغيير النص الدستوري المتعلق بعمر الشخص المؤهل لتبوؤ منصب الرئاسة في سوريا، وحينها قدم عدد من أعضاء مجلس الشعب هناك بمقترح بتغيير مادة واحدة في العقد الاجتماعي المكتوب (الدستور) متعلقة بالسن القانونية للمرشح الذي سيتولى أعلى وأخطر منصب في الدولة، وفي لحظات قليلة تمت الاستجابة لرغبة بشار الأسد وجهاز الأمن الخاص ودائرته العائلية وبموجب التعديل تولى رئاسة الجمهورية وأصبح حينها بذلك رئيسا منتخبا تعترف به الأمم المتحدة والجامعة العربية والمنظمات الدولية.
كان بمقدور بشار الأسد أن يحول دستورية انتخابه وشرعيته إلى قبول شعبي بالأمر فيصبح متلحفا بالشرعية الدستورية والمشروعية، لكنه أصر على الأولى وتجاهل الثانية فصار مآل سوريا ما هو عليه الآن، وإذا التفتنا إلى غير بلد عربي -جمهوري- فإن الحال لا يختلف كثيرا، بل قد نجد أنفسنا أمام حالات يتم فيها انتخاب رئيس في إطار الدستور القائم والقوانين النافذة وفجأة تنقلب عليه القوى المتحكمة بالسلاح فتبعده عن موقعه بدعوى (المصلحة العليا) وهو تعبير شديد الغموض ولا يمكن تحديده في قضايا بعينها. سأتخذ من وطني اليمن مثالا ثانيا محددا آخرا لمفهومي لمبدأي "الشرعية" و "المشروعية".
في 21 فبراير 2012 تمت مبايعة الرئيس عبدربه منصور هادي لمنصب الرئاسة عبر تصويت شعبي شارك فيه أكثر من سبعة ملايين مواطن يمني، وتم ذلك بموجب الدستور القائم والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية اللتين نصتا على أن يبقى في موقعه لعامين فقط، إلا أن الأوضاع الداخلية جعلت من إجراء انتخابات تنافسية لم تكن جاهزة لذلك، ومع أن الدستور الذي كان يحكم البلاد (ومازال) والذي تم تنصيب الرئيس بموجبه كان به مخارج كثيرة تسهم بوضع الأمور في سياقها الطبيعي وذلك بإجراء تعديلات على عدد من النصوص تتيح إما استمرار الرئيس أو استبداله.
ما حدث هو أن كل هذه الخيارات نحيت جانبا ودخلت البلاد في آتون صراع بدأ سياسيا لكنه انتهى بعملية انقلابية قامت بها ميليشيات أنصار الله (الحوثيين) وتم اعتقال الرئيس ورئيس الحكومة حينها الأستاذ خالد بحاح، وتم تعليق العمل بالدستور واستبداله بإعلان دستوري منح الجماعة كافة صلاحيات إدارة المؤسسات بعيدا عن القوانين والتقاليد الإدارية، ولم يسلم أي جهاز من هذا العبث وتجريف الوظائف العليا وخصوصا في المواقع الإيرادية، والأكثر إزعاجا هو احتكار فئات بعينها بصرف النظر عن الكفاءة وإنما اكتفوا بالروابط المذهبية والمناطقية.
اليوم نجد أنفسنا في مواجهة بين "الشرعية" وقوة انقلابية تمارس سلطة "أمر واقع"، وصارت الاثنتان في مواجهة مع المواطنين ومحل انتقاد لاذع تجاههما، فالأولى لا تعي أن الشرعية ليست مجرد شعار ترفعه في مواجهة القوة الانقلابية ولا تكفي كغطاء تسترد به سلطتها، لأن الأمر يتعدى ذلك ويتطلب ممارسة لسلطاتها على الأرض وتتحمل مسؤوليتها المعنوية والمادية على أرض الواقع، بينما سلطة الأمر الواقع التي يمارسها أنصار الله (الحوثيين) لا تمتلك أي سند دستوري يمنحها حق العبث في كيان الدولة والمجتمع ولم تتمكن خلال أكثر من عام أن تتجاوز عقدة الشرعية رغم كل المحاولات التي بذلتها ومرد ذلك خلطها الناجم عن عدم إدراك ومعرفة بالفوارق الجوهرية بين مهام الدولة وأعمال السلطة السياسية والإدارية.
بين هاتين القوتين العاجزتين يرزح المواطن اليمني تحت قهر العجز على اختيار البدائل التي يستطيع أن يمنحها شرعية مسؤولة ومشروعية يقبل بها.