آراء

تعطيل البنك المركزي دون بديل قرار أرعن

تسعى الحكومة اليمنية إلى تعطيل البنك المركزي بحجة سيطرة الحوثيين ونهبهم لأمواله، وإذا كانت بعض حجج الحكومة مقبولة بعض الشيء؛ إلا أن السؤال الذي لا تستطيع الحكومة الإجابة عليه هو: ما هو الجهاز البديل الذي سيقوم بدور البنك المركزي في حال تعطيله؟

 

يتولى البنك المركزي صرف رواتب أكثر من مليون ونصف المليون موظف، يعولون ما لا يقل عن ثمانية مليون إنسان، ويتولى عملية تحويل المبالغ لواردات السلع الضرورية لليمن من الخارج، وهذه الوظائف حيوية لمنع المجتمع اليمني من الانهيار وتعريضه للفوضى الشاملة والمجاعة. وعلى هذا الأساس؛ فإن تعطيل البنك المركزي، كليا أو جزئيا، سيؤدي إلى كوارث ليس مهما حينها الوقوف حول من المسئول الأصلي أو الفرعي عنها.

 

يعتقد بعض منظري تعطيل البنك المركزي أن المسألة لا تتعدى توقف صرف رواتب الموظفين لشهر أو عدة أشهر يتم بعدها حل المشكلة وتعويض الموظفين بصرف رواتبهم المتوقفة. غير أن المشكلة ليست على هذا النحو الساذج؛ فتداعيات توقف رواتب جميع موظفي الدولة لشهر واحد لا يمكن تخيلها؛ فالقصة هنا لا تتعلق بأن رب أسرة لا يجد في نهاية الشهر راتبه، ويمكنه أن يدبر حالة حتى يفرجها الله، ولكنها تتعلق بتوقيف عجلة الاقتصاد عن الدوران وهو ما يعني كارثة بكل المقاييس. فرواتب موظفي القطاع الحكومي هي المحرك الرئيسي لعجلة الاقتصاد اليمني بشكل عام وفي زمن الحرب بشكل خاص، فالمائة مليار ريال يمني –على سبيل المثال- والتي نفترض بأنها إجمالي رواتب الموظفين الشهرية، تتحول بعد أيام إلى ما يقل قليلا عن مائة مليار أخرى بعد أن يتم إنفاقها في سلع وخدمات، لنجد في نهاية الشهر أن المائة مليار قد تحولت إلى ثلاثة أضعاف أو أربعة تبعا لما يسمى في الاقتصاد بالميل الحدي للاستهلاك، فكلما كانت نسبة هذا الميل عالية وسريعة ازدادت عملية مضاعفة الدخول والعكس.

 

ولتوضيح الصورة أكثر دعونا نتخيل إنفاق موظف يمني لراتب ضئيل في زمن حرب كما يعيشه الموظفون اليمنيون حاليا، والذي أجزم بأن أكثر من 90% منهم لا يدخرون شيئا منه، وأنهم ينفقونه خلال أيام. فالموظف النموذجي اليمني ما أن يستلم راتبه فإنه يقوم بتسديد الإيجار وديون البقاله والديون الأخرى، بحيث لا يتبقى له بعد أيام شي من ذلك الراتب، ويتحول ذلك الإنفاق، إلى دخل جديد لصاحب البقالة، وربما المقوت، والمؤجر والدائنين الآخرين واللذين يقومون بدورهم بإنفاق ما استلموه وتسديد التزاماتهم، وهكذا تدور العجلة الاقتصادية في الدولة.

 

وأي توقف مفاجئ للعجلة يؤدي إلى شلل تام وعجز عن استهلاك السلع الضرورية لدى الغالبية العظمى التي لا تملك مدخرات جاهزة.

 
يتم الحديث عن أن الحكومة ستنقل البنك المركزي إلى مدينة عدن، وهذا الأمر غير ممكن بالسرعة المطلوبة على الأقل، وهناك أسباب كثيرة تجعل من هذه العملية غير ممكنة من أهمها:
عدم تحول عدن إلى عاصمة مؤقتة للجمهورية اليمنية؛ فعدن الحالية أصبحت مدينة مُسخ بدون هوية سياسية واضحة، وهي في ذلك تشبه ملابس هاني بن بريك (حاكم عدن الفعلي) أثناء تأديته اليمين الدستورية أمام الرئيس بعد تعيينه وزير دولة لشئون ؟؟؟؛ فمسئولي المدينة، الفعليين والرسميين، لا يعترفون بالجمهورية اليمنية، والأعلام التي ترفرف على المراكز الحكومية ترمز لدولة انتهت في عام 1990، فيما يقوم المسئولون في هذه المدينة بديباجة قراراتهم تحت أسم دستور الجمهورية اليمنية التي لا يعترفون بها. وكل هذا يشير إلى مدينة تعيش حالة من الفوضى السياسية والإدارية.

 

والأمر الأخطر من كل ذلك؛ أن العاصمة المؤقتة تفرض قيودا على دخول ما يزيد عن 80% من سكان الدولة التي تدعي بأنها عاصمة مؤقتة لها. وفي وضع كهذا لا يمكن أن يعمل البنك المركزي، على افتراض تم تأسيسه.

 

البنك المركزي، ليس سوبر ماركت أو مطعم مندي يمكن إنشائه في أيام، فهو مؤسسة راسخة عمرها عشرات السنيين، ولا يمكن تأهيل موظفين، وتأسيس قاعدة بيانات، وتوفير أجهزة وآليات لعمل البنك خلال شهر أو عدة أشهر في ظروف عادية، فكيف هو الحال في ظروف الحرب والفوضى السياسية والأمنية التي تعيشها مدينة عدن.

 
استمر البنك المركزي في صنعاء بإرسال رواتب كل أو معظم موظفي الدولة إلى جميع مناطق اليمن، فهل سيقوم البنك المقترح في عدن بنفس الدور؟ فعلى سبيل المثال هل سيقوم بإرسال مخصصات وزارة الدفاع والداخلية التي يسيطر عليها الحوثيين حاليا؟ أم أنه سيرسل فقط رواتب الموظفين الذين لا يدينون للحوثيين؟ وكيف له أن يقوم بذلك؟.
إضافة إلى ذلك هناك عدم ثقة في حكام عدن، والكثير من الوزراء؛ فالانطباع العام عنهم أنهم لا يمتلكون الكفاءة والرغبة والمسئولية بإدارة مؤسسة حساسة كالبنك المركزي، والتعامل دون تحيز واضح تجاه اليمنيين في المناطق الشمالية.

 
من المبررات التي ساقتها الحكومة لتعطيل البنك المركزي الإدعاء بأن الحوثيين نهبوا الاحتياطي من النقد الأجنبي، وهي إدعاءات تعرف الحكومة أنها غير صحيحة، ولا يصدقها العالم الخارجي المطلع على حقيقة الأمور وآلية التصرف بالاحتياطي من النقد الأجنبي، والتي تتم تحت سمع وبصر هذا العالم، ولا يصدقها سوى الجهلة في اليمن وبعض مدعيي التحليل السياسي والاقتصادي الذين يكررون اتهامات الحكومة ببلاهة ضمن ما يعتبرونه حربهم المقدسة على الحوثيين والرئيس السابق.

 
وعدم نهب الحوثيين للاحتياطي لا يرجع إلى نزاهتهم ، فهم قد قاموا بنهب وسرقة ما هو دون ذلك، ولكنه يعود إلى عدم قدرتهم الفعلية على النهب؛ فالاحتياطي النقدي لليمن ليس كما يتوهم البعض سيولة من العملات الأجنبية في خزانة البنك المركزي، ولكنها في معظمها عبارة عن ودائع في بنوك أجنبية وسندات خزينة أمريكية، وتسييل هذه الأرصدة تتم وفق معايير وضوابط محددة تجعل من الصعب القيام بها من قبل الحوثيين.

 
البنك المركزي ليست خزنة دكان يستطيع الحوثيين الاستيلاء عليها بمجرد السيطرة على حراسة البنك؛ فهو مؤسسة مرتبطة بشبكة ضمن نظام دولي تخضع لرقابة من قبل مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي وهي الرقابة التي أصبحت رسمية بعد أن بدأت الحكومة برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 1997.

 

أن تناقص الاحتياطي من النقد الأجنبي حدث بسبب قيام البنك المركزي بتغطية قيمة فاتورة المواد الأساسية التي استوردتها اليمن خلال الفترة الماضية، ففي الظروف العادية كانت هذه الأموال يتم تعويضها من مبيعات اليمن من النفط والغاز والمساعدات الخارجية وغيرها من المداخيل الحكومية بالعملة الصعبة، ونتيجة للحرب توقفت هذه المصادر وأصبح البنك يصرف دون تعويض، وهو ما أدى إلى تناقص الاحتياطي خلال العامين الماضيين من ما يزيد عن أربعة مليار دولار إلى ما مليار دولار تقريبا (توقف البنك المركزي منذ نهاية 2014 من إصدار تقاريره الشهرية، ومن ثم ليس لنا إلا تخمين الأرقام وفق ما يتم تسريبه من أرقام)

 
لقد كان من الممكن للحكومة أن تقوم بهذه الخطوة ضمن رؤية وأهداف قابلة للتحقق ومن فترة سابقة، وبالتحديد بعد أن سيطرت على مدينة عدن. وأهم ما كان عليها أن تقوم به ضمن هذا السياق؛ تحويل مدينة عدن إلى عاصمة فعلية للجمهورية اليمنية من خلال استقدام قوات عسكرية من جميع سكان اليمن للسيطرة على عدن وقمع كل القوى الانفصالية أو الإرهابية أو غيرها، وفتح المدينة لجميع سكان اليمن، وإنشاء هياكل بديلة لأجهزة الدولة التي يسيطر عليها الحوثيين في صنعاء، عن طريق استقدام موظفي الدولة من صنعاء وغيرها من مناطق اليمن. وهذا الأمر لو تم منذ ذلك الحين لأصبح من الممكن، ومن المقبول نقل البنك المركزي إلى عدن وتعطيله في صنعاء.

 
أن إيضاح هذه الحقائق لا يعني الدفاع عن الحوثيين بقدر ما هو تبيان لحقائق، وتنبيه للحكومة وتحذيرها من عواقب قرار من هذا النوع لكونه شكل من أشكال العقاب الجماعي وليس له من جدوى سياسية أو عسكرية، وقد يتحول إلى جريمة ضد الإنسانية في حال أدى إلى انتشار المجاعة. فالعالم الخارجي والكثير من اليمنيين سيرون في هذا القرار وسيلة ضغط لتحقيق الأهداف التي عجزت الحكومة من تحقيقها بواسطة العمل العسكري.

 
وحتى هذه الأهداف فإنها غير مضمونة التحقق؛ فالحكومة تتمنى أن يؤدي تعطيل البنك المركز إلى زيادة الضغوط على الانقلابيين، وتحميلهم مسئولية النتائج، ومن ثم استسلامهم. إلا أن هذه العملية لن تسير بالشكل الذي تتوقعه الحكومة؛ ففي الكثير من التجارب أدت سياسات الحصار إلى تقوية السلطات المسيطرة، كما هو الحال مع كوبا وكوريا الشمالية وإيران، والعراق أيام صدام حسين؛ ففي هذه الدول ازدادت قوة السلطات فيها نتيجة الحصار ولم تضعف. فكل الماسي التي نتجت عن الحصار تم تحميلها للطرف الذي فرض الحصار، فيما الموارد الخاصة بالسلطات الحاكمة لم تتأثر كثيرا، خاصة لأجهزة القمع والسيطرة.

 
وفي الوضع الحالي لليمن نجد أن الحوثيين لديهم صندوق، أو صناديق خاصة، موازية للنظام المصرفي الرسمي؛ فخلال الفترة الماضية أنشئوا ما يشبه البنك المركزي الخاص بهم يتم تحويل الأموال الذي تأتيهم من الخارج، وعوائد السوق السوداء، وخاصة تلك المتوفرة من مبيعات الوقود، وغيرها من المصادر إلى هذا البنك أو البنوك. ومن ثم فإنهم سيستمرون في الإنفاق على أنشطتهم الخاصة، وعناصرهم؛ بينما بقية أفراد المجتمع سيعرضونه للكارثة ويحملون الحكومة المسئولية عنها.

 
أن ما يثير القلق من قرار تعطيل البنك المركزي أنه قد يكون ضمن الخطوات الانفصالية التي ينتهجها هادي وفريقه لترتيب أوضاع الجنوب، كما قال حسين عرب وزير الداخلية، وفقا لما أوردته صحيفة الأمناء العدنية قبل أيام. وفي حال كان الأمر على ذلك النحو؛ فإن هناك أسباب إضافية لرفض هذا القرار ومقاومته، كونه يعد جريمة لتمزيق الدولة، والتعمد في إلحاق الأضرار المباشرة بالغالبية العظمى من السكان.
إن شرعية الحكومة لا يمنحها شيك على بياض لتقوم بما تريد؛ فالشرعية الحقيقية مقرونة بالإحساس بالمسئولية تجاه كل اليمنيين بما فيهم الذين يقاتلون في صفوف خصومها.

 
في حال أحسنا الضن بالحكومة فيمكن القول بأن تعطيل البنك المركزي يعد عمل ساذج نابع عن سلطة لا تتمتع بخيال أو حس مسئولية، وهو ليس إلا سلوك أرعن يضاف إلى سلوكها النمطي في التعامل مع الشعب اليمني والذي كان من أخطرها تحالفها الأهوج مع الحوثيين وتسليمهم العاصمة، والدولة اليمنية.

زر الذهاب إلى الأعلى